Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
لغة الخوف وانعكاساتها
على تقنيات السرد في الرواية السعودية(1)
نورة القحطاني

 

(نكره دائمًا الشيء الذي غالبًا نخافه)

وليم شكسبير

(ما من مخلوق بلا مخاوف) يؤكد علماء النفس أنه حتى أشجع وأقوى شخص، لا يمكنه أن يدعي أنه بلا مخاوف، ففي أعماق كلّ منا حتمًا خوف ما، هذا الخوف يسجّله عقلنا الباطن في لحظة ما، ويختفي في مساحة مظلمة، لا تضاء إلا بعامل مساعد، أو فعل شرطي ونخاف.

أصبح الخوف ثقافة نتناولها بيننا وننقلها إلى غيرنا، فهو منتج ثقافي نتلقى أولى جرعاته داخل محيط الأسرة، وللمرأة النصيب الأكبر منه، فالخوف من العيب ووجوب الخضوع وأثر الطاعة العمياء تسيطر علينا، فنكبر ونحن داخل مناخ الخوف من كل شيء، لنكون مشبعين بثقافة الخوف التي تكثر في المجتمعات المغلقة تحت أنظمة معينة من الحياة الثقافية، والاجتماعية، التي تمارس ضغطًا على الكاتب والكاتبة، فيعاد إنتاج هذا الخوف في كتاباتهم ضمن فجوات التعبير والكلام، وقد يظهر بشكلٍ عكسي متمرّد ومعارض للسائد المألوف.

بعد متابعة كثير من أخبار المبدعين تبين أنّ مصادر خوفهم متعددة : هناك من يخاف من الطبيعة، ومنهم من يخاف السلطة السياسية، أو الأب المتسلط، أوالسلطة الدينية، والاجتماعية، ويؤثر هذا الخوف سلبًا و إيجابًا على كتاباتهم، فقد يشكل حجابًا يحول بينهم وبين قول كل ما يريدون، ويسيطر عليهم هاجس الرقيب فيغلب على أسلوبهم التورية أو الرمز والإغراق الشديد في الإلغاز والتعتيم، ولكنه قد يحرض بعضهم على التحدي فيصبح مصدرًا للتأمل، والاهتمام بكل ما هو عميق وغامض؛ ليحاول النفاذ إلى ما وراء ذلك الخوف، وفي هذا يقول القاص المصري محمود البدوي: (عندما تنتابني ساعة الخوف من شيءٍ مجهول، أفكر في كتابة قصة وبعد كتابة القصة أشعر براحة لاحدود لها).

وإذا نظرنا إلى أثره على نتاج بعض الأدباء وجدنا مثلاً أن الخوف من الرقيب هو الذي دفع (فيرجينيا وولف) إلى الابتعاد عن الكتابة عن الجسد، وجعل (جورج إليوت) تكتب تحت اسم رجل، ومثلها (جورج صاند)، ودفع أيضًا الخوف من الفشل بعض الأدباء إلى العزوف عن نشر أعمالهم، كما أنّ آخرين خافوا على مراكزهم الاجتماعية ووظائفهم المرموقة لو نشرت أعمالهم، مما يؤكد أثر المحيط الثقافي والوسط الاجتماعي على نفسية الأدباء وإبداعهم، ويقر أكثرهم أنه سيكتب أفضل لو تمتع بقدرٍ أكبر من الحرية، بل إن هناك آراء تؤكد أن العمل الأدبي إسقاط من الكاتب لبعض عقده و أزماته .

من هنا نتساءل: هل ينعكس الخوف على الكاتب؟ وهل يؤثر تأثيرًا إيجابيًا أم سلبيًا على إبداعه؟ ومم يخاف الكتّاب؟ ثم كيف ظهرت دلالة الخوف داخل العمل الأدبي ؟

إذا تتبعنا الإنتاج الروائي السعودي خاصة في الفترة التالية لحرب الخليج لوجدنا أن ظهور مفردة الخوف يختلف من رواية لأخرى، كما أن ملابسات الخوف تكمن في أكثر من بعد منها : ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي، ولعل مظاهر الخوف الاجتماعي أكثرها بروزًا، فثقافة المجتمع المحكوم بالعادات والتقاليد تحد الكاتب والكاتبة من الانطلاق في التعبير عن رغباتهم، ورؤاهم، وأفكارهم، ويظل هذا الخوف مضمرًا وكامنًا في اللاوعي تدفعه لحظة البوح إلى السطح، من خلال إشارات تتولد عنها دلالات تحرّك كثيرًا من القضايا المسكوت عنها، يعالجها الكاتب بالتخفي وراء الكلمات للحديث على لسان شخصيات ورقية، تمنحه القدرة على التصريح إنما بمفردات تشي بشعور الخوف الكامن في أعماق الكاتب، بسبب ما يعانيه في الواقع من مخاوف وهواجس تقيد حرية فكره.

وجاءت هذه المخاوف واضحة في بداية الروايات ومقدّماتها، سواء بشكلٍ مباشر أو رمزي، فيلحظ قارئ روايات عبده خال مثلا لغة الخوف في مفرداته ودلالاتها، فرواية(الموت يمر من هنا) و (فسوق) و(نباح) و (الأيام لا تخبئ أحدًا) و (مدن تأكل العشب) ظهر فيها دال الخوف من العنوان العتبة الأولى للنصوص، فالموت، والفسوق، والنباح، كلها مفردات تنتج الخوف وتبعث مشاعره في النفس، حتى إذا تعمقنا داخل تلك النصوص وجدنا خوفًا متعدد الجوانب، نحس بهذه المخاوف أيضًا في المقدمات، فيقابلنا خوف الكاتب من ردة فعل المجتمع في رواية(القارورة) قبل الدخول إلى النص يقول:(إنّ أيّ شبه بين أشخاص وأحداث هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين وأحداث حقيقية هو مجرد مصادفة) (1). ويتشكل معجمه اللغوي من مفردة الخوف ومرادفاتها، كما أنّ بناء المشاهد ووصفها كان مجسّدًا لهذا الهاجس الذي انعكس في نصوصه.

وربما وجب الحديث عن ظاهرة مهمة تشي جهارًا بالخوف الذي يسكن أعماق بعض كتاب الرواية السعودية، يتشكل قبل الشروع في كتابة الرواية أي ما قبل البدايات، وهي الكتابة تحت اسم مستعار خوفًا من ردود فعل المجتمع، فصدرت رواية (الآخرون) لصبا الحرز، ورواية (الأوبة) لوردة عبد الملك، ورواية (القران المقدس) لطيف الحلاج، ورواية (غير وغير) لهاجر المكي، ورواية (حب في سجن الكرامة) للمهاجرة، ورواية (عيال الله) لشيخ الوراقين.

وأغلبها روايات حملت جرأة كبيرة في مناقشة قضايا مسكوت عنها، كما أنّ لغة الجسد جاءت بشكلٍ مكشوف لم يعتد عليه المجتمع المحافظ، فكان الحل الوحيد أن تنشر الروايات من دون أن تحمل الاسم الحقيقي لكاتبها أو كاتبتها خوفًا من الرقيب، ومن تهمة الربط أحيانًا بين شخصية بطل الرواية وشخصية مؤلفها الحقيقي، لكن هذا الخوف -كما قلنا سابقًا- قد ينعكس إيجابًا على مستويات السرد في الرواية، فرواية (بنات الرياض) اعتمدت في سرد الأحداث على رسائل بريدية ترسل بواسطة البريد الإلكتروني ولا تحمل اسم كاتبتها، وهذا ينبئ عن تردد وخوف من النشر باسمها الصريح، وقد صرحت الكاتبة بهذا التردد الذي تعيشه في نهاية روايتها وخوفها من تسميتها رواية، وبرغم ما تعرضت له من نقد إلا أن خوفها أنتج شكلاً سرديًا غير مألوف في الرواية السعودية، فاستخدامها لتقنية الرسائل الإلكترونية يعدّ تطورًا في الشكل الروائي.

وتجدر الإشارة إلى نوع آخر من الخوف تجلى في توظيف الرمز الأسطوري بسردٍ مختلف انفردت به رجاء عالم في رواياتها، فجاءت لغتها مكثفة توغل عميقًا في الرمزية المنغلقة، فهي توحي أكثر مما تصرح، تحمل ألفاظها دلالات غامضة لا يستطيع فك شفراتها إلا القارئ المتخصص، وهذا نوع من الحجاب فرضته الكاتبة على سردها خوفًا من تعرية الذات، وكشف أسرارها أو ربما كان هروبًا من الواقع المرير الذي تعيشه الكاتبة في مجتمع سلطوي، كما أنّ تحيّز اللغة للرجل دفعها إلى نوع من التحدي بتسوير روايتها بلغة عالية المستوى توحي بذلك التحدي في مقدمة إحدى رواياتها فتخاطب القارئ: (ستأتيك حكايتي في متن جار وختم محوّط، أولهما وتاليهما باطن، والظاهر حديث والباطن قديم،...) (2)

ولكي تتضح هذه الظاهرة سوف نتناول في هذا الجزء نماذج من الرواية السعودية برز فيها دال الخوف، لنلاحظ انعكاسه على تقنيات السرد داخل النص، وهذا الاختيار لا يقوم على أساس دراسة استقصائية شاملة، قدر ما يقوم على تقصي مفردات الخوف ودلالاتها، وأثر هاجس الخوف على السرد .

والكاتب يوسف المحيميد كغيره من الروائيين السعوديين كتب الرواية في مجتمع محافظ تحكمه موروثات ثقافية خاصة، فجاءت روايته (فخاخ الرائحة) معبرة عن معاناة الإنسان الضعيف وعجزه أمام القوة، و ناقشت قضايا اجتماعية هامة كوضع اللقيط في مجتمع تسيطر عليه العنصرية القبلية، ولحساسية هذه القضايا تفوح رائحة الخوف من العنوان الذي يحمل دلالة محفزة على الخوف فكلمة (فخاخ) جاءت جمعًا لتعبر عن مخاوف متعددة ستواجه القارئ عند دخوله إلى النص، وتبدأ الرواية بسؤال استفهامي: (إلى أين) (3) ، ليقابلنا بطل الرواية هاربًا من المدينة إلى مكان مجهول، حتى اسمه (طراد) يوحي بأنه مطرود، هذه المفردات تحفز على الشعور بالخوف الذي يشعر به السارد من المجهول، ونمضي معه لنكتشف سر خوف البطل (أذنه التي يخفيها بشماغه خوفًا من اكتشاف الناس لسره) (4) إذًا هو خوف داخلي يسببه شعوره بالنقص، وثقافة القبيلة التي اضطهدته وانتقصت من شأنه لأنه عمل ساعيًا في وزارة، وأصبح يخاف من الناس بسبب أذنه المقطوعة (مرات كثيرة يحاولون سحب شماغي الذي أتلثم به، وهو الشيء الذي أحتمي به عن الناس والفضوليين، فأتشبث به بكلتا يديّ، كي لا ينزعوه عن وجهي) (5) فكلمة (أتشبث) دالة على خوف البطل من عقدته، وتمسكه بالشماغ بحث عن وسيلة حماية لسره، وهذا ما دفعه إلى الهرب من مواجهة الناس بعد انكشاف سره، والهرب فعل ينتجه الخوف، والشخصية الخائفة شخصية انهزامية جاءت لغتها تعلن حزنها وعجزها، عمد الكاتب فيها إلى استغلال إمكانات اللغة، بانزياح الكلمات عن مستواها المعجمي الحرفي ذي الدلالة الواحدة، فاستعملها استعمالاً إيجابيًا، بحيث تغدو الكلمات علامات تحمل دلالات متعددة، وظف لعرضها مستويات تعبيرية متداخلة : كالذاكرة، والمنولوج، والهواجس، والأحلام.

***

1) يوسف المحيميد، القارورة، الدار البيضاء، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006م، ص 5.

2) رجاء عالم، حبّى، الدار البيضاء، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000م، ص: 5.

3) يوسف المحيميد، فخاخ الرائحة، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، ط 2، 2006م، ص: 9.

4) المصدر السابق، ص: 10.

5) السابق، ص: 13.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة