Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
(صار الهوى جازاني)!!!
أشجان هندي

 

حبات فل أبيض من صدر الملتقى الشعري الثالث في جازان..

(أهلاً ملايين) من بياض فل جازان وقد غادرتها بعد مشاركتي في الملتقى الشعري الثالث والعيونُ بالدموع تفيضُ. جازان أبكت روحي، سكبت فيها حزنًا وحنينًا شفيفاً وأعادتني للكتابة.

حين تدخل جازان للمرة الأولى تشعر أنك أمام بلورة سحرية صغيرة ملقاة على البحر دون عناية وعجوز متعبة طيبة (تكشح) الودع (كما يقول الجازانيون) على صدر ساحل وديع يتنهّتُ في طرب من تعب قديم. وصلت جازان وأنا مشفقة على جسدها الصغير، كيف سيحتمل ويحتمل معه نادي جازان كل هذا العدد من الأسماء التي دعيت للملتقى من جميع أرجاء المملكة! ومنذ الدقائق الأولى من وصولي أدركت أن هذا الجسد الغض النحيل الوديع تدعمه عظامٌ صلبةٌ قويةٌ مكّنته من حملنا جميعاً؛ فحملنا ولم نقع من بين أحضانه حين تشبّث بنا بحب وسار فسرنا معه بفخر كبير.. وتشرفنا أن شهدنا وشاركنا مع ناديه الأدبي في تأسيس ما كان يُعرفُ بالمستحيل.. ولا مستحيل مع روحِ الإنسان الجازاني العالية. شهدنا إضاءة شعلة وعي في سماء نادي جازان.. أشهد للتاريخ أنها انطلقت من هناك.. من جنوب الحب. وإن لحقت دربك بقية نوادي المملكة بخطوات مماثلة - وهذا ما نتمناه جميعاً - فستظل سابقاً يا نادي جازان، ويبقى غيرك تابعين... أقولها وإن غضبوا مني.. وللبيت دوماً ربُ يحميه.

على ضيق ذاتِ اليد أغرقتنا جازان في كرمها.. وجازان ممتلئة النعمة بإنسانها، وشامخة بروحه العالية. أنت فيها لا تجوعُ ولا تظمأ بل تذوب في حلاوة سكر أرواح أهلها. وأنت فيها لا تحزن..لا تمِل ولا تُمل حين تفتح عينيك على صباح وداعتها الطيبة مغموسة في رائحة البعيثران والفل والكادي، أو حين تسامر رياحين وجعها الصامت في جلجلة وأنت تنظر إلى أجساد الراقصين النحيلة حين تثب عالياً بفتنة محمومة، ثم تحط على الأرض منهية مشهد الرقص بعرق واثق وابتسامة خجولة.

جازان وناديها الأدبي أهدوا الوعي والثقافة والوطن في المقام الأول قلادة بيضاء محتشدة بالفل الجازاني فهلاّ شكرناهم؟ اشكرهم يا وطن.. أرجوك؛ فإنهم من سلاف حبك يشربون وإنهم يحبونك. ضخ يا وطن في قلب جازان الحياة وفي يدها النعمة فإنها وفية وأنت كريم.. وإنها تحبك.. وأنا أحبك.

سيدي أبو متعب.. حفظك الله لنا: يشهد الله أني أحبك وأن جازان تحبك فاسمح لي مقامكم أن أبلغك حبها الذي تعلمه.. اسمح لي أن أبلغك حب أطفال لم يروك ولكنهم يحبونك.

سبعة أطفال صادفتهم يجلسون ليلة ختام الملتقى على عتبات الفندق الخارجية حيث أقيمت فعاليات منتدى جازان.. سبعة أطفال أكبرهم لا يتجاوز التاسعة من عمره المتعب.. سبعة أطفال حفاة يمسحون أقدامهم الصغيرة بمرمر درج الفندق ربما رغبةً في التمسح بالنعمة وتقرباً من الأماكن التي يتصورون أنها باذخة في ثرائها كأعتاب الفنادق ومن فيها. السبعة يتلصصون من خلف زجاج باب الفندق وينظرون إلى من في الداخل بدهشة كأنهم يشاهدون فيلماً سيحكون عنه حتماً لرفاقهم صباح الغد. خرجت إليهم مبتسمة اقتربت منهم فتحلقوا حولي وجلسنا معاً على الأعتاب. أخرجت كاميرا صغيرة من حقيبتي وطلبت منهم أخذ صورة جماعية.. فرحوا فرحاً محلّقاً وابتسمنا جميعاً للصورة. انشق قلبي مرات: في المرة الأولى حين رأوا الكاميرا فسألوني بفضول وبلكنة جيزانية محببة: (هذي هيه الكاميرا؟) قلت: نعم، هكذا هو شكل الكاميرا، ثم طلبوا مني أن يصوروا بها هم ليجربوا استخدام هذا المنجز الحضاري الطليعي الرهيب!! الذي سمعوا عنه فقط، ولكنهم لم يروه. وأنا أعيد الكاميرا إلى الحقيبة لمحوا أوراقاً نقدية متناثرة فيها، فسألوني ورؤوسهم تغطس تقريباً داخل الحقيبة: (هذي فلوس سعودية؟) قلت: نعم. قالوا: (نشوفها؟!).. أخرجت ورقة تحمل وجه سيدي - كما يحلو لي أن أسميه - فقالوا: (والله صحيح فلوس سعودية..هذا الملك عبدالله؟) قلت: نعم.. هذا الملك عبدالله. تحبونه؟ قالوا: (إيوا نحبه هو جا عندنا في جازان) ثم أضاف أحدهم: أنا شفته في بيت صالح في التلفزيون؛ فرد أكبرهم موجهاً الكلام لي: (إيوا شافه في بيتي.. أنا صالح.. أصلاً هذا الولد يتيم وما عنده تلفزيون). رد الولد وكفه تغطي غصن وجهه وكأنه يحاول تخفيف عقوبة جريمته وهو يدلي باعترافه: (إيوا أنا يتيم). قلت له: لا أنت لست يتيماً.. (إنت أبوك الملك عبدالله) قال: (اللي في الصورة؟!) قلت: (اللي في الصورة وفي القلب). أقسم بخالق الأكوان أن قلبي انشق حينها، ووالله لو كنت أستطيع إدخالهم جميعاً فيه لفعلت.. غرقت في حزني وهم يسلمون علي منصرفين. قلت: (ما معاكم سيارة ولا أحد كبير؟ كيف تروحون الآن وحدكم؟!)، قالوا بتحد وهمة عالية: (نروح.. نقدر.. شفتي هاداك أم جبل نحنا بيتنا وراه)!!! نظرتُ والجبلُ بعيدٌ فسال همي ومنعتهم من الذهاب إلا في سيارة أجرة أوقفها لهم أنا لتوصلهم إلى منازلهم، وبين شد وجذب تفلتوا من بين يدي كالماء وتقافزوا في الشارع يركضون.. صحت بهم: تعالوا، فقال لي أخ وزميل جازاني وهو يخرج صدفةً من الفندق وقتها: لا تخافي عليهم.. هؤلاء ولدوا في الشارع!! غابوا عن ناظري يا سيدي وابتلع الليل أجسادهم الصغيرة، وهم يحبونك.. وأنا أحبك.

ومعي سلامٌ آخر لمقامكم من سيدة عجوز تبيع الفل في منطقة البلد بجازان يا سيدي..

أخذتني وبعض الزميلات مشكورة إلى هناك الأستاذة المدهشة خديجة ناجع رئيسة اللجنة النسائية بنادي جازان، وأقول مدهشة - كما أسميتها - لأسباب أخرى تتعلق بأحد أهم أسرار نجاح ملتقى جازان. وأنا أمد يدي لعجوز الفل والكادي أستجديها حزمة جمال.. صاحت العجوز بأحد من يقفون معها لمساعدتها: (الجماعة ضيوف من الرياض وجدة، إنت ما سمعت؟ أعطيهم أحسن الحزمات يمكن تتحسن عنا الصورة)، وانفلق قلبي عندها انفلاقاً. الجماعة في جازان يا سيدي يريدون تحسين الصورة علّ باقي جسد مملكة الحب يقبل بهم!!!

وإنهم يحبونك يا سيدي.. وأنا أحبك.

وطني: إن همم الأرواح العالية التي تستطيع ما استطاعته جازان وناديها الأدبي في هذا الملتقى تحبك وأنا أحبك.. حبات فل جازان تناديك وأنا أناديك... وصدرك متسعٌ كما أعلم لندائنا وحضنك متكئٌ لنا.. ونحن نحبك والهوى جازاني.

لو تبعت خطوات قلمي الذي علمته جازان كيف يكون القفز عالياً وواعياً وأنيقاً لكتبت الكثير، ولكني أردتها أن تكون وقفة صغيرة وأنا أعود لأول مرة بعد عودتي إلى ملكة الكتابة كما حثّني بقوة الصديق الدكتور إبراهيم التركي؛ إذ طلب مني حين التقينا مؤخراً في معرض الكتاب بالقاهرة العودة إلى زاويتي القديمة في (الجزيرة) قائلاً: بحميميته الراقية المعهودة: (ما وحشتك زاويتك؟ ما وحشك مكانك القديم عندنا؟).. فقلت: يا صديقي أحنّ حقاً إلى (الجزيرة) التي غمرتني بحب ووفاء معهود حين حفظت لي مكاني أكثر من عشرة أعوام حتى أعود، ولكني أهرب من زوايا الصحف فاعذرني وتأكد من أنني لو كتبت شيئاً فلن يكون إلا ل(الجزيرة).. وإني على العهد باقية يا إبراهيم فاحمل معي أنت و(الجزيرة) عرش هذا الجمال الذي أحضرته من جازان.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة