1- عندما دلقت كل ما يحتويه ذلك الكيس البلاستيكي الكبير من كتب ابتعتها من مكتبة دار الساقي بالقرب من جريدة السفير في بيروت، كان أول كتاب لفت نظر عباس بيضون، على ضآلة حجمه، وبساطة غلافه، بالمقارنة مع كتب كبيرة وملونة، أغلبها عن فنانين عالميين، هو: (من هم الشعراء الذين يتّبعهم الغاوون)، فالتقطه وقلّبه بين يديه مرات، ليقول مستغرباً: (ولماذا ابتعت كتاباً كهذا!).
2- كلَّ ما استطعت وقتها الإجابة به: (الأمر يهمُّني). وكلُّ ما رد به عباس على جوابي هو أنه هزّ رأسه. حدث هذا منذ ما يزيد عن إحدى عشرة سنة، ربما في نيسان 1997، على ما اذكر.
3- مباشرة بعد عودتي لمدينتي اللاذقية، قرأت الكتاب، ورغم أن استغراب عباس كان يشوش علي في كل صفحة!؟ إلاّ أنني استطعت أن أجد في تقصيه الواسع لما ورد عن الشعر والشعراء في القرآن والحديث وأقوال السلف، وبحثه الدقيق في أمكنة وأسباب تنزيل، وإفراده فصلاً خاصاً لتفسير ومناقشة كل آية على حدة من آيات سورة (الشعراء): (224-225-226-227)، ما يجعله مرجعاً كاملاً عن الموضوع، يسمح لي، كما لأي قارئ آخر، بتكوين رأيه الخاص به؛ ما حقق لي كامل الغاية التي توسمتها في شرائه. إلا أنني وجدت أيضاً، أنه ربما ما دفع عباس بيضون لاستغراب كهذا، ليس فقط تقادم الموضوع برمته، وأنه برأيه فاقد الأهمية بالنسبة لي وله ولأمثالنا من الشعراء الذين أداروا ظهورهم، عن سابق قصد وتصميم، لكل هذا الماضي، بل، أيضاً، بسبب أن كاتبه د. غازي عبد الرحمن القصيبي، أحد أولئك الذين بسبب نشأتهم الشخصية ومواقعهم السياسية والثقافية، ليس لهم إلا أن يقوموا بتفسير كل شيء على النية الطيبة التي يحملونها لكل شيء!؟
4- وهكذا راح استغراب عباس، وصراعي الذهني معه، يفتق لي الكثير من الأسئلة الشائكة على مدى صفحات الكتاب التسعين، فحين كنت لا أجد بدّاً من موافقته في مقاصده وغاياته، متفهماً انتهاجه الأسلوب التقليدي في البحث والمحاكمة والاستشهاد التي تحقق هذه المقاصد والغايات، مقدراً جهده الظاهر ومحاولته الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه، كنت بذات الوقت لا أجد بدّاً من انتقادي له في أكثر مقارباته، ومخالفته في أغلب تفسيراته واستنتاجاته، ليصل الأمر بي إلى معارضته بشدة على ما جاء تماماً في النهاية، فبدا وكأنه خلاصته، وهو إقحامه لقضية طارئة، استغلت دعائياً، من قبل أطراف عدة، وهي قضية الكاتب سلمان رشدي، ثم قيامه بتعميم الحكم، الذي اجتهد كثيراً في كامل الكتاب ليخصَّ به شعراء محددين أقذعوا القول في الرسول والإسلام أيام الدعوة والجهاد. ومتخلياً لأول وآخر مرة عن نيته الحسنة تلك، يحكم على سليمان رشدي بأنه آخر الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، لذلك حق عليه القول كما حقَّ عليهم، وخاصة بعد أن غاب من يملك الحق في العفو!؟
5- قلت لم أجد في الكتاب سوى ما يمكن للمرء أن يتوقعه، حتى وإن لم يكن يعرف تفاصيله، لأنه في تقصيه الدقيق لأسباب التنزيل والتفاسير، وكافة حيثيات ذلك الحكم على الشعراء الذي تضمنته الآيات الكريمة الثلاث: (والشعراء يتّبعهم الغاوون* ألم تر أنهم في كل واد يهيمون* وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، كل ما يريد تأكيده هو أن هذا لا ينطبق على كلِّ الشعراء، إنما فقط على الذين هجوا الرسول وأساؤوا إليه، مردداً بعض الأقوال القديمة للسلف الصالح، والحديثة نسبياً لبعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين، فيورد قولاً لسيد قطب (1906-1966) الذي كان في بداية حياته الأدبية شاعراً مطبوعاً، على حد تعبير الكتاب: (فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ، إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن..) ص17، ثم يزيد: (الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة، تتحكم فيهم مشاعرهم، ثم هم أصحاب أمزجة لا تثبت على حال)، فهل هذا إلاّ منهج الشعراء لاكتشاف (خفايا النفس البشرية) التي هي كما يقول: (مادة الشعر والفن) ص17. أمّا محمد قطب، أخوه، الذي يوصف عادة بأنه الأكثر انفتاحاً واعتدالاً، فيكرر ما قاله سيد قطب: (إن الآيات.. لم توجَّه ضد الشعر في ذاته، ولا وجهت ضد الشعراء على إطلاقهم، إنما ضد نوع معين من الشعراء).
6- ورغم أني لا أجد في هذا الاستنتاج ما يمكن الاختلاف حوله، وذلك لأنه مثبت صراحة في الآية التي تأتي مباشرة بعد الآيات السابقة الآية رقم (227): (إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات و... ) أي أن عدم إطلاقية الحكم تحصيل حاصل، ولكن يهمني العودة إلى محاججة الدكتور القصيبي ومجادلته في أن كلمة الشعراء وردت في النص القرآني عامة مطلقة، وهو ما لا يوافق عليه، ويعتبر: (أن كلمة الشعراء وردت، في الحالة التي نحن بصددها، متبوعة بصفات لا تنطبق على كل الشعراء؛ الأمر الذي يصعب معه القول إنها وردت عامة. كما أنها وردت متبوعة باستثناء واضح؛ الأمر الذي يصعب معه القول إنها وردت مطلقة) ويلاحظ هنا تفريق الدكتور القصيبي بين صفة عامة وصفة مطلقة، لمعرفته أن الفرق واضح بين العام والمطلق، فالأول يقبل الاستثناءات، أمّا الثاني فلا. وهو بتأخير حجته الدامغة على عدم إطلاقية الكلمة، يبدو وكأنه يريد أن يختم مجادلته بما لا يمكن الاختلاف عليه. إلاّ أن ذلك لن يمنعنا من العودة إلى حجته الأولى: (إن كلمة الشعراء جاءت متبوعة بصفات محددة لا تنطبق على كل الشعراء)، فنجد أننا، أولاً: ببساطة نخالف الدكتور القصيبي الرأي، فلا نرى في الجمل الثلاثة التي وردت بعد كلمة (والشعراء): (يتبعهم الغاوون، في كل واد يهيمون، يقولون ما لا يفعلون) صفات خاصة بشعراء محددين!؟ وثانياً: نستطيع أن نكتشف مغالطة الدكتور قصيبي في نفيه الصفة العامة عن كلمة الشعراء بقوله (إنها متبوعة بصفات لا تنطبق على كل الشعراء)!؟ وتعبير (كل الشعراء) لا يصح على عموميتها بل على إطلاقيتها، أي أنه نفى إطلاقيتها فحسب في المرتين. مما يثبت قناعتنا بأن الحكم هنا هو على الشعراء عامة، و(إلاّ الذين آمنوا ... ) هم الاستثناء. وهذا ما يقرّه الدكتور القصيبي هنا، ثم يثبته في الفصل الخاص بالآية المذكورة، ويضع عنوانه (آية الاستثناء). والحكم بعموم اللفظة بقدر ما يبطل الحاجة إلى تلك المجادلة غير المقنعة لتلك (القاعدة الشهيرة في علوم أصول الفقه: العبرة في بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) بقدر ما يوافق واقع الشعر والشعراء في الجاهلية وفي صدر الإسلام وحتى يومنا هذا. ولا أدري كيف بالاعتراف بأن شعراء العربية الكبار في كل هذه الأزمنة هم: امرؤ القيس والشنفرى والحطيئة والأعشى صناجة العرب الذي قبل بمائة من الإبل بدل أن يسلم، وعمر بن أبي ربيعة والأخطل وجرير والفرزدق وبشار بن برد، وأبي تمام والمتنبي والمعري وأبي نواس وابن الفارض وابن زيدون واحمد شوقي والياس ابو شبكة وجبران خليل جبران وبدر شاكر السياب ونزار قباني وأدونيس.. وكثير منهم اتُّهم بالكفر وبالزندقة، يسمح لباحث عارف أن يجادل بعمومية اللفظة.
7- أما الذهاب إلى أن الإسلام لم يصل بعدائه للشعر إلى حدِّ تحريمه، فهو من بديهي الكلام، ومن المعروف أن القرآن الكريم لم يجمل الشعر مع ما نصَّ عليه من المحرمات والمجتنبات، كالميتة والدم ولحم الخنزير، والخمر والميسر.. غير أن الاستناد لتفسير الرافعي في أنه لو لم يكن للرسول موقف ايجابي من الشعر (لماتت الرواية بعد الإسلام)، يواجه بالعديد من الأسئلة، فمعرفة المكانة السامية التي يشغلها الشعر عند العرب، سيؤدي بنا إلى فكرة أن الرسول(ص) ما كان ليصل مهما بلغت حدّة عدائه مع الشعراء (منافسيه كما يفكر عدد من المستشرقين) ص23، إلى حدِّ القطيعة مع الشعر. كما أن الإقرار بهذه المكانة من الممكن أن يثير أيضاً فكرة أنه حتى ولو بلغت حدة العداء أقصاها، كما فعلت المسيحية في أول أيام إعلانها دينا رسمياً في روما، فقامت بتحريم الشعر والفن والألعاب الأولمبية، فإن العرب، مسلمين أم غير مسلمين، ما كانوا بتاركين الشعر ما بقوا عرباً، وما بقوا أمة من أناس يجعلون من العربية أمهم ووطنهم.
8- نعم حكم القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمة الثلاث، حكماً صائباً على عامة الشعراء، وهو، بغض النظر عن كونه صادراً عن الذات الإلهية العارفة بكل شيء، ليس بالسوء الذي أراد المفسرون تثبيته على عامة الشعراء أو فقط على الذين هجوا النبي وأساؤوا إليه. فالشعراء هكذا.. كما قال عنهم القرآن الكريم، وكما قبل بهم، الإسلام والمسلمون، وغير الإسلام والمسلمين، أي كما قبل بهم العالم.
9- قلت: (الأمر يهمني)، لأني كثيراً ما كانت هذه الآيات الكريمة، التي تحدد موقف الإسلام من الشعراء، تذكرني بمواقف وأفكار الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين، في العالم القديم والحديث، الذين ينظرون عموماً إلى الشعر والشعراء نظرات الريبة وعدم الثقة، ويتخذون منهم مواقف تتسم بالانتقائية والاشتراط. أشهرهم لا ريب الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي عاش ما بين سنتي (427 و347) قبل الميلاد، أي قبل الإسلام بما يقارب الألف سنة، وكذلك الفيلسوف الألماني فريديرك نيتشه (1844-1900) في محاولة كلٍّ منهما لرسم التصور الأمثل للوضع الإنساني، الذي يجب أن تؤسس عليه الدول وتبنى عليه المجتمعات.
10- لا يُذكر الشعراء في كتاب أفلاطون الشهير: (جمهورية أفلاطون) إلا بوصفهم ملفقي الخرافات، مشوهي الآلهة والأبطال، مختلقي القصص القبيحة من أبشع الأكاذيب. مطالباً بسن القوانين التي يحظر بها على الشعراء تجاوز حدودهم، ويمنع فيها تداول الأشعار التي تنافي الطهارة وتهين الآلهة، فتفسد تربية الناشئة وتعرض نمو الفضيلة للخطر. فيباح من الشعر فقط، وهنا يأتي استثناء أفلاطون، (تسابيح الآلهة، وتقاريظ كبراء الرجال والأعمال الشريفة) ص282/ ترجمة حنا خباز (دار القلم1969).
11- أمّا نيتشه فمع أنه شاعر، أو ربما لأنه شاعر، ويعرف تماماً عمّا يتكلم، فهو في كتابه (هكذا تكلم زارادشت) الذي تأثر به أكثر ما تأثر الزعيم النازي أدولف هتلر، دون أن ننسى شاعرنا العربي المهاجر جبران خليل جبران، يركز بدوره على خاصية الكذب عند الشعراء كافة: (لأننا نحن الشعراء نكذب كثيراً). لكن نيتشه يبرر كذب الشعراء: (ما دام ما نجده من العلم قليلاً). (فالشعراء جميعهم يعتقدون أن الجالس على منحدر جبل مقفر يتنصت إلى السكون، قادر أن يتوصل إلى معرفة ما يحدث بين الأرض والسماء). وقد أتعبه الشعراء لأن: (خير ما تجده في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر)! فهم (يعكرون جداولهم ليخدعوا الناس ويوهموهم بأنها أنها بعيدة الغور)!وبماذا يعكرون المياه برأيه: (بأقذارهم).
12- رافق كتابتي هذه المداخلة، ظروف اضطرتني لأن أكتبها على دفعات، مستغرقاً كل ما أعطيت من الوقت، فكان أن أضعت نسختي الأولى من الكتاب، فاضطررت للطلب من الصديق عبد الكريم العفنان، شراء نسخة جديدة وإرسالها لي من بيروت عن طرق إحدى مكاتب النقل العام، ولكن الطامة الأكبر كانت عطلاً أصاب جهاز كومبيوتري المحمول، أدى لضياع كامل حقيبة المحفوظات الذي كنت أضع ملف المداخلة فيها، مما أدى للحالة الاضطرارية الثالثة، وهي إعادة كتابة المداخلة من أولها، هذه الأمور التي عادة تحدث معي، والتي عندما شرحتها للصديق محمد عبد الله في رسالة اليكترونية، قرأها بصوت مرتفع على زائريه فراحوا جميعاً يضحكون ويتندرون بأقاصيصي. ولكني أثناء إعادة واستكمال ما كنت قد بدأته، وجدتني، حرصاً على ما أمكن من دقة المعلومات وانفتاح وتنوع الأفكار، أسأل وأشارك العديد من أصدقائي في اللاذقية كالروائي حسن صقر، والباحث ياسر صاري الذي أخبرني أنه سبق وكتب بحثاً في الموضوع، والأساتذة عبد القادر هلال وغسان إسماعيل وعبد الله هوشة... مفتقداً شخصيات لاذقانية، لو أنها ما زالت بيننا، لقدمت لي أجوبتها الشافية عن كل تساؤل خطر ببالي، كالراحلين إلياس مرقص وجبرائيل سعادة وأحمد حيدر، أولئك الذين جعلوا من الفكر، أساس صداقة، وطريقة حياة.
سورية