-1-
تمثل اختيارات الشعراء مؤشرا على صلتهم بالنصوص التي يطالعونها وأحكاماً نقدية أيضا، لأن الاختيار فاعلية ثقافية و نشاط نقدي قد لا يعلن مبرراته أحيانا، لكنه -أي نشاط الاختيار- يوحي بها لأنه وجه من وجوه النقد بكونه تمييزاً لنصٍ ما أو حُكماً عليه ضمنيا، لأن الوقوف عنده دون سواه يحمل في طياته دلالات التطابق مع ملفوظه ودلالاته، إما من جانب من الجوانب الفنية المتصلة بالأداء و بالشكل، أو من جانب أفكاره ورؤاه وتصوراته وما يتصل بمضمونه.
ولقد شكّل الاختيار وصنع المختارات مظهرا من مظاهر حيوية النقد الأدبي العربي سواء قام بالاختيار علماء أو شعراء، وهو تقليد يأخذ أهميته في التأليف ويحظى بعناية الكتّاب والقراء على السواء ،كما أنه واحد من أبرز وجوه النشاط النقدي الموروثة التي لم تستمر في الثقافة العربية إلا بعد أن أحياها النقد العربي المتصل بالثقافة الغربية في الفترة التالية للنهضة الأدبية أي تلك الفترة التي شهدت التجديد والتحديث في منتصف القرن الماضي.
ولكننا نجد للمختارات في الثقافة الغربية تجليات وتنويعات مختلفة كالمختارات الكبرى والصغرى وتلك المتصلة بالعصور أو البلدان أو التيارات الفنية أو النوع أو الغرض..
وفي المختارات الشعرية تظهر للقارئ عدة مشغّلات ومؤثرات تؤشر إلى وعي القائم بالمختارات من جهة، وتكشف دون تسمية أو وصف مفهومه للشعر ونموذجه الذي استقر في وعيه وفهمه للكتابة الشعرية، كما تظهر الجوانب الذوقية والجمالية، ولا سيّما إذا كان القائم بالاختيار شاعرا يعكف على إنجاز مشروعه الشعري مسهما في الحركة الشعرية وجزءا من مشهدها العام.
إن الاختيار انتزاع للنص من سياقات عديدة تكونت له خلالها سيرورة وكينونة ودلالة وكذلك تشكلت هويته واكتسب وقعه ودلالته في القراءة الشعرية وداخل النوع الشعري نفسه وفي سياقات زمن إنتاجه ومكانه.
ولكن قراءة المختارات تدخل في باب نقد النقد، ومحاولة فحص أسباب الاختيار ودلالاته ومؤشراته على وعي القائم بالمختارات وذوقه احتكاما على استجابته لنداءات بعض النصوص أو أجزاء منها أحياناً.
-2-
وهذا ما تسمح به وتتيحه قراءة المختارات التي أنجزها الشاعر والكاتب غازي القصيبي ونشرها في فترات متفاوتة وحظيت بتعليقات وعروض وقراءات طيبة، لكنها معروضة هنا للتعرف على جانبي التذوق والنقد في وعي القصيبي، ومحاولة استنتاج رؤاه الفنية والجمالية من خلال النصوص الشعرية المختارة و طريقة تبويبها وعرضها وتسميتها.
وللقصيبي تجربتان في هذا المجال : الأولى كتابه ( قصائد أعجبتني) الصادر عام ،1982والثانية ( في خيمة شاعر) التي طالعت منها جزأيها :الأول الصادر عام 1988، والثاني الصادر عام 1992، وفي الأول يعلن القصيبي مباشرة عن مستوى الاحتكاك بالنصوص فهو يتم بمقياس الإعجاب كما يشي العنوان والإعجاب منساق دوما للانطباع الأول عند تلقي النص وقراءته ثم تظهر بعد ذلك مبررات ذلك( الإعجاب) الذي لا تضع له النظريات النقدية مكانة مهمة في برامجها ومقاييسها، بكونه استجابة لمشاعر فورية تخلقها ردود أفعال آنية وحدوسٍ سريعة، أو استجابة ظرفية ينتج عنها بسبب الانفعال أو التأثير غير الفني.
ولكن القصيبي يظلم كتابه كثيرا بتلك التسمية التي يقدمها العنوان و التي توجه القراءة صوب المؤثر الانطباعي على الشاعر خلال إنجاز مختاراته، فالقصائد الخمس التي اختارها تعرضت لعملية تحليل نصي بارعة ودقيقة تعقّب خلالها القصيبي أبيات القصائد وربطها بسياقاتها الخارجية والداخلية –المحيطة بظروف كتابتها وعلاقتها النصية كأجزاء في بنية متكاملة.
وفي صدركتابه أفصح القصيبي عن تنميطه أو تبويبه للقصائد الخمس في الكتاب حيث قال في مقدمة الكتاب وبعد الإهداء مباشرة:
كثيرا ما تكون القصيدة الخالدة..
في الوقت نفسه..
مسرحية أو
ملحمة أو
رواية
أو فيلما أو
سيمفونية..
تلك هي المقدمة التي وضعها القصيبي لمختاراته ( قصائد وباختصارها الشديد ووضوحها تتيح التعرف على منهج الاختيار، فهو يتجه أولا إلى قصائد بعينها كاملة غير مجتزأة، ويضعها تحت وصف أو نعت يفصح عن فهمه لعلاقة النصوص الشعري بالأجناس والأنواع الأدبية والفنون المجاورة لها، فالقصيدة عنده لا تتحدد بالشعر الذي ينتظمها بل في ما تحمل من الفنون المجاورة لها مزايا أخرى يعثر عليها القارئ ويشخصها لأنه في عملية القراءة يشهد ذلك التناص الذي أسميه تناصا نوعيا أي أنه يقع بين سمات النوع نفسه وتقترض فيه القصيدة مزايا فنية وجمالية من نوع آخر، وهذا ما جعل القصيبي يصف قصيدة المتنبي الميمية في عتاب سيف الدولة بأنها القصيدة المسرحية ويضع ذلك عنوانا لها، تليها قصيدة (الأطلال) للشاعر إبراهيم ناجي التي أسماها القصيدة الملحمة، وقصيدة إبراهيم العريض (حديث دمية) التي أسماها القصيدة الملحمة، وقصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه التي أسماها القصيدة الفيلم ويختم بالقصيدة الخامسة (أحلام الفارس القديم) للشاعر صلاح عبدا لصبور التي أسماها القصيدة السمفونية ،ونلاحظ على هذا التبويب ما يلي:
- إنه يفصح عما أسميناه التناص النوعي ( بين الشعر والسرد والمسرح والموسيقى ) موسعا أفق التناص وباحثا عن تشاكل آخر ينال النوع نفسه غير وجود نص سابق في نص لاحق وكيفية حضوره كما تعرضها أنشطة التناص المألوفة.
- كما أنه يتجاوز في الاختيار الحدود الزمنية فيقدم نصين قديمين من التراث الشعري- ابن الريب والمتنبي- وثلاثة نصوص معاصرة للعريض ولإبراهيم ناجي وعبد الصبور، وذلك مؤشر على فهمه للشعر وإبداعه دون قيد من عصر أو انتمائه لزمن، فالقراءة تجد ضالتها في القديم والجديد معا و في ثنايا التراثي والمعاصر،كذلك، فالشعرية لا تكمن في زمن وتحرم أو تفتقد في آخر، وهذا سيفسر للنقاد والقراء طبيعة شعر القصيبي نفسه الذي لا يتوقف عند أسلوب بعينه.
- وتؤشر القصائد الخمس المختارة إلى ديمقراطية الشكل والأسلوب وحرية اختياره، فالقصيبي يختار شعرا مكتوبا بالطريقة التقليدية - شعر الشطرين والشعر الحر القائم على البيت والمكتوب بشكل متفاوت. التفعيلات والقوافي.
وهذا يكشف وعي القصيبي بالكتابة الشعرية التي لا تحددها الأشكال أو تزكيها أو تكون سبباً في نبذها وإقصائها.
- وتؤشر المختارات إلى نزعة التطبيق لدى القصيبي والميل إلى التحليل وليس التنظير، فالقصائد المختارة مقدمة بإطار التحليل الذي يقود القراءة إلى نواح قد لا تكون على لائحة كتابتها أو في برنامج قراءة أخرى.
- وتفيد القصائد في التعرف على المنهج الانطباعي المتطور وذلك لأنه يقرن الذوق بالتعليل وبيان سبب الإعجاب، حتى حين تصدمنا أحكام كلية وانطباعات واستخدام التفضيل القاطع بصيغة أعظم وأجمل وأروع وغيرها ،كوصفه قصيدة العريض بأنها واحدة ( من أروع القصائد في شعرنا الحديث ) ووصف قصيدة صلاح عبدالصبور أحلام الفارس القديم بأنها ( أجمل ما كتبه على الإطلاق) مالك بن الريب ( ألا ليت شعري..) مثلاً بأنها ( أعظم القصائد في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه) ونصفها بالتعجل والحماسة فإننا نعود لتقدير ما يقدمه عنها من تحليل معترفا بأن ما قاله فيها هو (حكم شخصي بحت ترجمته أن هذه أقرب قصيدة في شعرنا العربي إلى قلبي).
إذن فالقصيبي لا يلزم أحدا بقراءته ويعترف بأن ما قاله حول تفضيلها على (كل) الشعر العربي قديمه وحديثه إنما هو حكم شخصي صادر عن قناعته وقراءته فحسب.
- والقصيبي يبرر وصف القصائد ولا يترك ذلك للانطباع فقصيدة ابن الريب الموصوفة بالفيلم تتقدم للقارئ على وفق آليات الفن السينمائي، فيعرفنا القصيبي على مواطن (السينمائية) وما يراه من نظام عملها، فثمة أزمنة ثلاثة ( الماضي-الحاضر- المستقبل) وبداية بلقطات من الماضي : شجر الغضا المتكرر في المقدمة بوضوح، وثمة مشاهد ومواقف سينمائية فيها وانتقالات سريعة بين تلك المشاهد المنتخبة من أزمنة النص-الفيلم.
- وفي هامش صغير يعلن القصيبي عن قراءته المدققة التي لا تستريح للروايات وتأخذ النصوص كما جاءت فهو مثلا يستبعد أبياتا من رثائية ابن الريب لأنه يرى فيها عدم اتساق مع سير القصيدة وممتلئة بحوشي الألفاظ دون طائل.
-3-
خلافاً لما قدمه من قراءات تحليلية في ( قصائد أعجبتني) يقدم القصيبي في كتابه ( في خيمة شاعر) مختارات بيتية - أي يكتفي ببيت واحد –من الشعر التقليدي المنظوم بنظام الشطرين والقافية الموحدة – ويضع لها عنوانا من تصوره لدلالة البيت وإشاراته. ولأنه يعي الوحدة الكلية لقصائد الشعر الحر القائم على التفعيلة وتفاوت أطوال الأبيات فإنه يختار منها مقاطع قصيرة.
ويلفت في هذه المختارات البيتية أنها:
- تتقدم بتواضع جمّ هي من لوازم القراءة المعاصرة التي لا تفرض نفسها قطعيا على القارئ أو تصف نفسها بالنهائية والنموذجية، فالقصيبي يرى أن مختاراته حصيلة ( جولة عشوائية في الشعر العربي قديمه وحديثه) فهي كما يقول في المقدمة لا ترقى إلى ما عرف بالحماسة في المختارات العربية القديمة، ولا ديوان شعر عربي كما وصف المعاصرون مختاراتهم.
- وهو لا يتوقف فيها عند زمن ما أو يتحدد بأسلوب أو شكل شعري دون سواه أيضا. بل يختار أحيانا لشعر واحد نوعين من النصوص : تقليدية وحديثة
- وهو يعترف بالانطلاق من النص نفسه ومن الشاعر في الاختيار فيستل (من خيمة) ذلك الشاعر ما يرى أنه معبر بقصره واختزاله عما أعجبه فيه، لذا كرر عبارة (من خيمة) في مدخل كل مختاراته من الشعراء من مختلف أزمنتهم.
- كما أنه لم يغفل قطرا عربيا في مختاراته فكان الشعراء المعاصرون من العراق ومصر واليمن والمهجر والسعودية والمغرب وتونس وفلسطين ولبنان وسورية والسودان والبحرين وغيرها حاضرون عبر مختاراته، كما حضر شعراء القديم من تلك البيئات المتفاوتة التي شكلت فسيفساء اللوحة الشعرية العربية في عصورها المختلفة.
- وقد توخى في مختاراته أن تتطابق مع مفهومه للشعر الذي تربطه به (المحبة) كما يصرح في المقدمة، ويدفعه إلى قراءته (الإعجاب) وهما عنده- أي الحب والإعجاب – ليس بهما حاجة لبيان الأسباب، وهذا جوهر ما تقوم عليه القراءات الانطباعية الخالية من التعليل .
- ولكن التسميات تفصح غالبا عن سبب الإعجاب ومن ثم الاختيار، بل نرى أن الدخول إلى خيمة هؤلاء الشعراء دون سواهم ومسامرة أشعارهم واقتناص الفريد منها وتسميته إنما هي ضرب من التعليل والانحياز والحكم النقدي، ثم اختيار أبيات بعينها دون سواها-أو مقاطع في حالة القصائد الحرة- هو حكم نقدي لا إعجاب عابر.
هذا ما نراه يلفت نظر القارئ إلى شيئين :
- موضع الإجادة أو الفن في النص المختار( بيتا أو مقطعا).
- سبب الاختيار أو الانحياز لما يختار القصيبي دون سواه.
ويؤدي عنوان البيت المختار أو المقطع عدة أغراض :
فهو أحياناً تلخيص للمضمون أو الغرض، وأحياناً تندر أو تفكه، وربما جاء تفسيرا أو تعليلاً.
وفي ذلك كله يقدم القصيبي نموذجا لقراءة حرة يلتقي فيها امرؤ القيس والمتنبي وابن زيدون وحسان و وابن الأحنف وأبو نواس وعنترة وابن حمديس بيوسف الخال وأبي ماضي وشوقي ودرويش والصافي النجفي والسياب والمقالح والفيتوري. وغيرهم ممن تختلف مناهج كتابتهم الشعرية وفهمهم للشعر ،كما تتباين رؤاهم وفلسفتهم ونظراتهم إلى الحياة.
صنعاء