لعلّ ما يزيد من صعوبة البحث في أسباب شيوع ظاهرة شعريّة إيقاعيّة أو بلاغيّة في شعر مثل الذي نحن به أنّ النّظامين: قصيدة البيت وقصيدة التفعيلة يتواصلان جنبا إلى جنب، فلا الأوّل انقطع بذيوع الثّاني، ولا الثّاني حلّ محلّ الأوّل. بل الأصوب أن نقول: إنّ هذا وَصِيل ذاك. فهما - ونحن لا نقصد الجانب الشكلي أو المظهر البصري وإنّما الخطاب نفسه - مترافقان لا يكادان يتفارقان إلاّ في النّدرة من القصائد؛ بل في النّدرة من الأبيات التي تباين القديم في أخيلته ومعانيه، وإن على نسب تتفاوت ومقادير تتفاضل؛ بل أنّ القاعدة في هذا المحدث أو المستحدث الشعري، إنّما هي في الحفاظ على التّقليد وخرقه في آن، وما يفضى إليه ذلك من تغليب الوظيفة المرجعيّة المنوطة بمحتوى الخطاب والواقع الذي يحيل عليه، حيث الإرادة في الإخبار والإفهام هي الدّلالة الغالبة على ما سواها. ولعلّ ذلك كان سببا من أسباب حفاوة الشاعر بالتعبير الكنائي الذي لا يقاوم القراءة ولا يحول دون استعادة المعنى، لما تقوم عليه الكناية من المجاورة ومن الوظائف التي تعلق بها سواء أكانت إفهاميّة أم إخباريّة مرجعيّة، بل جماليّة أيضا ترجع إلى إيقاع الائتلاف بين المختلفات؛ أي (تأليف الغريب) أو ما يمكن أن نسمّيه (جماليّة المفاجأة).
ومن هذا الجانب فإنّ الظاهرة عند الشاعر غازي القصيبي أبعد من أن تفسّر بطغيان وظيفة دون أخرى، فثمّة في كلّ هذه القصائد مراوحة لا نخالها تخفى بين ما هو (جماليّ) وما هو (مرجعيّ)، وليس لنا أن نستثني من ذلك، القصائد التي تأخذ بالإفهام والإيضاح والإبانة، فالشاعر غازي القصيبي يصدر في كتابته عن تينك الوظيفتين في أداء الصّورة حيث الانتقال من الطّرف الأوّل إلى الثّاني لا يعني إلاّ انتقالا من مرجعيّ إلى جماليّ، إمّا لتأكيد الأوّل وإبرازه أو لإخراجه غير مخرج العادة، بعبارة أسلافنا، أو لذلك كله معا؛ ولكن في اعتدال وتلطّف وعدم إفراط، حتى تحتفظ الصّورة بقدرتها على التمثيل والتّبليغ أو ما نسمّيه (شفافية التّوصيل). ومثال ذلك قصيدة (قل لها):
قل لها إنّه تأمّل في دنياه (الخفيف)
حينا فعاد يحضن دمعه
فهذه القصيدة التي يقدحها هاجس الموت مظهر للقول والذّهاب رأسا إلى المعنى حيث يلمّ الشاعر بالصّورة في خطف كالنبض، ثمّ يفصّلها أكثر ليصبّ معناها في قالب محكم من الكلِم واللّغة وإيقاع البخر الخفيف. وهي صورة من صنع الطّبع ومن قوّة الصّناعة في آن، أو هي من لطف النّظم الذي يجاري الطّبع إلى معنى تسيغه النّفس أو يرقّق من حواشيها ويصالحها مع الموت. ولا نخال صورة كهذه إلاّ مظهرا لمعنى ناجز تامّ سابق على النّصّ، أو أنّ النّصّ ينشأ بناء على معنى معطى من خارجه وإن كان ذلك لا يحول دون أن ينشئ معنى أو فضل معنى إبّان قراءته.
على حين أنّ قصيدة أخرى تتمثّل نفس الموضوع أي موضوع الموت، ولكن في حيّز التعبير الاستعاري، ونعني (أغنية في ليل استوائي) (تفعيلة الوافر: مفاعلتن):
فقولي إنّه القمرُ
أو البحر الذي ما انفكّ بالأمواج
والرغبات يستعرُ...
غدا لا تذكريه
غدا تنادي زورقي الجزرُ
ويذوي مهرجان الليل، لا طيب ولا زهرُ
فقولي إنّه القمرُ
فالاستعاريّ في هذه القصيدة يفترض معطى من خارج اللّغة أو من خارج القول نفسه. والاستعارة، حسب هذا الإجراء، لا تدرك من حيث هي عدول عن دلالتها اللّغويّة إلاّ إذا وقفنا فيها على معنى هو لا يتعلّق بها، ولكنّه راجع إليها. وهو بما هو ذو طبيعة مختلفة مردّها إلى الاستعمال من جهة، وإرادة المتكلّم من أخرى. وبعبارة أوضح فإنّ إجراء الاستعارة على هذا النحو حيث تتظافر مفردات مثل (الزورق) و(الجزر) و(الليل) في صياغة صورة الموت أو الفراق الأبدي، يقتضي شرطا أساسيّا (خارجيّا) هو ما أسماه بلاغيّو العرب (الأصل) أو (الحقيقة) أي المادّة الواقعيّة التي لا تستوجب بنية فنّية.على حين يستوجب تشكيل البنية الفنّية إعادة بناء هذا (الأصل) أو هذه (الحقيقة) على مقتضى القوانين الجماليّة؛ ومن أظهرها قانون المشابهة أو حسن المحاكاة. بعبارة حازم القرطاجنّي: (وإنّما ينبغي ان يمثل حسن المحاكاة في القول بأحسن ما يمكن ان يوجد من ضروب تصاوير الاشياء وتماثيلها... ونظير ذلك من المحاكاة في حسن الاقتران أن يقرن بالشّيء الحقيقيّ في الكلام ما يجعل مثالا له ممّا هو شبيه به على جهة من المجاز تمثيليّة أو استعاريّة...)
توضّح هذه القصيدة أنّ وظيفة الصّورة عند القصيبي هي نقل المعنى أو تمثيله تمثيلا حسّيا أو (قلب السّمع بصرا)، أي جعل الصّوت في خدمة العين ، حبث الصّورة ترجع إلى هيئة من شأنها أن ترى وتبصر أبدا.ولا مسوّغ لذلك في الظّاهر سوى أنّ (المسموعات تجري من السّمع مجرى المتلوّنات من العين) بعبارة حازم أيضا.
ولان خال صورة كهذه إلاّ محكومة بسلطة المنطوق أوالشّفوي ، فما يلتقط سماعا ويدرك في وقعه أو إيقاعه لا يستبين ولا يتوضّح إلاّ إذا ظهر وتكشّف في مجلى الرّؤية أو البصر. أي أنّ احتواء الشّيء المسموع بحاسّة النّظر إنّما هو احتواؤه بالحسّ والعلم والفهم وبالتّوهّم أيضا(انظر اللّسان، ) بصر ) و(نظر ) و(حسّ) وما تحيل عليه من معاني علم وفهم...). فيكون للصّورة ما جرى السّمع والبصر في جدليّة واحدة، من سيولة الإيقاع أوماء الشّعر بعبارة العرب ما يجعلها قادرة على أن تجاري الرّؤية في سيولتها.
فلا الإشارة تنفصل عن الصّوت ولا الصّوت ينفصل عن الشّيء المرئيّ. والصّورة بهذا المعنى لا تعدو كونها ظلاّ للأشياء، ودليلا على واقع شاخص ماثل للعيان، وعلامة على طريقة المعنى؛ والقرينة فيها أشبه بعلامة تُنصب حتّى يُهتدى بها إلى المعنى المضمر ويستدلّ، برغم أنّ غياب القرينة ليس قرينة غياب أي غياب المعنى المجازيّ في شتّى الاستعمالات الرّاجعة إلى ما نسمّيه (شعريّة اللّغة). وما نخال أثرهذه الشّعريّة في لغة مثل العربيّة إلاّ حاسما في صناعة الشّعر، أو في إنشائيّة الخطاب الشعري. وبالتّالي لم يكن بالمستغرب أن يناط بالصّورة تمثيل المعنى تمثيلا حسيّا؛ ما دامت وظيفتها من وظيفة المنطوق الذي يتمثل مقصدا تواصليّا أوهو يرجع بالقارئ إلى الحضور التّواصليّ. وبالرّغم من أنّ الشّعر الذي نحن فيه، شعر مكتوب، فإنّ ذلك لا يغيّر كثيرا من نمط الإدراك والتمثّل المأخوذ عند غازي القصيبي بسطوة الشعريّة القديمة وسلطتها حتّى في قصائد تأخذ بالتدوير في صورته الحديثة مثل قصيدة (مومياء) (تفعيلة المتقارب):
وقلتِ ليَ السحر في البحر والليل والبدر...
فالكلمة المكتوبة إن هي إلاّ تسجيل للكلمة المنطوقة وبديل عنها؛ وليست شيئا في حدّ ذاتها. والقول إنّ الكتابة تابعة للكلام مشتقّة منه، قد لا يجعل منها أكثر من مجرّد تصوير لأصل. وربّما تعزّز هذا الأصل في هذه العربيّة (الفنّية) لغة الشعر والقرآن التي لم تنقطع عن أصولها الأولى؛ وإنّما ظلّت في أكثر استعمالاتها الادبيّة تصل الأصل بفروعه، والفروع بأصولها؛ حيث حركة المكتوب المرئيّ من حركة المنطوق المسموع. فهو لا يكشف عن نفسه ولا يسفر للعيان إلاّ إنشادا (الشّعر) أو تلاوة (القرآن).
فإذا كنّا لاحظنا أنّ وظيفة الصّورة هي تمثيل المعنى تمثيلا حسّيّا وتقريبه وإيصاله، فقد لا يكون مردّ ذلك إلى شيوع التّشبيه أو الكناية أو الاستعارة في هذا الشّعر فحسب ؛وإنّما إلى أثر (الشّفهيّة) أيضا. وهي شفهيّة يعزّزها إنشاد الشّعر من حيث هو أداء شفهيّ مخصوص يوحّد بين سمع وبصر مثلما يوحّد بين مرسل ومتلقّ، بحيث لم تكن الكلمات لتشكّل رسالة ما لم تكن تسمع وترى في آن.
ففي هذا الأداء حيث يعزّز التّماثل الصّوتيّ كثافة اللّغة ويجذب الاهتمام إلى الخصائص الشّكليّة، وينهض الإيقاع اللفظيّ بوظيفة مشابهة ويدفع باتّجاه الرّسالة ذاتها، يمكن أن نلمّ بأهمّ الأسباب التي تجعل القصيبي ينيط بالصّورة وظيفة التّمثيل والنّقل كما هو الشأن في قصيدة (شهداء):
يشهد الله أنّكم شهداء
يشهد الأنبياء والأولياء (الخفيف)
أو (رسالة المتنبّي الأخيرة إلى سيف الدولة):
بيني وبينك ألف واش ينعب
فعلام أسهب في الغناء وأطنبُ (الكامل)
فمثل هذا الأداء الكنائي أو (القناع) إذا شئنا، لا يمكن إلاّ أن يتّسم بحضور المتكلّم والمخاطب والمعنى في آن، ولكن في سياق أمسّ - على شفويّته - بالكتابيّ حيث الكتابة نفسها ضرب من تغريب المألوف أو ما يعتقد أنّه الطبيعيّ في حال المنطوق. وهي تقوم على غياب المتكلّم (المتنبّي من حيث هو شخصيّة تاريخيّة) والمخاطب (سيف الدولة)، وإنْ دون غياب المعنى، حتى وهي تقلب السّمع بصرا باعتبارها نظاما من العلامات البصريّة التي تتحدّد دقّة الكلمات بواسطتها. ولكنّه نظام خاصّ يجعل الكلمة (شيئا) أكثر منه (حدثا) ويفصل العارف عن المعروف والمتكلّم (المنشئ) عن السّامع (القارئ). وفيه يُصنع المعنى أو هو يتعيّن من من حيث هو (معنى بالقوّة ) وبخاصّة في هذه الصّور التي سقناها وغيرها ممّا لا يتّسع له مقالنا.
والحقّ أنّ الوظيفة الجماليّة عند غازي القصيبي، حيث الكلمة تستخدم بذاتها ولذاتها؛وليس بطريقة مرجعيّة محض، أو هي تتحرّر من أسر تاريخ استعمالاتها، ترد ، في أكثر شعره ممّا اطّلعنا عليه، في خدمة ما يسمّيه المعاصرون (وظيفة تنبيهيّة). وهي، من ثمّ، مظهر لمدلول مهيّأ للظّهور، ولمعنى قابل للاسترجاع. وكأنّ جوهر الشّعر إعادة المتماثل.ومثال ذلك (مرثية عاجلة إلى بلقيس) حيث يُسند الكلام إلى المتكلّم (الذات الشعريّة):
ألوم صنعاء يا بلقيس أم عدنا أم أمّة ضيّعت في أمسها يزنا (البسيط)
أو(حديقة الغروب) التي ينهض بها أسلوب الالتفات أي العدول من التكلّم إلى الخطاب أو من ) أنا) إلى (أنت):
خمس وستّون في أجفان إعصار أما سئمت ارتحالا أيّها السّاري (البسيط)
فهي رغم تعدّد صورها (خطاب المرأة والبلاد ورفيقة الدرب وابنة الفجر) تقوم على صورة (رمزيّة) أساسها التراسل وتكاتف الحواسّ في نقل صور من عالم الشاعر الخاصّ.
وإذا كان ذلك كذلك فليس بميسور القارئ أن ينفذ إلى المعنى - والأصوب أن نقول (يستعيده) - إلاّ إذا أعاد عقد العلاقة المفترضة بين الصّورة و(حالات الأشياء) خارجها، فيتلقّى الصّورة باعتبارها رسالة لاحقة على رسالة سابقة (محذوفة).
غير أنّ القول بفردين في هذا النّوع من الصّورة: (حقيقيّ) و(ادّعائيّ)، يثير من المشكلات أكثر ممّا يحلّ منها، ويكشف عن رؤية للّغة لا يمكن إلاّ أن تقود إلى اختزال بنيتها في بنية العالم. وكأنّ وظيفتها الأساسيّة أن تشابه (الغفل) وما لا علامة فيه ولا سمة عليه أو ما هو (خارج القول)، وأن تحاكيه أو تعيد إنتاجه.
يراوح شعر غازي القصيبي بين نظامين: استعاريّ وكنائيّ. وفي حيّز كهذا يمكن أن نستكشف إنشائيّة الإيقاع عنده، وما هو راجع إلى الأوّل (الاستعاريّ) وما هو راجع إلى الثّاني (الكنائيّ). وهو مبحث شائك نقتصر على إشارات خاطفة إليه، نرجو أن تكون مهادا لمبحث مستقلّ.
ولعلّ اكتناه الإيقاع من هذه الكوّة (الاستعاري/الكنائي) تجعلنا نزكّي تصّور الإيقاع على النّحو الذي أعاد بنفنيست تحيينه أي (الصّورة المرتجلة الحاليّة القابلة للتغيّر والتبدّل والتّعديل). وهو تصوّر قد يجعلنا أصحّ فهما للإيقاع عامّة وإيقاع الشّعر خاصّة، وأحسن تقديرا من القول بتراصف بسيط لمتتالية عدديّة أو متوالية من الأنساق المنغّمة ينتجها اطّراد الصّوامت والمصوّتات (السّكنات والحركات)، أوالقول بتنظيم متوال لعناصر متغيّرة كمّيّا في خطّ واحد، بصرف النّظر عن اختلافها الصّوتيّ. فهذه العناصر وأشباهها تحدّ إيقاع الوزن لا البحر، وتحجب على الإيقاع المخصوص بكلّ قصيدة أي ذاك النّاشئ في تلفّظها؛ وما نخاله إلاّ أجلّ شأنا وأوفر قوّة وأبعد أثرا.
فلم يكن بالمستغرب إذن أن ينظم على ما نظموا أي على بحور مثل الطّويل والبسيط والكامل والوافر... وما نظنّ ذلك إلاّ لعلّة إيقاعيّة، فهذه البحور ذات الإيقاع الأصيل أو التّفعيلات الرّئيسة، كما يسمّيها فايل، هي السّبب في ثبات النّغم الصّاعد أو (جوهر الإيقاع) أي الوتد المجموع الذي لا يصيبه زحاف كما يصيب السّبب، ولا تصيبه العلّة إلاّ في عروضه أو ضربه أي في موضع القافية. وهذه ذات إيقاع خاصّ بها يختلف عن جوهر الإيقاع الصّاعد في القصيدة (محمّد عوني عبد الرّزّاق، بدايات الشّعر العربي بين الكمّ والكيف). ومن الملاحظ أنّ أكثر البحور دورانا في شعرنا القديم هي تلك التي تتكوّن من تفعيلتين، وفيها يأتي جوهر الإيقاع بعد مقطع واحد كالطّويل، ليعلو بالنّغم في أوّل البيت ويستمرّ صاعدا حتّى نهايته؛ أو كالبسيط بتفعيلاته القافزة الخافتة الوقع، إذ يبدأ بسببين خفيفين (مستف) ثمّ تقفز النّبرة بحوهر الإيقاع (علن). وفي هذا ما يقدّر لذّة الأذن ومتعة السّمع. أمّا البحور قليلة الدّوران فتتميّز بإيقاعها الهابط أي الوتد المفروق المكوّن من مقطع طويل منبور يتلوه مقطع قصير، وبعض تفعيلاتها تجئ مقبوضة أو مكفوفة. ولعلّ هذا ممّا يزهّد الشاعر فيها.
أنّ إيقاع الوزن - ونحن نؤثر أن نقول إيقاع البحر - قد لا يسخو بموفور قوّته إلاّ إذا باشرناه من حيث هو تنظيم القصيدة تنظيما نوعيّا خاصّا.وهو من ثمّ لا يستلزم شرطا لابّد منه كأن نقرّر (من يقل إيقاعا يقل تناظرا)، أو نشترط عود عنصر بعينه في القصيدة عودا منتظما، حتّى نبني عليه ظهور النّبر الوزنيّ بالمعنى الحصريّ للكلمة، من حيث هو علامة أو سمة إيقاعيّة. فهذا الشّرط أو ذاك لا يمكن إلاّ أن يحصر القراءة قراءة القصيدة، في حدود العرف العروضيّ الشّائع الذي يجعل البيت صورة من صور الوزن أو يجعل الوزن سابقا على البيت.ولا نظنّ أنّ هناك من يماري في أنّ الوزن العروضيّ مستنبط من الشّعر، وارد عليه. وقس على ذلك إيقاع الشّعر، فهو لم يوجد قبل القصيدة ولا يمكن أن يوجد. والقول إنّ الإيقاع الشّعريّ تراسل لغويّ (للتّناغم الكونيّ الفيثاغوريّ) أو هو (تعبيريّة ) تحاكي حرفيّا ما تقوله القصيدة أو هو انتظام نغميّ أو لحنيّ يحاكي حركة البحر، إن هو إلاّ افتراض من بين افتراضات كثيرة على أسطورة الأصل والمبتدأ. وهي أسطورة تثير أكثر من إشكال، خاصّة أنّها تؤخذ لدى قليل أوكثير من الشّعراء وغير الشّعراء، على أنّها حقيقة من حقائق اللّغة، ومسلّمة من مسلّمات الإيقاع. ولعلّ البحث في أصل الإيقاع هو كآلبحث في أصل اللّغة، خبط في نفق مظلم، قصاراه أن يقدّم لنا افتراضات وتأويلات ربّما لفّق الخيال أكثرها أوزيّنه الظّنّ. بل هو بحث تقدحه نظرة دينيّة أو ميتا فيزيقيّة خفيّة تحاول أن تستشفّ من وراء الظّواهر والمظاهر علّة العلل وقدس الأقداس، أو أن تنزع إلى صميم الأشياء ودخائلها عسى أن تحوز معنى الإيقاع الكامن فيها، أو أن تلمح (الكلّيّ) خلال (الجزئيّ) فترى الإيقاع الذي يجري في النّصّ أو يجري به النّصّ، صدىالإيقاع الذي يفيض به الكون أو هو يستفيض فيه.
تونس