الحبّ قوّة محرّكة للحياة والحياة قوّة محرّكة للأدب. وفي تزاوج الأدب والحياة تعدّدت معاني الحبّ ووجوهه في ثنايا الخيالي والواقعي. من هذه المعاني المتنوّعة للحب ما ارتبط منها بالفلسفة (كفلسفة أفلاطون مثلاً)، أو بالبعد الأخلاقي أو الديني (كالتصوّف). ولطالما شكّل الحبّ، بوصفه (عاطفة وهوى) أي الحبّ كعاطفة إنسانية، موضوع دراسة وتحليل بدأ في تراثنا العربي مع ابن حزم الأندلسي في كتابه الشهير (طوق الحمامة). ففي بحثه عن ماهية الحب قال: (دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة) . وحتى يومنا هذا بقي الحبّ ظاهرة معقّدة من الصعب تبسيطها أو حصرها ضمن نظرية أو اتجاه أو بعد فلسفي أو اجتماعي أو نفسي واحد. كما بقي اكتناه ماهيته قائماً على التجربة الشخصية الحيّة وما قد يرافقها من معاناة.
ضمن هذا السياق، ينصب بحثي هنا في تبيان مساهمة المفكر والشاعر والروائي السعودي غازي القصيبي في بسط مفهومه الخاص للحبّ لكن عبر التخييل. وذلك من خلال روايتيه (حكاية حبّ) ورجل جاء...وذهب). لا سيما وأن هاتين الروايتين ارتكزتا على تجربة متخيّلة مستمدّة من الحياة...
الحب كحقيقة وجودية:
الحكاية في الروايتين المذكورتين بسيطة: إنها حكاية حبّ جمعت المحامي الخليجي الكهل الثري يعقوب العريان بالشابة العربية المتزوجة روضة. حكاية بدأت بنوع من انجذاب أول أو انخطاف من قبل طرفي العلاقة، سرعان ما تحوّل إلى علاقة حب متينة شملت كيان العاشقين جسداً وعقلاً وروحاً.
وقد استخدم القصيبي عدداً من المؤثرات الفنّية كالأغنية والنصّ الشعري والحوار لنقل عمق هذه العلاقة ومضمونها إلى القارئ. تلك العلاقة التي بدا فيها كلّ من العاشقين متسيّداً في أعلى مراتب العشق والنشوة، وهائماً خارج حدود الزمان والمكان.
ولئن وُظف تكسير السرد أيضاً في تبيان علامات الحب وصفاته، إلا أن وظيفته لم تقتصر على ذلك بل تعدّته إلى بناء القول الروائي المستند إلى الحبّ كحقيقة وجودية.
في (حكاية حب) نحن أمام بطل الرواية يعقوب العريان القابع في مصحّ في ضواحي لندن ينتظر موته بسبب مرض عضال. وإذ يستعيد هذا البطل المتأرجح بين الصحو والنوم، والحلم واليقظة نتفاً من ذكرياته تحت تأثير الأدوية المخدّرة، فإن حكاية حبّه لروضة هي التي كان لها حصة الأسد من بين كلّ الذكريات. حياته قبل روضة مرّت عرضياً من خلال حوار له مع أحد زبائن المصح المدعو السير هنري ماكدونالد. وفيه أن العريان اشتغل في المحاماة وأسس أكبر مكتب محاماة في الشرق الأوسط وترك من ثمة شؤونه لابنه الوحيد يوسف. وحوار مع يوسف نفسه يطلعه فيه بأنه تزوج مرّتين بعد وفاة والدته وأن الطلاق تمّ بسرعة بحيث لم يعد إلى تجربة الزواج نهائياً.
وباحتلال حكاية يعقوب وروضة مساحة السرد والذكريات بما تتضمنه من مشاهد، بدا هذا الحبّ وكأنه الحقيقة الوجودية الأكيدة إلى جانب حقيقة الولادة والحياة أو حقيقة الموت. وقد جاء مضمون الرواية أحياناً داعماً لهذه الحقيقة، لاسيما مع الحوارات التي كانت تدور بين يعقوب وبعض الشخصيات الروائية من زبائن المصحّ. ومنها البروفسور أنتوني ميدلاند، الذي كان قبل تقاعده أستاذاً للأدب الإنكليزي في جامعة بريطانية مرموقة، والطبيبة النفسية الدكتورة هيلارد، والاسقف جورج مالوني. فهذه الشخصيات، التي أرادها الروائي شخصيات ذات خبرة حياتية ومهنية عالية، بدت في انتظار موتها، وعلى الرغم من خبراتها، عاجزة عن الإجابة عن بعض الأسئلة أو الإشكاليات المطروحة في الحياة. ومن ذلك مثلاً، أنه حين سأل البروفسور أنتوني ميدلاند يعقوباً عما إذا كان يكتب قصصاً هزلية وأجابه يعقوب فيما إذا كان هناك قصص غير هزلية، أجاب البروفسور قائلاً: (سؤال فلسفي عميق. الحق أني لا أعرف الجواب) (ص 17). كما تحار الطبيبة التي قابلت في حياتها عشرات المرضى الواقعين في الحبّ في إيجاد تفسير وحيد للحبّ. لقد سألها يعقوب السؤال التالي:» ما هو الحبّ، يا ماري؟ أعني ما الذي يجعل رجلاً ما يحب امرأة ما دون نساء العالم كلهن؟ وما الذي يجعل امرأة ما تحب رجلاً ما دون الرجال جميعاً؟ (ص 60) فاجابته قائلة: (قابلتُ الآلاف، يا عزيزي، من العشاق والعاشقات. وكل حالة تختلف عن أختها.(....)...كنتُ أقول لمعظم مرضاي إنهم أحبوا بسبب الموقف). (ص60 -61).
لكن على الرغم من نسبيّة الحقائق، وعلى الرغم من صعوبة إيجاد أجوبة حاسمة ونهائية على بعض الأسئلة المطروحة، بدا الحبّ، كقيمة وجودية، وكأنه هو الحقيقة الوحيدة المحسوسة والمعيوشة. لذا اتفق جورج مالوني، رجل الدين المسيحي الغربي، مع المحامي والكاتب العربي المسلم يعقوب العريان عند حقيقة كونية واحدة هي حقيقة الحبّ.(راجع ص 43 -44).
في خصائص الحبّ:
حيال هذه الحقيقة التي استند إليها الخطاب الروائي ل لقصيبي، لا بدّ من الإشارة إلى التناصّ الذي وظف لتصوير بعض من خصائص الحبّ المتعدّدة. ومن أهمها في نصّي القصيبي قدرة الحب على تحرير العاشق من قيود الزمان والمكان، وانتفاء أي فارق نوعي بين المرأة والرجل بالنسبة لعاطفته.
ففي روايتي القصيبي ترد نصوص/ مقتطفات من روايات عائدة ليعقوب العريان بوصفه روائياً إلى جانب كونه محامياً. ويبدو أن الخيط الجامع في كلّ هذه الروايات (سنوات الإعصار)، و(النوم مع السراب)، و(القطرة الأولى) هو موقف المؤلف الرافض لمساوئ مجتمعه كالعنف والاستغلال والطبقية والفساد السياسي....إلخ. في حين أن الاستثمار الفنّي لقصص الأطفال لا يخرج عن الهدف المتمثّل بتبيان الشرّ الإنساني عموماً. هذا التناصّ الذي اصطفّ في خطّ فنّي موازٍ لحكاية الحب بين يعقوب وروضة بدا كتعبير فنّي عن خاصية الحب بوصفه محطة من محطات التطهّر والتحرّر من كل هذه المساوئ والشرور الملازمة لكلّ زمان ومكان. لذا تستحضر روضة (في رواية (رجل جاء...وذهب) ص(66-67) قصيدة من قصائد حبيبها يناشدها فيها أن تبقى ملجأه الآمن:
دعيني، هنا، قربك...
لا ترسليني من جديد...
إلى العالم الموبوء بالبشر...
لا تربطيني، مرّة أخرى،...
بالطاحونة التي تدور حول نفسها....
وإذ يعلن الحبيب تعبه من هذا العالم الموبوء بالشرّ يعلن للحبيبة أنها واحة عزائه:
أنا متعبٌ...وجائعٌ...وظامئ...
في واحتكِ وَحْدها..
أجد الريّ السخيّ..
أما عاطفة الحبّ التي لا يوجد معها أي فارق نوعي بين المرأة والرجل فقد تمثّلت فنّياً بالانتقال من صوت الحبيب يعقوب في (حكاية حب) إلى صوت الحبيبة روضة في (رجل جاء... وذهب). فهذه الرواية المتممة للرواية الأولى، والتي تقوم بصيغة المتكلم وتحديداً بصوت الراوية روضة، لا تكتفي بسدّ فراغات الرواية الأولى وحسب، وإنما هي تفصح عن معاني الحبّ لكن من منظور المرأة نفسها. وبالتالي فإن معاني الحبّ من منظور روضة بدت مطابقة لتلك المعاني التي أفصح عنها خطاب (حكاية حب) القائمة بصوت الرجل. فالحبّ من منظور روضة في رواية (رجل جاء...وذهب) هو الحقيقة الوجودية الأكيدة أيضاً، بالإضافة إلى كونه محطة من محطات التطهر والتحرّر. أما أبرز سماته أو تجلياته فهي خوف العاشق أو المحبّ من فقدان محبوبه. وهي السمة الأساسية التي دار حولها خطاب الراوية. إذ تطلعنا الرواية على مستوى الحكاية أنه سبق لروضة أن فقدت حبّها الأول برهان بحادثة، كما فقدت حبّها الثاني هادي. بحيث بات الخوف من الفقدان عند روضة الذي بلغ حدّ التطيّر أحد الحوافز المتحكّمة بحبّها ليعقوب. ولئن بدا توظيف القصيبي لهذه الحبكة السردية منصبًّا لتكثيف شعور الحبيب بالخوف من فقدان المحبوب، إلا أنه، من وجهة نظري على الأقل، قد أضعف البنيان الروائي. فالخوف من الفقد المرافق لعاطفة الحبّ عند أي عاشق لا يستدعي بالضرورة -وبحسب المنطق الفنّي- أن يكون هذا الأخير قد مرّ بكلّ الظروف التي مرّت بها روضة.
وبالعودة إلى الخوف من الفقد كسمة ملازمة لحكاية الحبّ التي جمعت بطلي الروايتين، بدا أن هذا الشعور نفسه قد رافق يعقوب العريان الذي كان على دراية بتطيّر حبيبته. إذ سبق له في (حكاية حب) أن قال للطبيبة ماري أن روضة (كانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أن القدر بمجرّد أن يعرف أننا، أنا وهي، في حالة حب سوف يتدخّل. يأخذها منّي أو يأخذني منها) (ص63).
ولئن بدت علامات الحبّ واحدة لدى يعقوب (الرجل وروضة) المرأة في خطاب القصيبي، فإن المنمّطات الجندرية تهاوت بدورها. بحيث كانت روضة هي القابضة على قوانين العلاقة. تقول روضة في (رجل جاء...وذهب): (سوف أحبّه وسوف يحبّني. وسوف أكون أنا الطرف المتحكّم في العلاقة. الطرف السيّد. سوف أحدّد أنا الشروط. وسوف أرسم أنا الحدود) (ص28).
هي التي كانت تغدق الهدايا على رجلها رافضة في المقابل قبول أية هدية منه، هي التي قرّرت أن يتقابلا على فترات متباعدة لا تتجاوز المرّات الأربع في السنة، في حين كان يعقوب راضخاً لقوانينها هذه وراضياً بها. فمن لذيذ معاني الوصل، كما جاء عند ابن حزم الأندلسي، المواعيد. إذ (إن للوعد المنتظر مكاناً لطيفاً من شِغاف القلب، وهو ينقسم قسمين، أحدهما الوعد بزيارة المحب لمحبوبه (...) والثاني انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه). لكن اللافت لدى القصيبي أن رضوخ الحبيب، أي يعقوب العريان، لحبيبته روضة بدا كنتاج لطبيعة الحبّ الذي تتبادل فيه الذكورة والأنوثة أدوارهما بعيداً عن القوانين الاجتماعية ومنمطاتها الجندرية. لذا لا غرابة في أن تعلّق روضة، من خلال استحضارها لليلتها الأولى مع حبيبها، قائلة: (اقتربت منه، وقبّلته. كان يستسلم لكل ما أفعله بسعادة طفل ماسوشي. طفلي/ عبدي! وعندما سرتُ به إلى غرفة النوم الصغيرة كان خائفاً يرتعد كمراهق يرى جسد امرأة حقيقية للمرّة الأولى. وأخذت أنا زمام المبادرة. شعور مُسكر من السلطة يم تزج بشعور مُسكر من الحبّ. عبدي/حبيبي!) (ص35).
الحبّ من منظور غير ذكوري:
كلام روضة الذي يلخّص أسس العلاقة القائمة بين الحبيبين لا يمثّل فقط الوحدة البنائيّة لروايتي القصيبي القائمة على المساواة بين صوتي طرفي العلاقة، وإنما هو يحرّر الخطاب الروائي من المنظور الذكوري للحبّ. إذ أظهر خطاب القصيبي أن (المرأة بحكم طبيعتها الإنسانية قادرة على أن تكون عاشقة ومعشوقة مثلها في ذلك كمثل الرجل. أي أنها قادرة، مثلاً، على السعي لاستمالة من تحبه من الرجال تبعاً لميولها وتقديراتها وعواطفها بخلاف التقاليد الصارمة التي تفرض عليها ألا تختار إلا في دائرة من يختارونها. وكأن حرمانها من حرية الاختيار والحركة والسعي نابع من أنوثتها لا من التقاليد الاجتماعية الجائرة(...) إنها قادرة في الواقع، على أخذ زمام المبادرة العاطفية كلياً شأنها في ذلك شأن بقية الناس، وليس صحيحاً أن كل ما هي قادرة على فعله هو إما الاستجابة، بصورة من الصور، وإما الرفض والابتعاد).
بذلك يكتمل خطاب القصيبي عن الحبّ بوصفه حقيقة وجودية وعاطفة إنسانية متحرّرة من الأدوار الاجتماعية المفروضة على الرجل والمرأة. الحبّ في خطاب القصيبي واحة للحبيبين وفضاء للحرية الشخصية، لعلّه الفضاء الوحيد الذي يسمح للذكورة والأنوثة أن يسبحا فيه وأن يتبادلا أدوارهما بعيداً عن القوانين الاجتماعية التي ترسم بصرامة مجالاتهما وحدودهما.
بيروت