السياحة مع ما خطّت يمين الشاعر الأديب.. الوزير السفير، غازي عبد الرحمن القصيبي، سياحة ممتعة ورائقة. عشت زمنا جميلا مع كلماته شعراً ونثراً.. رواية ومقالات، كُتِبت في أغراض شتى.. عشتُ معه سياحاته الفكرية والأدبية والفلسفية، وطموحه الجارف نحو إصلاح أحوال بلده وأمته، وهو الذي جاب أصقاع الدنيا، مشرقاً ومغرباً، واكتشف ثراء العالم وتعدد ثقافاته.. ورأى بأم عينيه اختلاف طرق البشرية إلى الحكمة والعيش في ظلالها. وشاهد جنون الإنسانية وجنوحها نحو اللامعقول.. بلوغها القمر وكشفها مجهولات الوجود، وانحدارها إلى أسفل درك العنصرية والاحتراب المدمر.
من عادة التقاليد أن تأسر أولئك الذين لم يعرفوا من أنماط الحياة والعادات سوى ما ألفوه منذ الصغر، فشبّوا عليه وشابوا، وباتوا لا يرون له بديلا، ولا يرومون عنه تحويلا. أما القصيبي، الذي نهل من علوم الأقدمين، وساح في آداب المحدثين وفكرهم وفلسفتهم، وجاب بلاداً كثيرة، وعرف حياة البادية والحياة في كبريات العواصم العالمية، فقد انكسرت عنه غلالة التقليد.. غير أن ذلك، على ما ينحت لاشعورياً في النفس من نسبية عميقة، ومن إحساس بالسيلان الدائم للمعاني والأشياء، لم يلمس بسوء انتماءه العربي الإسلامي الراسخ.
الانتماء للعروبة والإسلام عند القصيبي انتماء حواري منفتح، لا عصبية فيه ولا انغلاق.. انتماء لا يرى الدين نقطة ضيقة يقف عليها المتدين الفرد أو الجماعة الصغيرة، تحتكرها لنفسها دون سواها.. بل مجال واسع رحب يسع الجميع، ممن تقيد بالثوابت، والتزم الأسس المجمع عليها بين أهل القبلة. والتجديد الديني المنشود عنده هو (التجديد النابع من الدين نفسه، المتمسك بثوابته، المتقبل لأساساته، لا التسلل المشبوه، الذي يتحدث عن التجديد، وهو ينوي التبديد).. التجديد هو العمل الفكري العبقري الجريء، الذي يقفز فوق ركام المدونات الفقهية، التي رسخها الزمن التليد (ليعود إلى المنبع الأصلي.. القرآن الكريم والسنة المطهرة).. التجديد في جملة قصيبية بديعة (لن يتحقق بالركض إلى الأمام، ولكن بالعودة إلى ما وراء الوراء.. ما وراء التقليد المتراكم، نفاذا إلى النبعين الأصليين المطهرين).
تشرّب القصيبي مبكراً مقولات الليبراليين عن التسامح والحوار والاعتراف بالآخر، وهي المقولات التي مثّلت لزمن طويل ولا تزال أفقا فكريا ونهضويا واعدا. لكن تلك المقولات لم تتحول عنده إلى إيديولوجيا، تتوسل القوة (الدولتية) أداة لتحقيقها، كما لم تتناقض لديه، في أي يوم من الأيام، مع الثوابت والأصول. إنه مع الحوار وثقافة التسامح، لكنه ينشد آليات حوارية لتحقيق هدفه، وهدفه من الحوار (تعويد مجتمع لم يتعود على لغة التسامح والتعددية على الحديث بهذه اللغة)..
غرضه (إنشاء ثقافة للحوار تصبح جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع اليومية، ومن أسلوب تفكيره، ومن طرائق تعبيره). وهو لا يرى أن مثل ذلك يمكن أن يتحقق بإصدار أمر حكومي سام، ولا هو شأن يمكن أن تبتّ فيه جهة محددة بسطر واحد.. إنه عمل طويل شاق، يمتد على زمن، ويُخاض غماره في أوساط المجتمع وفي أعماقه.. ف(القرارات السلطوية) لا تسبق ثقافة الحوار ولا تفوقها أهمية.. بل (ثقافة الحوار يجب أن تجرّ القرارات وتقودها).
هذا الموقف الحواري لا يتوقف عند القصيبي عند التنمية الثقافية فحسب، بل يشمل أيضا التنمية العمرانية والبشرية. وكل ذلك في رأيه لا يتحدد بقرار سلطاني علوي.. بل يتم بحسب رغبة الناس وتفهمهم. وينقل الشاعر - رجل الدولة موقفا يتبناه بعمق عن رئيسة الحكومة الهندية السابقة أنديرا غاندي أن (الناس أنفسهم هم الذين يجب أن يقرروا سرعة التغيير الذي يريدونه، ولا يمكن أن تتحدد السرعة بأمر من الحكومة.. حتى عندما يكون الوعي عند الجماهير منخفضا، فليس هناك من وسيلة سوى الصبر والإقناع). وهنا يخالف القصيبي تقليداً ليبرالياً عربياً وإسلامياً عريقاً، يرى الدولة وقوتها القسرية وسيلة مثلى للتغيير، حتى ذهب العقيد معمر القذافي، وليس معدودا بين الليبراليين، في خطاب جماهيري شهير إلى تهديد شعبه باستبداله بشعب آخر، يدرك قيمة (الثورة) الليبية ويتفاعل معها بأفضل مما تفاعل معها الليبيون.
ليس الطموح الساذج لدى بعض النخب العربية، الذي يصل حد تمني استبدال الشعوب (المتخلفة) بشعوب أخرى أكثر تقدمية، غريبا عن ثقافة الصفوة القيادية المفتونة بالغرب، المبتوتة الصلة عن مجتمعها ومقدساته وقيمه. فتلك الصفوة كانت، كما يرى القصيبي، (أقرب في تفكيرها ونمط حياتها إلى سكان العواصم الغربية منها إلى الجماهير التي تتولى قيادتها). وفي مثل ذلك المناخ الموبوء بالاستعلاء عن الجماهير الموصومة بالغباء والخمول (أصبح مقياس التقدم أن ترتدي زيا يخالف الزي القومي، وأن تتجنب الحديث، ما أمكن، باللغة القومية، أصبحت الأصالة رجعية، والتمسك بالهوية تخلفاً فكرياً).. (ذهبت العمامة وجاءت القبعة.. اختفى الثوب وأقبل البنطلون.. تبخرت العمامة وأطل الميني جوب.. حتى الأسماء أصبحت مجرد أصداء قادمة من وراء البحار).
تلك نماذج ساطعة عن حالة الاغتراب، يرسمها بسخرية موجعة قلم القصيبي. ولقد رأينا معه كيف اتخذت مساعي التحديث مظاهر مضحكة مبكية في تركيا الكمالية وإيران الشاهنشاهية وتونس البورقيبية. فقد سخر بورقيبة من الصوم، واعتبره عدوا للتنمية والتقدم، ورأى في الحجاب زيا طائفيا ممقوتا. وحال أتاتورك بين الأتراك ولبس الطربوش وفرض الأذان بغير العربية، واستبدل في كتابة اللغة التركية الحرف العربي بالحرف اللاتيني. في حين (منع الشاه استخدام الملابس الإيرانية التقليدية، وأصدر أمرا بوضع القبعة على كل رأس، ومنع النساء من ارتداء العباءات، وأطلق الشرطة في الشوارع يمزقون عباءة أي امرأة ترتديها، وعندما احتج الناس وتجمعوا في المساجد، أرسل المدفعية لنسف هذه المساجد).. هذا غيض من فيض مما سجله قلم القصيبي، الذي لا يرى التحديث اقتلاعا للناس من جذورها، ولا التنمية مجرد «قشرة خارجية» للمجتمع تروم تقليد النموذج الغربي وتستنسخه في بيئة غريبة عنه.
لقد كان الفكر المكرس لتنمية العالم الثالث غريبا، من يومه الأول، عن العالم الثالث، والتنمية وقعت، منذ نعومة أظفارها، ضحية الغزو الثقافي، حتى آمن المخططون للتنمية بأن أول ما يجب تنميته، كما يرى القصيبي، هو الفكر المستورد، شرقياً كان أم غربياً.. وهكذا لم تكن التنمية تستهدف تحسين أوضاع المواطنين الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، بقدر ما كانت تستهدف تغيير هويتهم وبلبلة انتمائهم.. وهذه قمة الاغتراب، التي يحتج عنها القصيبي بوصفه مثقفا، واحتج عنها القصيبي حين كان مسؤولاً حكومياً وحتى سفيراً.
كتب القصيبي في أغراض شتى. كتب عن التعليم وعن العمالة الوافدة إلى دول الخليج، وأبصر مبكرا أخطارها على الهوية والثقافة والتنمية.. كتب عن التنمية وضرورة أن تكون متوافقة مع قيم المجتمعات لا مستوردة مفروضة عليها، ودعا إلى أن تستهدف التنمية النهوض بأوضاع الفقراء والسواد الأعظم من الناس، وأن لا تذهب إلى جيوب الصفوة وجماعة البيروقراطيين، التي لا تشبع..
أبان عن حس مرهف تجاه التهديدات الجمة، التي تواجه البيئة نتيجة لجشع الإنسان ولا مسؤوليته.. نافح عن الحرية والحوار، واعترض دوما على الاستبداد من موقع المثقف، مثلما اعترض عليه من موقع المسؤول.. عاش ولايزال حياة عامرة ثرية مع القلم شعراً ومقالة ورواية.. وظل في كل ذلك وفيا (لليبراليته)، لكنه أبان عن أصالة معدن، وعن تمسك عقلاني بالهوية والثوابت، وبغضا للانبتات والاغتراب، حتى وإن لبس لبوس التقدم والحداثة.
تونس