يحدثُ أن تتملّكَ الإنسان فكرةٌ نبعَتْ من دواخله فتحوّلت إلى غيمة تمطره بإيحاءاتها أينما التفت.. حتى أنها لا تترك له مجالاً خارج نطاقها. هكذا كانت حالتي في العام 1997م إبّان صدور ديواني الأول - أو الذي أصرّ على أنه الأول، متبرّئاً مما كان قبله - (الخروج من المرآة).. فقد صدر بعد عشر سنين من محاولاتٍ فاشلةٍ لإثبات الوجود..
كان قد مضى على هجرتي من مكة إلى الرياض عقدٌ كاملٌ أمضيت نصفه في تلك المحاولات التي لم تفض إلى شيء، بينما نصفه الآخر كان قد وصل بي إلى مصافحة الشعر الحقيقيّ بيدٍ حقيقية.. هل كان ما صافحته شعراً حقيقياً؟ وهل كانت يدي حقيقية؟
وهل (الخروج من المرآة) كان إثباتاً حقيقيّاً لدخولي الحقيقيّ إلى عالم الشعر والشعراء؟؟
أقول: كنتُ أنتظرُ اعترافات (أو شهادات) من السادة المثقفين، وبخاصةٍ حملة (الدكتوراه) لأنها كانت تعني لي أشياء كثيرة مردّها إلى عقدة نقصٍ تتمثل في خروجي المبكر عن صفوف الدراسة النظامية..
ولكنّ ما حدث كان فوق طاقتي التي كانت مستنفدةً لأقصاها.. فمنذ صدور الديوان عن النادي الأدبي بالرياض انتابتني حالة استغراب.. فقد كنتُ أرسل بالبريد نسخة إلى كلّ مثقف سعوديّ استطعتُ الحصول على عنوانه.. فلم أجد أي صدىً يشير إلى وصول النسخة إلى المرسل إليه!
فبدأتُ أرسل للمثقفين العرب (وأتذكّر أنني كنتُ استحي من توقيع إهداء، فما يهمني هو إيصال الديوان كمادة شعرية فحسب) فكانت الأصداء غير المتوقعة.. إذ كنتُ أطالع كل يومين تقريباً مقالات لشعراء وأدباء ومثقفين (وجلّهم من حملة الدكتوراه) يشيدون بالديوان ويعطونه تقديراً لم أكن أحلم بنصفه، ولكنّ أحداً منهم لم يكن من بلادي.. كانوا جميعاً من البلدان العربية الأخرى (لبنان وسورية وفلسطين ومصر وتونس والجزائر.. واليمن.. إلخ..) وكنتُ أجاهد من أجل الحصول على الجرائد والمجلات (العربية) لكي أتابع ما يُكتب عن ديواني.. فلم تكن خدمة (الإنترنت) متوافرة وقتها، ولم يكن يكفيني أن أقرأ عنه في صحفنا المحلية ضمن زوايا (صدر حديثاً).. لذا أحسست بتلك الحالة التي وصفتها آنفاً.. تملكتني مقولة (زامرُ الحيّ لا يُطرب) ومقولة (من عرفك صغيراً حقرك كبيراً) وغيرهما من المقولات الشهيرة القاسية، فكانت كلها تشدني لترمي بي صوب اتجاهٍ واحد: (الهجرة). إذ لم أكن أطيق، بعد استقالتي من وظيفتي الحكومية وتفرّغي التام للكتابة والشعر، أن أكون كمن (يغمز في الظلام!) فلا يقبض إلاّ الريح!
ولا أنكر أن عدداً من المثقفين السعوديين كانوا قد كتبوا عن الديوان ولكنّهم لم يكونوا من حَمَلة (الدال!) - ألم أقل إنها عقدة؟! كما أنهم لم يكونوا شعراء.. رتّبتُ أموري، في ذلك الوقت، على أن أهاجر إلى إحدى الدول العربية (لبنان تحديداً، في تلك المرحلة) وكنتُ في حالة تأهّب وحزم لأمتعتي.. ولكنّ شهر رمضان المبارك كان قد حلّ فاستبقيتُ نفسي، كأنني توقعتُ أن اليوم الأول منه كان يحمل لي مفاجأة بمثابة البشرى وطوق النجاة.. فبعد ظهر ذلك اليوم خرجتُ لشراء وجبة الإفطار لي، وأخرى لصديق كنتُ دعوته للإفطار معي (هو الأستاذ سليمان الحماد، مدير النادي الأدبي بالرياض آنذاك، وذكرتُ اسمه هنا كشاهد!) فبعد أن كنتُ انتهيتُ من مطالعة الصحف صباحاً، لفتني العدد الجديد 248 من (المجلة العربية) لشهر رمضان 1418ه 1997م وكان قد وصل للتو إلى (السوبر ماركت) فشخصتُ ببصري على الغلاف، وتهجّيتُ ال(مانشيت) العريض فيه (د. القصيبي: فيصل أكرم لخّص حياتي في عبارة).
كدتُ أن أتجمد مكاني من الذهول، وحاولتُ التكهّن بفحوى مقالة الدكتور غازي القصيبي فلم أزدد إلاّ حيرةً وذهولاً، فالتقطتُ نسخة من المجلة ورجعتُ إلى البيت لأجد أن الأستاذ سليمان قد وصل، ودخلنا معاً وأنا أريه غلاف المجلة (من تحت النايلون المغلِّف للعدد، كعادة المجلة العربية) فحاول سليمان أن يقص النايلون ويفتح العدد ولكني منعته!
قلتُ له: إن مقالاً كهذا، قد يكون دسماً بما يكفي لنقض صيامي!
فعلاً كان لعابي يسيل إلى قراءة المقال أكثر من أي جوع أو عطش، فصمدتُ صابراً في مكاني أنتظر أذان المغرب حتى ألتهم المقال!
قال لي صاحبي: ما معنى أنك لخصت حياته في عبارة؟ قلت: لا أدري!
قال: هل كتبت أنت مقالاً عنه، أو قصيدة مهداة له تتناول حياته؟ قلت لا. لم أفعل. لم أكتب حرفاً واحداً عن غازي القصيبي، مع أني أقرأ كل ما يكتبه!
مضت الدقائق بطيئة وأنا أزداد لهفةً حتى سمعتُ أذان المغرب، فبللتُ ريقي سريعاً وأقمتُ الصلاة، ثم جلست أمام المجلة أفتحها وأقرأ المقال.. والحقّ أقول: لو جاز لي أن أتمنى مقالاً يكتبه القصيبي عن ديواني ذاك لما تمنيت أكثر مما كتبه القصيبي.. فقد أشار في مدخل مقالته أن الشعر الحقيقي هو ما ينأى عن العلاقات الشخصية، وأن الشعراء الحقيقيين هم من تعجب بأشعارهم من دون أن تعرفهم، ثم أوضح أنه لا يعرفني و(لا يظن أنني أعرفه!) وراح يقرأ في قصائد الديوان إعجاباً، وتوقف عند مقطع وصفه بأنه (لخّص حياته كلها):
لقد كان في قبضتي سيفُ أم أتتْ كي تموتْ
وأهدتني السيفَ قبل السكوتْ..
فأسلمتُهُ عمقَ صدر السرابِ، وصافحتُ وهمي
وغازلتُ كلَّ الزوايا بسهمي
إلى أن تبخّرتُ حِبراً، على برزخٍ بين صوتٍ وصوتْ..
تعجّبتُ كيف أن رمزاً شعرياً وثقافياً وسياسياً بحجم القصيبي يرى نفسه في قصيدة لا تمثل إلاّ شاعراً شاباً محطماً ومشتتاً مثلي.. وظننتُ وقتها (وبعض الظنّ إثم) أنه اعتاد على (مجاملة) أصدقائه، فحسبني واحداً منهم! ولكن برجوعي إلى كلّ مقالاته السابقة في زاوية (صوت من الخليج) أدركتُ كم هو صادق (وصادم) ولا يكتبُ إلا قناعاته.. وقناعته تلك أبقتني في وطني، شاعراً ممتلئاً بالثقة متجاوزاً كلّ العقد! ومذ ذلك الوقت أصبحتُ آخذ كلّ كتابةٍ عن تجربتي الشعرية، على أنها: إضافة إلى ما كتبه القصيبي!
ختاماً أقول: إن سردي لهذه التفاصيل خلاصته أن هذا الرجل يقوم بدور وطنيّ حتى في كتاباته ذات الطابع الإبداعيّ، وهو يقصد ذلك بعمقٍ لا يتقنه إلاّ كبارُ الكبار في الوطنية والإبداع.
السعودية