كانت قد استوقفتني تجربة (غازي القصيبي) الشعرية المتفرّدة منذ وقت طويل، فقد قرأت بعض قصائده ثم اطلعت على ديوانه الأول (أشعار من جزائر اللؤلؤ) خلال السبعينيات من القرن الماضى؛ ومن بعده ديوانه الشهير: (معركة بلا راية)، الذي وصل فيه إلى قمة النضج في الرؤية وفي الأداء الفني. وأذكر أننا كنا نردد مع (القصيبي) في أعقاب نكسة 1967 تلك النبوءة الشعرية الفاجعة، التي اختتم بها قصيدته عن (الهنود الحمر) في ذلك الديوان:
قلْ يا أخي
- والنجمةُ المعقوفةُ الشوهاءْ
تلمعُ في المنائرْ
والمسجدُ الأقصى يردِّدُ
ما يرتِّلهُ اليهودُ من الشعائرْ
هل يبصرُ السُوَّاحُ يومًا ما
حضارتَنا بقايا
ملءَ المتاحفِ .. أو سبايا
في حانةٍ في تل أبيب؟!
ولعلنا ندرك الآن، أنّ هذه النبوءة التي سبقت نبوءة (نزار قباني) في قصيدته الذائعة (متى يعلنون وفاة العرب!) بسنين عدة، هى نبوءة صالحة لأن نردِّدها من جديد بعد أكثر من أربعين عاماً على كتابتها، خاصة في هذه الأيام الكابوسية الحالكة التي تابعنا فيها صور محرقة (غزة) ونحن ذاهلون عاجزون!
غير أننا لا نكاد نستسلم لهذا الشعور الطاغي بالعجز والهوان، حتى نجد صوت (القصيبي) يجلجل حولنا بنغمة أخرى تفتح أمامنا طاقة الأمل:
تموتين كيف؟ ومنك محمد
وفيك الكتاب الذي نور الكون بالحق
حتى تورد
وطارق منك ..
ومنك المثنى ..
وأنت المهند
تموتين كيف؟
وأنت من الدهر أخلد!
أما الشاعر نفسه، فقد التقيته للمرة الأولى عام (1981) بمدينة الدوحة القطرية في صحبة الناقد الراحل (رجاء النقاش) رحمه الله؛ وكانت من المرات القليلة التي لم أشعر فيها بمسافة ظاهرة بين الشعر والشاعر. وأذكر أنّ الفرصة قد واتتنى حينئذ، لأقف على جديد (غازي القصيبي) مما لم يتح لى أن أجده في القاهرة، وكان من هذا الجديد ديوانه (الحمى)، وكذلك كتابه: (سيرة شعرية) الذي وقف به عند دواوينه الخمسة التي أصدرها قبل (الحمى)، وهى: (أشعار من جزيرة اللؤلؤ قطرات من ظمأ معركة بلا راية أبيات غزل أنت الرياض)؛ واختتم الكتاب بتأملات نظرية حول الشعر وقضاياه، وهى القضايا التى شغلت (القصيبي) من قبل خاصة في الكتيب الذي جعل عنوانه: (أزمة الشعر المعاصر)1980، وقد سبقه في الصدور كتاب آخر عام 1978 بعنوان: (عن هذا وذاك)، حول قضية الصراع بين أنصار القديم والجديد في الشعر. وتستحق سيرة القصيبي الشعرية وقفة خاصة، لأنها في نظري من أظهر كتاباته النقدية دلالة على جلاء موقفه النظري من القضايا المثارة حول طبيعة الشعر ووظيفته، ودوره في الحياة العامة والخاصة.
وربما كان من الواجب قبل أن نشرع في مناقشة أهم القضايا النقدية التي أثارها (القصيبي) في هذه (السيرة)، أن ننبِّه إلى قيمتها المؤكدة وأهميتها البالغة، لا لقارئ شعر (القصيبي) وحده، بل لقراء الشعر ودارسيه على وجه العموم؛ لا سيما أن صاحبها قد تحلّى بشجاعة الاعتراف، في كثير من الأمور التي قد يفضل غيره فيها السكوت أوالمداراة؛ فهو لم يخجل مثلاً، من إيراد نماذج من محاولاته الشعرية في فترة الصبا الباكر قبل الخامسة عشرة، مع أنها محاولات لا تمت إلى الوزن بأيّ سبب، هذا إذا كانت لها صلة بالشعر على الإطلاق! كما أنه لا يتعمّد إغفال أسماء من تأثر بهم من الشعراء، بل هو على العكس يستفيض في ذكر أسماء من يعتقد أنهم أثروا فيه وأسهموا في تكوين وجدانه الشعري، بدءاً من (أحمد شوقي) و(حافظ إبراهيم)، ثم من بعدهما (الجواهري) و(عمر أبو ريشة) و(الأخطل الصغير) و(أبو القاسم الشابي) و(إيليا أبو ماضي) و(أمين نخلة) و(بدوي الجبل) و(شفيق معلوف) و(علي محمود طه) و(إبراهيم طوقان) و(إبراهيم العريض) و(سليمان العيسى) و(سعيد عقل)؛ إلى من جاء بعدهم من روّاد الشعر الحر، مثل(السياب) و(نزار قباني) و(صلاح عبد الصبور) و(أحمد عبد المعطي حجازى). وهذه في الواقع قائمة طويلة، وتضم رموزاً لمدارس شعرية شتى، فمن مدرسة الإحياء إلى المدرسة الرومانسية بفروعها المختلفة؛ إلى الواقعية والرمزية وما بينهما من سائر الألوان والظلال؛ ولعلّ شاعراً يتعرّض لمؤثرات بهذا الحجم وهذه النوعية دون أن يفقد لغته هو الخاصة، لجدير بأن يثير دهشتنا!
ثم إنّ هذه السيرة تقدم فيضاً من المعلومات المهمة التي تفيد دارسي الشعر بوجه خاص، لأنها تتعلق بالجوانب الاجتماعية والنفسية والشخصية التي فعلت فعلها في تجربة الشاعر. ويعرض (القصيبي) بصراحة لافتة لكثير من هذه الجوانب، فلا يترك القارئ إلا وقد أطلعه على ملابسات نشأته العائلية وظروف التعليم الأساسى الذي تلقاه في (البحرين)، ثم يصور له الصدمة الأولى التي تلقاها برحيله إلى (القاهرة) للحصول على شهادة التوجيهية ثم على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، حيث تلتها الصدمة الأكبر بسفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1961 ليقيم في مدينة (لوس أنجلس) وهو يعد لنيل درجة الماجستير، مع ما صاحَب هاتين الصدمتين من نتاج شعري، تمثل في ديوانه الأول (أشعار من جزائر اللؤلؤ) الذي قدمه الدكتور (عبد القادر القط)، وهو ثمرة تجربة القاهرة، ثم ديوانه الثاني (قطرات من ظمأ) الذي كان ثمرة لتجربة الغربة في بلاد الأمريكان.
والحق أن كتابة السيرة الشعرية لا تزال فناً نادراً في ثقافتنا المعاصرة، وربما كان هذا هو ما جعل القراء والنقاد يحسنون استقبال ما يصدر منها بين الحين والحين، كما حدث مع (حياتي في الشعر) للشاعر (صلاح عبد الصبور)، و(الشعر رفيقي) للشاعر (أحمد عبد المعطي حجازي)، وأظن أن ذلك ينسحب أيضاً على سيرة القصيبي، فقد نفدت منذ أن صدرت طبعتها الأولى عن دار الفيصل عام 1980م.
وأول ما يثير الانتباه من القضايا النظرية التي طرحها (القصيبي) في سيرته، هو تصنيف الشعراء إلى مدارس واتجاهات فنية، فهذا كلاسيكى أو تقليدي وهذا رومانسي، وهذا واقعي، وهكذا. ويعرف (القصيبي) أن النقاد قد أجمعوا تقريباً على أنه ينتمي إلى المدرسة الرومانسية، منذ أن خصه الدكتور (عبد القادر القط) بدراسة وافية في كتابه (الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر) الصادر عام 1978؛ ولكن (القصيبى) لا يعترف ومعه الحق بمثل تلك التصنيفات النقدية، إذ إنها قد تساعد الباحث، ولكن دون أن تنجح في فهم التجربة الشعرية على نحو أفضل، خاصة حين تقترن عند بعض النقاد بأحكام القيمة، كأن يقال مثلاً: هذا شاعر رومانسي جيد، أو رديء!
ويصل (القصيبي) في مناقشته لهذه القضية إلى قناعة راسخة بأنّ الشاعر الحقيقي ينبغي أن يكون كلاسيكياً رومانسياً واقعياً ... فهو دائماً يستعصي على أن يدرج في إطار الحدود النقدية والتصنيفات الجاهزة. ولعلنا نشتم من وراء هذا الرأي، قلق (القصيبي) من اختزال تجربته الواسعة لتبقى حبيسة القفص الرومانسي الضيق! وربما كان (القصيبي) لا يستريح لفكرة (الشاعر النبي) التي آمن بها الرومانسيون ثم ذاعت على يد صاحب كتاب (الأبطال) المفكر الإنجليزي (توماس كارليل Thomas Carlyle) 1795ـ1881, خاصة في الفصل المعنون: (البطل في صورة شاعر). وقد انطلق أغلب الشعراء من رواد الاتجاهات الرومانسية المعاصرة من تلك النظرة، التي يبدو الشاعر فيها قريناً لطائر الفردوس، فهو يحمل قلب نبي وعصا ساحر كما يصوره (علي محمود طه) في قصيدته: (ميلاد شاعر):
هبط الأرض كالشعاع السنِيِّ
بعصا ساحر وقلب نبيِّ
لمحة من أشعة الروح حلت
في تجاليد هيكل بشريِّ
ألهمت أصغريه من عالم الحكْ
مةِ والنور كلَّ معنًى سريِّ
*. وعلى الرغم مما قد يبدو في هذا القول من خلط بين الفن والأخلاق؛ إلا أننا نستطيع أن نفهم ما يحرص عليه (القصيبي) من ضرورة الفصل بين القصيدة والشاعر، أو بين شعر الشاعر من جهة، وحياته الخاصة من جهة أخرى؛ وهي وجهة نظر تعارض الموقف الرومانسي المتمسك بصورة الشاعر النبي، كما هو واضح.
ولعل هذا هو ما جعل (القصيبي) ينكر صنيع الشعراء الذين يحرصون على أن يظهروا في صورة العالمين ببواطن الأمور في شتى الميادين، فهم ساسة وفلاسفة وقادة رأي وخبراء في كل شيء! فالشاعر المعاصر في رأيه، لم يعد يليق به أن يُدِل على الآخرين بعلمه الكامل الشامل كما كان يفعل الشاعر القديم، فلا يجوز له أن يحاكي (عدي بن الرقاع) مثلاً، ليقول معه:
ولقد علمتُ فلا أسائلُ واحدًا
عن علْمِ واحدةٍ لكي أزدادَها
وليس بوسعه كذلك أن يردد مع (أبي العلاء) قوله إبان جماح الشباب:
فلا وأبيك لا أخشى انتقاصا
ولا وأبيك لا أرجو ازديادا
*. والحق ان شكوى (القصيبى) من قلة رواج الشعر، هي من الشكاوى المألوفة حتى في العصور القديمة، يقول الشاعر (الصوري):
وصناعتي عربيةٌ وكأنني
ألقَى بأكثر ما صنعتُ الرُّوما
فلمن أقولُ وما أقول وأين بي
فأسيرَ؟ أو لا أين بي فأقيما!
نعم، للشاعر دائما أن يشكو، لأنه لا يرضى بأقل من أن يصل صوته إلى أكبر عدد من البشر، ولكن عليه في المقابل أن يتذكر أنه ليس المسؤول وحده عن عدم وصول رسالته، فقديما قال (البحتري):
عليَّ نحتُ القوافي من معادنِها
وما عليَّ إذا لم تفهم البقَرُ!
*.
*. نعم، تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم بالقصائد، بل بالمدافع وغيرها من الأسلحة؛ ولكن المهم في معارك التحرير ليس هو السلاح، بقدر ما هو الإنسان الذي يمسك بهذا السلاح، وهذا الإنسان الذي يقف على استعداد تام للتضحية بنفسه في سبيل حرية وطنه، ما كان له أن يكون كذلك إلا بفضل مجموعة من القيم العليا التي شكلت هويته ورسخت انتماءه؛ ولا شك في أن الشعر هو أحد الينابيع غير المنظورة التي تغذي تلك القيم وتمدها بأسباب الحياة؛ وليست (الخلال) التي عزاها (أبو تمام) إلى الشعر في كلمته المشهورة، سوى تلك القيم العليا نفسها:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتى المكارم
ولعل (القصيبي) الشاعر، هو خير من يرد على(القصيبي) الناقد في تلك القضية الخاصة بدور الشعر أو وظيفته، فلنقرأ معا قصيدته المكثفة البديعة (السكوت) من ديوان (أنت الرياض):
ميِّتةٌ حروفُنا
مثل ضمائرِ الطغاهْ
ما اغتسلتْ في بِرْكةِ الحياهْ
ولا درَتْ ما رعشةُ المخاضْ
ما ألمُ الجراحْ
ما روعةُ السيرِ على الرماحْ
.....
نحلمُ أن عالَمًا بلا قيودْ
ينبتُ من أقلامِنا المشلولهْ
نحلم أن موسمًا من الورودْ
يُزهرُ في صدورِنا المسلولهْ
نحلمُ بالمعجزةِ الجديدهْ
نابعةً من فوْهةِ القصيدهْ
.....
تعبثُ إسرائيل في مساجدي
تنتفُ ذقْنَ والدي
وأختفي
كالفأرِ في قصائدي
.....
حين يخافُ الشاعرُ المقدامُ أن يموتْ
يصبحُ أحلى شعرهِ السكوتْ!
ونحن نشعر هنا بلا شك، أننا أمام قصيدة تنتمي إلى الشعر الملتزم، فهي تدافع عن موقف، وتسعى إلى تأكيد قيم، ولا نستطيع بالتأكيد أن نختزل المتعة الفنية التي نستمدها منها إلى مجرد ما فيها من صور وإيقاعات جميلة، فتزكية القصيدة لقيمة الشجاعة وتبنيها لمبدأ المقاومة وفضيلة الرفض، هذا كله هو سر متعتنا بالقصيدة التي كتبها (القصيبي) عام 1971، ومع هذا، فنحن نستطيع أن نرددها اليوم بعد ما يقرب من أربعين عاما، ونحن نشهد بشاعة المجزرة الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل الشهر الماضي في (غزة)؛ في ظل الصمت المريب لبعض الأنظمة العربية، فنشعر بتردادها أننا لا نزال قادرين على الصمود في وجه العدو، بل نؤمن أن ذلك بالضبط هو واجبنا، إذا ما أردنا أن ندافع عن كياننا ونحفظ لإنسانيتنا كرامتها. ولعل فضيلة الرفض والمقاومة والتحدي التي تعلّمناها من (أحمد عبد المعطي حجازي): (قل لا هنا - لتقولها في كل مملكة سواها ...)، ثم من (أمل دنقل) وغيره من الشعراء الثائرين؛ هي نفسها الفضيلة التي جسّدها لنا (القصيبي) في قصيدته البديعة (السكوت)، وفي قصائد أخرى كثيرة أذكر منها هنا قصيدة (في شرقنا) التي يقول فيها:
في شرقنا ما زالت الجموع
تؤمن بالدموع
بدمعة عند الرحيل
ودمعتين للقاء
.....
في شرقنا لا يكرم الحب ولا يهان
لا يمدح .. لا يذم
لكنه يعيش في الظلام
في نظرة خلف النقاب
في همسة تلعثمت وراء فم
في ناهدين ارتعشا تحت الثياب
في شرقنا لا يعرف الحب الضياء
إلا إذا باركه دق الطبول
.....
في شرقنا ننام في سلام
ونمضغ الأحلام حين يعوز الطعام
وننثني للبدر حين نشتهى الكلام
وعندما نضيق بالحياه
نقول بابتسام:
عليكم السلام
ولا يخفى على قارئ هذه القصيدة أننا هنا أمام قيم سالبة مرفوضة، هي التي تقف وراء تخلفنا وجمودنا، وهي علة ما يخيم على حيواتنا من فقر وبؤس.
*، وربما يكون (القصيبي) هنا متسقاً مع التيار الرومانسي أو الوجداني عموماً، فالقصيدة على رأيه ليست لغزاً أو أحجية حتى يفرغ لحلها أو يجهد نفسه في فك طلاسمها! ولعل أبسط ما يمكن أن نردّ به على مثل تلك النظرة، هو أن هذا الكلام لا يصح إلاّ في حالة واحدة، هي اختزال القصيدة إلى ما تنطوي عليه من المعاني؛ وهذا هو ما تأخذ به نظرية (التعبير) في مواجهة نظرية (التشكيل). لكن الشعر، والفن عموما، ليس مجرد (معنى)، بل إن الطريقة التي يصاغ بها (المعنى) هى دائماً أهم من (المعنى) نفسه، وليس هذا بالرأي الجديد، ولا هو بالمستمد من النظريات النقدية الحداثية وما بعد الحداثية؛ فقد شاع في تراثنا النقدي القديم؛ وكم أحسن (أبو تمام) التعبير عنه في بيته البديع:
ولم أفهمْ معانيها ولكن
شجَتْ قلبى فلم أجهل شجاها
تحية للشاعر الحقيقي الأصيل (غازي القصيبي)، وليت الشعراء كلهم يصنعون صنيعه، ليتهم يضعون أمامنا (سيرهم الشعرية)، ليستمتع بها القراء ويستضيء بها النقاد.
مصر