الدكتور غازي القصيبي أديب متعدد مناحي الإنتاج، فهو شاعر مكثر وروائي قاص لا يقلّ إنتاجه الروائي عن إنتاجه الشعري، وهو بعد ذلك كاتب ناثر منشئ ثم هو باحث في الأدب والفكر وتاريخهما، حتى إن المرء ليحار في أي جانب من هذه الجوانب يضعه وأي صفة يطلقها عليه. غير أن شاعرنا ارتضى لنفسه صفة الشاعر ووصف نفسه بها في كثير من شعره، وحُقَّ له ذلك.
وسيظل الشاعر الدكتور غازي القصيبي مستحقًّا لدراساتٍ أدبية نقدية تتابع شعره وما يصدر له من مجاميع، يتولاها أديبٌ ذوّاقةٌ له أسلوبه الفني، يستطيع أن يجمع بين التذوق الأدبي للشعر والمعايير النقدية الموضوعية دون أن يجور أحدهما على الآخر، فيكشف عن الخصائص الفنية لشعر الشاعر في دواوينه المتعددة، هذا الشعر الذي يشدّك حين تقرأه فتنطلق معه دون أن تعترضك عوارض من عجمة اللغة أوغموض التعبير وإبهامه، وتحسّ معه أن الشاعر يقول الشعر كما يلقي الكلام في يسر وسلاسة دون تكلّف أو محاولة للتحبير والتجويد، ومع سهولته فهو ممتنع على غير هذه النفس السمحة المتواضعة التي تُطلّ عليك من خلال هذا الشعر.
وقد لفَتَني في شعره أمور منها:
إن شاعرنا وثيق الصلة بالتراث التاريخي والأدبي لأمته، يستوحيه وينسج على منواله ثم يجدّد ما أمكنه التجديد. فمن ذلك أنه يقف عند ديوان سُحَيم عبد بني الحسحاس، يقرأه ويحاول أن يستخرج منه صورةً لحياة هذا الشاعر الماجن، وينجح في أن ينظم عن سُحَيْم قصيدة طويلة بنى من خلالها سيرة شعرية مسهبة، مع أننا (لا نعرف عن حياة الشاعر سوى نُتَفٍ منثورة هنا وهناك يغلب على الكثير منها طابع الأسطورة...) كما قال شاعرنا في مقدمته القصيرة لهذه القصيدة وقد ضمّن قصيدته أبياتًا من شعر سُحَيم جعلها بين قوسين.
أليس مما يدعو إلى التأمل أن يكون هذا الذي درس الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة لندن (ولم يدرس اللغة العربية وآدابها في قطر عربي أو أجنبي) أن يكون عارفًا بسُحَيْم عبد بني الحسحاس، قارئًا لديوانه، مستوحيًا حياته في قصيدة ممتعة؟ ونسأل: كم من أدبائنا وشعرائنا الحديثين هذه الأيام يعرف سحيمًا أو سمع باسمه؟
ثمّ ( الأَشَجّ) وما أدراكم مَن الأشَجّ؟ هو الذي عرّفه شاعرنا بقوله من مقتطفات من تاريخ الخلفاء للسيوطي... (وكان عمر بن الخطاب يقول: من ولدي رجل بوجهه شجَّة يملأ الأرض عدلاً)... (وكان بوجه عمر بن عبد العزيز) شجَّة، ضربته دابة في جبهته، وهو غلام، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشجّ بني أميّة إنك لسعيد... وكان غلام لعمر سقاه السمّ، فاستهلّ شاعرنا القصيبي قصيدته المطوّلة استهلالاً بارعًا بقوله:
(لا تأخذوا بدمي الغُلامْ
هو ما سقاني السُّمَّ...
لكني كرعتُ السُّمَّ حين تركْتُكُمْ
تتدافعونَ إليَّ...
حين بسطتُ كفّي
حين قلتم:
أنت يا عُمَرُ الإمام!!)
وقد أصدر هذه القصيدة المطولة في كتاب مستقلّ (نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2001) كما أصدر قصيدته المطولة عن سُحَيم في كتاب مستقلّ أيضا (نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996م).
وشاعرنا - منذ شبابه المبكر - عميق الإحساس بالزمن، وبتقدّم العمر وانقضاء سنوات الشباب. وقد عبّر عن ذلك تعبيرًا متكررًا حتى لا تكاد تخلو قصيدة من التحسّر على الماضي والأسف على الحاضر والخوف من مقبل الأيام. وهذا دأب كثير من الشعراء الذين تراهم وهم في عنفوان الشباب يذكرون أيام شبابهم كأنها ذكريات من الماضي قد انطفأت جذوتها، ويتمنون عودة ذلك الماضي في حين لم يكن قد تكوّن لهم ماضٍ حقيقي لا في العمر ولا في الغزل بالنساء، ولكنها أحوال نفسية تصيب كثيرًا من الشعراء، فيعيشون فيها كأنها حقيقة. وتظل هذه الحالة النفسية تلازمهم في مراحل حياتهم التالية. وشاعرنا يعبّر عن هذه الحالة وعن خوفه من تقدّم العمر أوضح تعبير بقوله:
كان يكتُم عشقَهُ
وَيَكْتُبُ أَشْعَارهُ فيِ الحِسَانِ
وَمَا كَانَ كالآخَرِينَ
فَكَيْفَ يَعيشُ إلى أن يُحَوِّلَهُ الدَّهْرُ
شَيْخًا نَحِيلاً ضَعِيفًا يَئِنُّ وَيَشْكُو؟
ِلَى أَن يَمَلْ
وَتُصْبحَ أشعارهُ مثل خبزٍ قديمٍ ردِئْ؟
وَتُصْبحَ أفْكارُهُ كالقَدِيدِ المُمَلَّحْ؟
يُصْبِحُ كَالآخَرِينْ
وقوله:
آه يَا سَلْمَى انْظُرِي مَا تَرَكَتْ
خُطُوَاتُ الدَّهْرِ فيِ هَذَا الأَدِيمِ
انْظُرِي الْوَجْهَ الَّذِي تَذْرَعُهُ
كُلَّ يَوْمٍ عَرَبَاتٌ مِنْ وُجُومِ
اُنْظُرِي العَيْنَ الَّتي إِنْ ضَحِكَتْ
عَصَرَتْهَا قَبْضَةُ الدَّمْعِ اللَّئِيمِ
وَهُنَا عُودِي الَّذي شَابَ فَمَا
رَاقَصَتْ أَوْتَارُهُ غَيْرَ الْهُمُومِ
وَهُنَا شِعْرِي الَّذي يَذْ وِي كَمَا
تَخْتَفِي الأَنوَارُ فيِ اللَّيْلِ البَهِيمِ
وَهُنَا عُمْرِي ثُمَالاَتُ صِبَا
وَظَمَا قَفْرٍ وَأَشْبَاحُ جَحِيمِ
وشاعرنا كدأب أكثر الشعراء معتزّ بشعره مفاخر به، فهو القائل:
أتذكرين إذا ما غبتُ في سَفَري
أني خلعتُ على عينيْكِ سِحرهما؟!
وأنني قلتُ في عينيكِ قافيةً
ما استوْطَنت ورقًا لولايَ أو قلما؟
وأنني كنتُ في العُشاق.. أعشَقَهُمْ
وكنتُ في الشعراءِ المُفردَ العَلما؟
وكنتِ بين حبيباتي الأعفّ هوىً
الأجمَلَ.. الأنبلَ.. الأصفى.. الأرقّ فما؟
شِعري كحُسْنِكِ لا يَخبُو شبابُهما
لم تَشْكُ ليلى ولا مجنونُها هَرَما
ومهما يكن الرأي في هذا الضرب المبعثر التفعيلات من الشعر الذي يضيع أحيانًا فيه الإيقاع العروضي والذي يخلو أو يكاد من القافية، فإن للدكتور القصيبي شعرًا آخر صحيحًا التزم فيه البحر والقافية. وقد سبق القصيبي إلى بيان الرأي في هذين الضربين من الشعر بقوله: (إنني أشعر أن نجاحي في هذه التجربة -يقصد المطلق من القافية- لم يكن كاملاً فبقدر ما يتيح هذا الأسلوب من حرية في الاسترسال تسمح بتداعي الأفكار وانثيالها، إلا أن قدرًا من الموسيقى التي توفرها القافية يضيع ويتبخر) (سيرة شعرية 1: 107).
وللقصيبي جولات أخرى -في غير الشعر- في ميدان المقالة النثرية والمحاضرات وفي ميدان التأريخ الأدبي والنقد التحليلي. وقد جمع بعض مقالاته ومحاضراته في كتاب جعل عنوانه (العولمة والهوية والوطنية) وجعل عنوان ما جمع من كتاباته في التأريخ الأدبي والنقد التحليلي (عن قبيلتي أحدّثكم). وقد بلغ في الكتابين منزلة عالية في الفكر والأسلوب معًا، وكنت أتمنى لو زادنا من هذا النتاج ليستفيد منه دارسو الأدب العربي.
الأردن