ما الذي يتوقّعه القارئ من رواية تدور أحداثها كلّها في جلسة علاج تستمر عشرين ساعة في مصحة عقلية، يكون فيها الطبيب المعالج مستمعا، والمريض هو المتحدث؟.
في كل الآداب السردية يتحدّث رواة عاقلون إلا ما ندر. لم يأخذ أي روائي بالحسبان أنه مقروء من مجانين. لا يقرأ المجانين الروايات، إنما يقرأون العالم بطريقتهم هم. إذن حيثما بحثنا، وتحرّينا، فمن الصعب العثور على نماذج ندلّل بها على هؤلاء الكتّاب والرواة الذي يشهرون جنونهم، ويتباهون به. أقصى ما يطمح إليه قارئ هو أن يعثر على شخصية ثانوية مجنونة تظهر في فضاء السرد لكي تبرهن على قيمة الشخصيات العاقلة، وأهميتها.هذه قاعدة سردية ذهبية جرى الأخذ بها جزافا دونما تدقيق، حتى دون كيخوته، لم يكن مخبولا. في الواقع كان العاقل الوحيد في عالم استبدّ به ضيق الخيال، والتحيّزات السطحية، فبدا شبه مجنون، وهو ليس كذلك. كان دون كيخوته متشبّعا بقيم أخلاقية كبرى أراد تطبيقها في عصر انحطّت فيه المروءة، والشهامة، والنجدة، والشجاعة، والصدق، فظهر شاذّا بين قطيع من الأنانيين، والجبناء.
شُغل غازي القصيبي بهذا الموضوع، فتلبّسه، وتمكّن منه، وهو الخبير ببواطن الأمور. فكيف يقول قولته دونما شبهة، ويبدي رأيه دونما تعريض مقصود؟ بحث طويلا، وابتكر حلا. اختلق شخصية اتفق العموم والخصوص على أنها رمز العقل، والدراية، ومنحها شهادات علمية، وخبرات كبيرة، وأطلق عليها تسمية (البروفيسور).
حينما يطرق سمعنا هذا اللقب العلمي الرفيع نشنّف آذاننا متوقّعين أنه سيزودنا بنوادر الأفكار، وفرائد الآراء. يحرص كثيرون من حملة الشهادات العليا، والدرجات العلمية المتقدّمة، على هذا اللقب، فيكتبونه قبل أسمائهم، ويستشيطون غضبا لو خوطبوا بدونه، والمؤلف نفسه يحمل شهادة عليا تؤهله أن يكون (بروفسورا) إن لم يكن بالفعل. بلقب (بروفسور) تتوفر حماية كاملة للشخصيات ممّن هم أقل شأنا منهم. أي من أولئك المتطفلين، النزقين، الذين يترفّع عنهم (البروفسور) بمقامه، وعلمه، ودوره. ولكن ماذا نتوقع حينما تنقلب الأدوار، ويكون هذا (البروفسور) مجنونا، هاذيا، مخلّطا. ويكون القرّاء هم العقلاء؟ تنبثق مفارقة سردية كبيرة. تلك هي الحافزية السردية لرواية (العصفورية) لغازي القصيبي.
يدّعى العرب قاطبة أنهم سادة العقل، وترادف كلمة مجنون، في الثقافة العربية، ألفاظ السبّ والشتم حينما تطلق على شخص، فكيف يمكن الحديث من طرف مجنون عن تاريخ غريب من نوعه بين تواريخ الأمم لقوم يظنّون ظن الجاهلية أنهم مستودع العقل الكوني؟ يقترح القصيبي أن يُجرى هذا الحديث في مصحة عقلية يتولاّه ( بروفسور) فيهذر به لعشرين ساعة متواصلة. ولكن مهلا، ففيما أنا اكتب لفتتني في الجملة السابقة عبارة (مصحة عقلية)، وخطر لي أنها المكان الذي يصحّ في العقل، أي يصحو، والحال فرواية القصيبي قادتنا إلى دهاليز هذه الفكرة الغربية. هذا مكان لا صلة له بالجنون، إنه المكان الذي ينشط فيه العقل، ويتحرر من الكوابح الموجودة في خارجه.
للحديث عن العالم العربي، فلا أفضل من أن يلوذ المتحدّث بمصحة عقلية، ليدرأ عنه أية تهمة، ويتخطّى الحدود الحمراء. فهذا هو المكان الذي تتوفر فيه شروط القول الصادق عن عالم خربته الأكاذيب، وهذا هو المكان الذي يصون حرية كلّ من يروم الحديث عن المجانين خارجه. لن يلقى القبض على عاقل في(مصحة عقلية) ويتهم بالخبل. يلقى القبض عليه حينما يكون خارج ذلك المكان، لم يُبعد عاقل أبدا عن مكان خاص بالمجانين، ولهذا فمن المباح للبروفسور أن يختار(مصحة عقلية) فيقدّم لنا راويته عن تاريخ أمته.
وباختفاء المخاوف، وتخطّي حدود التوجّس، يصبح من المتاح النظر بما تحتويه ذاكرة (البروفسور) عن أمته، يا للعجب العجاب من خزين ذاكرة تفتّحت خارج منطقة الخوف، لتعيد رواية خليط مذهل من الأحداث المتقاطعة والمتداخلة من التاريخ المعاصر على خلفية ساخرة تدمج النادرة بالطرفة، والفكاهة بالمفارقة، والمأساة بالملهاة، وتتخلّل ذلك انتقادات مرة، وأحكام نقدية، وانطباعات جمالية، فيظل النص لصيقا من هذه الناحية بمرجعياته التاريخية، لكن الحكاية بأجمعها تترتب في إطار تخيلي ينتهي باختفاء (البروفسور) إما في (عالم الجن) أو (عالم الفضاء) تاركاً (العصفورية) مكانا لطبيبه المعالج الدكتور سمير ثابت الذي أدرك، بعد فوات الأوان، أن مريضه هو العاقل الوحيد في كل ما تحدّث به.
جلس الطبيب المعالج على أرض المصحة، وشرع يضحك، ثم ما لبث أن تحول الضحك إلى بكاء عميق، وهو يردد (ضيعانك، يا بروفسور! والله ضيعانك! ضيعانك). تنتهي الراوية بتبادل الأدوار. يصاب الطبيب المعالج بالجنون بعد سماع حكاية مريضه، ويتلاشى وجود البروفسور في عالم غير مرئي. ولكن ماذا نتوقع من هذر ساخر تقدمه ذاكرة مملوءة بالأحداث لعشرين ساعة دونما انقطاع؟ هل يوجد عاقل واحد لديه القدرة، والصبر، والمطاولة، كي يواظب طوال هذه المدة في الاستماع لحديث غير مترابط، يخترق حدود الأزمنة والأمكنة؟. نعم، وجد شخص واحد فقط، ولكنه انتهى بالجنون، إنه الطبيب المعالج. فلا غرابة أن يكون مصير القرّاء كمصير الطبيب الصبور، فحذار من جنون القصيبي. ومع ذلك، ودرءا لشبهة الهرب من قراءة الرواية خوفا من احتمال الجنون، فقد جازفت وقرأت الراوية قبل عشر سنوات، حينما أرسلها لي الشاعر (علي الدميني) إلى ليبيا حيث كنت أدرّس في إحدى جامعاتها. فماذا وجدت فيها؟
وجدت نصا سرديا عجيبا هو مزيج متنوع من إحالات تاريخية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية معروفة، يصرّ (البروفسور) على روايتها بتفاصيلها، ولم يغب عني أنه قناع المؤلف، وذلك أمر لا يحتاج إلى برهان يثبته، لأنه هو البرهان بعينه. ولم يكتف الراوي بخليط الوقائع إنما استخدم لغات ولهجات كثيرة، فظهر تجاور لفظي متكرر للعربية والإنجليزية، ثم الفرنسية، والإسبانية، والألمانية، والعبرية، وتداخلت اللهجات اللبنانية، والمصرية، والسورية، والخليجية، والعراقية، والتونسية، أشبه بأمواج ساخرة في التداعيات الحوارية.
نقض النصّ القواعد السردية الشائعة في فن الرواية، وبدل أن يمتثل لعناصر محددة، قام باصطناع عناصره، فالشخصيات تستدعي عبر ذاكرة البروفسور بوصفها جزءا من تجاربه وهو يتنقل بين قارات العالم، ثم يتوارى في النهاية. وعلى هذا فهو ينظّم سلسلة حكايات يتولّد بعضها عن بعض، وتتكاثر على نحو مثير للإعجاب، فيختار منها ما يريد، ويترك معظمها عالقة في نسيج السرد، ملاحقا بإصرار عجيب محاور معينة من الوقائع للكشف عن طبيعة حسه الساخر. وتظهر شخصية الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي يعاد تشكيل دوره مجددا، بما في ذلك إعادة ترتيب قصائده، لتنوب عن الراوي في التعبير عما يريد التعبير عنه.
والحال هذه، فالبروفسور والشاعر يتناغمان في احتجاجهما على الأوضاع المحيطة بهما، فيصبح التنافد بينهما حرّا إلى درجة يظهر وكأن كلا منهما يتوارى خلف الآخر، ويُنطقه بما يريد، وكما هي حال المتنبي في تموّجاته الاحتجاجية الغاضبة، وتطلّعاته، وتقلّباته، وارتحالاته، وهيجانه الشاعري المتدفق المشحون برنين إيقاعي متأجج، فإن البروفسور يطفح غضبا وهيجانا، وهو يعيد رواية التاريخ السري لتجربته بين الجامعات، والمصحات العقلية، والوزارات، والمنتجعات، وبين البلدان، والقارات، ليسلط ضوءا كاشفا على خفايا الواقع الذي عاش فيه وأسراره، فاختلط صوته بصوت المتنبي، فكلاهما عاصر أحداثا تقلّبت فيها المصائر على نحو غير معقول.
وبانفتاح الرواية على مرجعياتها التاريخية بصراحة ووضوح، فقد خرّبت ميثاق السرد التقليدي الذي يغلّب الظن بتخيلية الأحداث، وعدم صدقها، وباختراق النص لهذا الحاجز، تحرّر من أية قيود أخرى، سواء في البناء، أو الأسلوب، أو اللغة، فجرى تنضيد الوقائع التاريخية، والقصائد، والأخبار، بجانب الوقائع المتخيلة، فانعكست هذه في مرايا تلك، دون أن تتخلّى عن وظائفها الدلالية. وفي الوقت الذي تشظّت فيه الوقائع، وتناثرت في سياق النص، فلجأ الراوي لكثرتها إلى الحذف والاستبدال ثم الانتقال إلى غيرها، فإنها كانت تعيد تنظيم نفسها لدى المتلقّي، الذي تابع المكونات الأساسية لتجربة الراوي، وهي تتجمّع من موارد عدة، وذلك قبل أن تكوّن مجرى واضحا يقوم على إحساس عميق بالحزن تجاه العالم الذي يعيش فيه، وعجزه عن مقاومة الانهيارات الحاصلة فيه.
ولتأكيد كل ذلك لجأت الرواية إلى الاعتماد على المفارقة المدهشة، فأظهرت الشخصيات غير ما تُبطن، وانتهت على غير ما بدأت، وعاش الراوي حالة دهشة متواصلة وهو يراقب التقلّبات في كل شيء، فعجز عن تفسير ذلك، إذ كل شيء يبدو محكوما بفوضى وعبث كبيرين، ولمقاومة ثقل الأحداث، ومساراتها المتشعبة، ونهاياتها التراجيدية، كشف النص عن منظور هجائي للراوي، واجه به كل ذلك، وحوّله في تيار وعيه إلى مواقف هزلية تضمنت في الغالب، بعدين: يتصل أحدهما بظاهر الأحداث، وهو الفكاهة والسخرية، ويتصل الآخر بباطنها المأساوي، وأحيانا تنقلب هذه المظاهر وتتبادل الأدوار، وتتداخل فيما بينها، فالحبيبة جاسوسة، والثائر عميل، والحلم كابوس، والأمنية لعنة، وفي كل هذا لا يمكن انتظار نهايات محددة، فالأسباب تقود إلى نتائج غير متوقعة، وتتعارض أصلا مع طبيعة الأسباب الموضوعة لها. العصفورية هي المكان الوحيد في هذا العالم الذي يوجد فيه عقلاء حقيقيون، فهبّوا إليها أفواجا أيها القرّاء.
العراق