لعل المطل على حطام المشاريع القومية العربية التي أفضت إلى كل هذا التردي على مستوى الأمة،
سيتساءل: هل كان - هناك حقاً - مشروع قومي تنويري أم أن المشروع القومي قد نهض منذ بداية الخمسينات على أنقاض التنوير؟
هل هناك مشروع قومي عربي ليبرالي أم أن المشروع القومي كان منذ اللحظة الأولى يؤسس للنظام الشمولي العربي؟
وسيتساءل مستنتجاً: إذا كان ثمة تناقض بين المنظور القومي - وظيفياً وإجرائياً عربياً - والمنظور الليبرالي التنويري، فإن هذا التناقض سيفترض جمالياً وفنياً انتفاء وجود رواية قومية عربية، على اعتبار أن الرواية هي نتاج ملحمة المجتمع البورجوازي الليبرالي على حد تعبير لوكاتش، هذا المجتمع الذي انتقل من مرحلة البطولة الملحمية إلى مرحلة ذوبان واضمحلال الشخصية كنتاج للتشييء والاستلاب ومن ثم الاغتراب مع مجتمع الحداثة الرأسمالي وفق القراءة الغولدمانية - لوسيان غولدمان - للوكاتش، والتي كانت تتوازى سياسياً مع ولادة المرحلة القومية الديموقراطية التي نشأت فيها الدول القومية الأوروبية بنشأة اللغات المنشقة عن اللاتينية من جهة، والديموقراطية كرد على الاستبداد القروسطي الأوليغاشي من جهة أخرى.
هذه التحولات من الملحمة إلى الرواية ستتحقق سوسيولوجيا بمثابتها معادلاً جمالياً وفنياً للزمن الحديث وموازياً اضطراداً لزمن الحداثة.
رواية الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي (شقة الحرية) تبدو كأنها حكاية طوبى المشروع القومي هذا الذي يتكشف ضبابه ودخانه عن واقع إقليمي أشد هشاشة من الحلم ذاته مهما كانت قوة حماسته اللفظية والشعارية.
يختار غازي القصيبي القاهرة فضاء لمتنه السردي في روايته (شقة الحرية)، ليس لأنه عاش شبابه الدراسي فيها فحسب، وليس لأنها مدينة قادرة أن تشكل قاعاً سردياً صلباً لبناء معمار روائي عليه، بل بوصفها المدينة العربية الأكثر توفراً على الحداثة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وذات التاريخ الدستوري والبرلماني العريق، بل لأنها في الحاضر - المصور روائياً - تمثل المختبر للمشروع القومي الذي ستؤسس له الناصرية، حيث الراوي يعلن ناصريته منذ الصفحات الأولى للرواية (ص 25).
وأن القاهرة بالنسبة إليه ليست غربة!؟ بل هي عاصمة العرب، حاضرة الإسلام، كنانة الله في أرضه، وأم الدنيا... قاهرة جمال عبدالناصر، وصوت العرب، والنضال ضد الاستعمار، قاهرة الأمل، قاهرة تأميم القناة، هكذا تحضر القاهرة في مخيال شاب عربي قادم إليها من دولة خليجية صغيرة (البحرين)
شاب فتى في (السادسة عشرة) من عمره: طازج التجربة، بريء الطوية، فطري الهوى والانتماء إلى هويته الحضارية والثقافية التي يتخالط فيها القومي؛ فالقاهرة (عاصمة العرب)، بالديني (حاضرة الإسلام)، كنانة الله في أرضه.
إن التسامي الرمزي للقناة في الوعي الطري المفعم بالبراءة القومية لفؤاد لا يتوقف عند حدود أن تأميم القناة هو تخلص مصر من الاستعمار، بل تتعالى الدلالة الرمزية ليكون التأميم رمزاً للغد المشرق، (الذي تصنعه الثورة المصرية للعرب أجمعين).
إن الزمن الروائي الذي يخترق الفضاء المكاني، يتقاطع في لحظة إعلان تأميم القناة، حيث وصل الراوي فؤاد إلى القاهرة (ولم يمر على التأميم سوى بضعة أسابيع) ص 18.
فؤاد ابن البحرين، هو على الأرجح نمذجة: سوسيو - دلالية ثقافية وسياسية للشبيبة المتعلمة الصاعدة في منطقة الخليج، ولا سيما إذا ما استندنا إلى الميثاق المرجعي الواقعي الخارجي للرواية الذي يقول لنا إن الكاتب غازي القصيبي كان قد رحل إلى القاهرة للدراسة عام 1956 فعندها ستكون البحرين وثائقياً (ليست سوى المملكة العربية السعودية) بوصفها الموطن الأصل للكاتب، بعد أن حلت محلها البحرين بغرض التمويه الفني من أجل التعميم الجمالي للدلالة الأدبية، لتحرير عقل القارئ من النزوع إلى المطابقة بين هوية الراوي (فؤاد) وهوية الروائي (القصيبي)؛ مما يجعل من البحرين الأصغر خليجياً مجازاً رمزياً للفضاء الخليجي عموماً وليس البحراني والسعودي الذي كان يمور بكل هذه التفاعلات الفكرية والسياسية التي يمر بها العالم العربي بعد أن غدت القاهرة في تلك اللحظة عاصمته السياسية وفق مصفوفة الحماس الوجداني السياسي والأيديولوجي للشخصية الرئيسية (فؤاد)، الذي يضفي لوناً مشاعرياً وردياً على القاهرة حتى تجاه ما يسيئه منها.
لا شك أن النص إذ يسعى لإنتاج استقلاليته عن أنا الكاتب وانحيازاته الذاتية السياسية والفكرية، فإنه ينتج مغزى دلالته في ذلك التقاطع بين المحور التوزيعي للعناصر السردية والمحور التركيبي الاستبدالي الدلالي لهذه العناصر، وذلك عبر إنتاج المفارقة بين المحور التعاقبي لتاريخية الحدث السردي وهو (الانحياز العاطفي والمشاعري للراوي تجاه صورة القاهرة عبر: (الأمثَلَة). هذا من جهة، والمحور التركيبي التزامني الذي ينتجه زمن قراءة النص أي (تحيينه) من جهة أخرى، حيث إنتاج المفارقة الدلالية بين صورة زمن الماضي (السعيد) الذي تمثله (أخيولة) الراوي عن زمنه (المؤمثل) في القاهرة الناصرية، وصورة الزمن الحاضر، زمن القراءة، الذي يستحضر تلك اللحظة راهنياً، فتنكشف صورة لحظة الحاضر (الكئيب) في صورة انكسار الأحلام القومية وهي تتقصف أمام باصرة المتلقي.
وبذات الإيقاع في إنتاج المفارقة بين زمن الماضي السعيد والحاضر التعيس - هذه المفارقة التي تبدو لازمة للكينونة العربية منذ خروجهم من التاريخ في القرن الرابع الهجري - يمضي النص في إنتاج مفارقاته التراجي - كوميدية، حيث الراوي الشاب يقرر في دخيلته أنه إذا عُومل من قبل الجمارك في مطار القاهرة بطريقة مؤسفة فإنه سوف (يرسل برقية شديدة اللهجة إلى جمال عبدالناصر... ولا شك أنه سيوقع أشد العقوبات على المتسببين....) ص 25.
لقد استطاع القصيبي أن يستبطن الداخل الإيماني العفوي والبريء لهذا الشاب بمنتهى الرهافة بطريقة تعكس حقيقة أن من يعرف هذه الانفعالات لابد أن يكون قد كابدها، لتتكشف هذه المشاعر البريئة والصادقة بإيمانيتها المثالية الشابة عن بساطتها العفوية عند أول صدمة تواجهها، وهي أن الآخرين لا يشاركونه عواطفه السياسية هذه، حيث تتأتى هذه الصدمة من العجوز سائق (التاكسي) الأسطى محجوب الذي يعلق بحيادية شديدة على الوصف الفخم الذي يكيله فؤاد لتأميم القنال؛ فيعتبره عملاً بطولياً تاريخياً، لكن السائق يعلق متجاهلاً عبارة الشاب، قائلاً ببساطة: حتقوم الحرب.
وعندها تحتدم المشاعر الجياشة في فؤاد (فؤاد) ولعل التسمية - فؤاد - لها دلالاتها في هذا السياق؛ إذ سيعلق الراوي (أن المستعمرين أجبن من أن يحاربوا مصر الثورة ومن ورائها الأمة العربية بأسرها) ص 28.
لكن الأسطى العجوز يضيف معقباً أنهم غير خائفين (عشان الروس معانا) فكانت خيبة أمل الراوي الشاب من جديد؛ لأنه كان يتوقع (أن تكون الشجاعة نابعة من الروح المعنوية التي أحياها جمال عبدالناصر...) ص 29.
وتكتمل خيبة أمله عندما يعلن الأسطى (أن زغلول أجدع من جمال عبدالناصر؛ فيعتبره خرفاً؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك مصري يرى شخصية أكثر (جدعنة) من عبدالناصر).
هكذا تصطدم حرارة مشاعر الوجدان الشاب ببرودة تجربة الشيوخ، عبر سردها مشهدياً؛ أي دون تدخل مرئي من الكاتب في نصه الروائي إلا خلسة من وراء ظهر القارئ الذي سرعان ما يمرر عليه تأملاته الثقافية الشعرية والحضارية، من خلال عبارات يفضي بها على لسان فؤاد الأصغر سناً وتجربةً وثقافةً وخطاباً، من أن تستطيع خبرته المعرفية أن يتحدث عن وادي النيل بوصفه عتبة حضارة؛ إذ يقول: إنه لا يجلس بقرب (مجرى ماء وإنما على عتبة الحضارة... عندها شعر أنه يلتحم بالتاريخ.. إلخ) ص 31
بل تتسلل الأنا الشعرية للكاتب من خلال التعبير عن (ضفائر الشفق التي تحول مياه النيل الرمادية، في لحظات، إلى قرمزية).
لقد استطاع القصيبي أن يستبطن الداخل الإيماني لهذا الشاب بمنتهى الرهافة والحب والتعاطف والتضامن مع إيمانه العفوي البريء والساذج بطريقة تعكس أن مَن يعرف هذه الانفعالات لابد أنه عاشها كتجربة حية إلى درجة أنها (محفورة بأعماقه)؛ مما يوهم القارئ بأن الراوي المتخيل ليس إلا الروائي ذاته (الكاتب)؛ لأن استبطان مثل هذه المشاعر لا يمكن بلوغه إلا لمن كابدها، كما ذكرنا، لكن القارئ الذي سيطمئن إلى مثل هذه القناعة عن التماهي بين (الراوي والروائي) سرعان ما تتبدد قناعته بعد أن يتوغل في فضاء الرواية ليلتقي بالشخصيات الأخرى المشاركة في إنتاج الحدث القصصي، حيث سيظهر براعة ورهافة في سبر واستقصاء دواخل الشخصيات الأخرى: عاطفياً، فكرياً بما لا يقل عن درجة استبطانه لفؤاد الشخصية المركزية؛ مما سيتكشف أمام ناظري القارئ أنه تجاه كاتب محترف في صنعته وخبرته وتجربته، احترافاً يتيح له التفرد مع قلائل في الرواية العربية من إنتاج رواية (تعدد الأصوات).
إن القيمة الجمالية للتعدد الصوتي في الرواية إنما هو معادل فني للتعدد الصوتي السوسيولوجي: حيث الاعتراف بالآخر وإقرار مبدأ المغايرة والاختلاف، واعتبار ازدهار الفرد شرطاً لازدهار الجماعة كشرط ضروري للمساواة وللأخوة.
هذا المبدأ يؤسس للتعدد للمعرفي: حيث الاعتراف بحق الآخر في التفكير والتعبير والاعتقاد وعدم احتكار الحقيقة، متوجاً قيمة التسامح بوصفها ذروة الشرعية في سيرورة تحقق التعايش بين البشر التي أنتجتها الحداثة كفضاء للشرعية الدستورية ودولة القانون والحريات الديموقراطية.
هذه القيم الجمالية والمعرفية تقوضت بتقوض التجربة السياسية الليبرالية في العالم العربي، واندحار قيم التنوير والنهضة الثقافية والأدبية.
والكاتب منذ الفصل الأول التمهيدي المشخص في بوابة المتن الحكائي، لا يغادره دون أن يقدم لنا الشخصيات الأخرى الفاعلة في الحدث الروائي، والمنتجة في أصواتها المتعددة والمغايرة لمغزاه الدلالي.
هذه الشخصيات هم أصدقاء (فؤاد) الذين سبقوه في القدوم إلى القاهرة بأسبوعين؛ أي أنهم من الشبان اليافعين للمجتمع الخليجي وفي نموذجه البحراني، وإن كان علينا أن نتذكر أن الأصول السعودية للكاتب (القصيبي) ستمنح النص بعداً تجريدياً تعميمياً مجازياً ودلالياً؛ إذ إن صوته التركيبي كمنتج للنص يمنح النص استقلالية عن مرجعيته الميثاقية والتوثيقية والتسجيلية؛ إذ عليه أن يكتب تمايزات المجتمع البحراني، حتى ولو كانت تمايزاته نسبية عن بقية المجتمع الخليجي، وخاصة عن الدولة الأكبر التي ينتمي إليها الكاتب.
الأصدقاء الثلاثة لفؤاد تربطهم صداقة منذ كانوا في سن السادسة وظلوا معاً حتى جمعتهم القاهرة، وهم (عبدالكريم ويعقوب وقاسم).
الأول (عبدالكريم) ينحدر من عائلة دينية شيعية، طيب إلى حد السذاجة، كريم ووفي وذو مزاج متقلب، فيه مسالمة التربية الدينية وتمردها وعصيانها، عندما سيرفض الذهاب إلى النجف لدراسة العلوم الدينية كما أراده والده الشيخ، وواصل ثورته عندما أصر على دراسة الحقوق في جامعة القاهرة رغم معارضة الشيخ أن يدرس ابنه (قوانين وضعية).
أما (يعقوب) فهو شخصية درامية منشقة على نفسها، أرادها الكاتب صوتاً معبراً عن كل الاندفاعات الجامحة الراديكالية القومية واليسارية لتلك المرحلة، حيث لا يمل يعقوب من اعتناق القضايا والانقلاب عليها بذات الحماس، ما دام الهدف الرئيسي للثورة: اقتلاع المجتمع القديم وإقامة مجتمع جديد، وهو متعدد المواهب: الرسم والغناء والشعر والخطابة - ص 35.
أما قاسم فهو نقيض يعقوب في رفضه للأفكار القومية واليسارية، بل هو معارض لها بشدة على طريقة البورجوازيين الجدد، حيث بدأ أبوه عاملاً بسيطاً، وانتهى به المطاف مليونيراً.
إن رغبة الكاتب في الارتفاع بشخصية (قاسم) إلى مستوى تمثيلي لصوت القوى المضادة للناصرية والاشتراكية، أرغمه على تحميله بحمولات ثقافية وسياسية ينوء تحتها عمر فتى يماثل (فؤاد) عمراً؛ أي السادسة عشرة من العمر؛ فأبهظه بقدرات (قراءة التايم والنيوزويك)، وهذه القدرات - هي على الأغلب - قدرات الكاتب منتجه ومبدعه على تقديم الصوت الآخر الذي يتيح (النقيضة) الدرامية في الرواية أن ترتقي في حواريتها إلى مستوى ثقافي رفيع سيميز الإنتاج الأدبي لغازي القصيبي الذي يتكشف عن ترسانة هائلة من المعارف التراثية والمعاصرة في الأدب العربي والعالمي والتراث الفكري والفلسفي العربي الإسلامي والإنساني؛ مما تظهره شخصية (البروفيسور) في نص مفتوح على الرواية والمسرح... إلخ كنص (العصفورية) الذي أطلق عليه الطيب الصالح صفة (رسالة غفران زماننا)، على غرار (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري؛ مما يمنح سرديات كاتبنا بما فيها سردية نص مسرحية أو حوارية: (هما) نكهة ثقافية مميزة في المنتج السردي العربي، وإذا كنا نستخدم مصطلح: النص السردي أو المسرحي والحواري، فلكي نحرر نصوص كاتبنا من ملاحقة التصنيفات الأكاديمية التي كثيراً ما يتحكم بها ضيق الأفق إلى حد أنها لا يرتاح لها بال ولا يقر لها قرار إلا بالتصنيف والبحث عن خانات أو زنزانات يزج بها النص تحت ادعاء منحه الهوية: (رواية قصة - مسرحية... إلخ).
لقد اختار النص القاهرة مركز الثقل السياسي والثقافي والمدني العربي خلال القرنين الماضيين اللّذين شكلا عصر النهضة العربية بغض النظر عن الدور الشامي المميز في الزمن التنويري الليبرالي المصري ما قبل المرحلة الناصرية.
بل كانت الناصرية بالنسبة للكثيرين من المفكرين القوميين بمثابة نهضة جديدة تؤسس لعصر ثوري جديد، عنوانه الانتقال من (الوطنية القطرية) القائم، إلى (الوطنية القومية) المفترضة؛ فكانت رواية (شقة الحرية) بمثابة حوارية حول حقيقة هذه النهضة الجديدة المفترضة (الناصرية) وممكناتها ومآلاتها من خلال الصوت القومي الناصري وهو الصوت الرئيسي؛ إذ يكون شاهداً على الأحداث ومحاوراً التيارت الأخرى التي يمثلها أصوات زملائه، بل أصوات شخصيات ذات حضور توثيقي، حيث لن يكون شاهداً ومحاوراً مباشراً فحسب، بل فاعل من خلال صلته وحواره المباشر مع هذه الشخصيات الحقيقية: ميشيل عفلق - صدام حسين - وأحمد الخطيب، ومن ثم علاقته التنظيمية مع البعث والقوميين العرب.
إلى جانب الشخصيات الوثائقية التي التقاها واحتك بها مباشرة، وهناك الأسماء التي تتوارد من خلال ملفوظ الخطاب الروائي غير المشهدي، لكنها أسماء وثائقية حقيقية وفاعلة في زمنها؛ فإضافة إلى جمال عبدالناصر موضوع الحوار الرئيسي تتردد أسماء عبدالكريم قاسم، الملك سعود، الملك حسين، الأمير فهد، جورج حبش، وديع حداد، وشخصيات ثقافية: الهضيبي، عودة، أمين الريحاني، الشيخ محمد أبو زهرة، لقاء طه حسين.. ص 230، والعقاد.. ص 332، نجيب محفوظ الذي يلتقيه.. ص 198.. سليمان العيسى، غسان كنفاني.. ص 40 وعشرات الأسماء.
لعل الصوت الأكثر وضوحاً وصراحةً كان صوت (قاسم) في رفض الناصرية، وعلى هذا فقد أنشأ له النص صلة صداقة مع شاب مصري من أسرة أرستقراطية يدعى (نشأت) وهو ابن لوزير داخلية سابق؛ حيث سيحدث بينهما (تطابق في الأفكار بين سليل الأرستقراطية الصاعدة في البحرين ووريث الأرستقراطية الغاربة في مصر).
إن المنظور التعددي الصوتي للنص لا يتيح لنا أو للقارئ المنحاز للناصرية أن يتهم الكاتب بالانحياز للناصرية أو الانحياز المضاد؛ لأن الكاتب سينجح إلى حد بعيد من إنتاج المسافة الضرورية روائياً عن شخوصه في أن لا يحملهم آراءه لينافحوا عنها، بل يمنحهم أقصى الإمكانات في الدفاع عن وجهات نظرهم، وآية ذلك أن (قاسم) ذاته عندما كان يبخّس من الأحلام القومية لأصدقائه من خلال التشكيك بمعلومات وأخبار الإعلام المصري عن حرب السويس، وذلك عندما يقوم الإعلام المصري بتكذيب تدمير طائراته عن آخرها وادعائه أنها لم تكن سوى هياكل خشبية، وأن بور سعيد احتلت خلال ساعات وأن المقاومة البطولية كذب من اختراع الخبراء الألمان.
وفي عين يعقوب الذي كان يعيش إرهاصات دخوله إلى الحزب الشيوعي المصري، فإنه كان يمثل الصوت اليساري الذي سيعزو وقف الاقتتال والانسحاب إلى التهديد السوفييتي.
وعلى هذا فإن للجميع ذات الحقوق في التعبير وإن لم يكن لهم ذات الحضور الركني في المعمار الروائي، حيث سيحتل (فؤاد) دور الشخصية الأولى؛ بوصفه العنصر الفاعل في منظومة التواصل بين العوامل الروائية البنائية من جهة، ومنظومة الفواعل التواصلية سوسيولوجيا من جهة أخرى، حيث إن التنضيدة الأولى للعوامل البنائية استندت في مصفوفتها التكوينية إلى التنضيدة الثانية للفواعل التواصلية بل التفاصلية في مصفوفتها السوسيولوجية؛ حيث إن فؤاد كثيراً ما تساءل: كيف أمكن لهذه الشخصيات المتنافرة أن ترتبط بصداقة عميقة؟ فوجد التفسير في أن كل واحد منهم يكمل الآخر؛ فثورية يعقوب تكمل رجعية قاسم، واندفاع قاسم يكمل مهادنة عبدالكريم... فيما هو (فؤاد) يتصور نفسه مزيجاً عجيباً من شخصيات أصدقائه، ركبه صيدلي غشيم؛ فأخذ الثورية من (يعقوب)، والمحافظة من (قاسم)، والتردد من (عبدالكريم).
هذا التصور لهذه الترسيمة العاملية - على حسب تسمية غريماس - يشكل معادلاً دلالياً مجازياً لتصور معرفي ثقافي للمجتمع سوسيولوجياً، حيث مكونات المجتمع وفق هذا التصور تتوضع توضعاً تكاملياً ديموقراطياً وليس دمجاً قسرياً لشرائح متضادة ومتحاربة؛ فهوية الأنا تتحقق في تكامليتها وليس في تعارضها مع الآخر؛ فالثورية تكمل الرجعية تكاملياً ولا ترفضها تصارعياً، حيث الجميع ضد الجميع، والإنسان ذئب الإنسان، كما هي الصورة (الهوبزية) عن الولادة المتوحشة للرأسمالية منذ ثلاثة قرون، أو كما هي عليه في عالمنا العربي اليوم.
كما أن هذه الترسيمة تؤسس فهماً للوحدة الوطنية يقوم على الدمج الوطني من منظور (المواطنة)، بل إن هذا التعدد بمقدار ما هو مرغوب على مستوى وحدة الجماعة، بمقدار ما هو مرغوب على مستوى وحدة الشخصية التي يمثلها (فؤاد)؛ بوصفه في آن واحد فيه قسط من الثورية وقسط من المحافظة وقسط من التردد والتوجس وقلق الهوية بوصفها صيرورة تاريخية لا بمثابتها ثابتاً انطولوجياً.
هذا التعايش بين الأقساط في شخصية (فؤاد) الموحية بالتواري خلف الراوي والروائي معاً، كان يبرهن عليها النص من خلال الحوارات الرفيعة والرهيفة التي يمنح فيها كل صوت كل الحقوق في الإفصاح عن مكنونه كما أشرنا؛ حتى ليخال القارئ بأنه قبض على رؤية الكاتب التي سرعان ما ينساب الخطاب بمنعرجات أخرى باتجاه إنتاج أطروحة مضادة ليست أقل عمقاً وصدقيةً واقناعاً من الأولى، ف(فؤاد) الناصري عقلاً وفكراً ووجداناً وحماساً قد يورط القارئ في استنباط موقف الكاتب ذاته، وكأنه منحاز إلى رؤيته الناصرية، هذا القارئ سرعان ما يتراجع عندما يعطي الكاتب الرؤى الأخرى فرصها القصوى في دحض وتفنيد ونقد الناصرية مما يبدو للقارئ كأن الكاتب مناهض للناصرية، لكن كاتبنا الموهوب والمثقف المبدع سرعان ما يصدر عن ذات مبدعة أمينة ومخلصة لإبداعها وشروط تحققه الفنية؛ إذ سرعان ما يتراءى أمام عيون القارئ أنه لا هذا ولا ذاك، بل هو الفنان القابع وراء كل هذه المخلوقات المستقلة الحرة بنفسها وفكرها وخياراتها، أو قل إنه خالق هذه العوالم التي يتركها تسير بقوانينها الداخلية، بينما هو مشغول بتقليم أظافره...!
يمنح الكاتب وزير الداخلية في زمن ما قبل الثورة فرصة كاملة لتفسير ما حدث عند الإطاحة بالنظام، من خلال (قاسم) صوت الرأسمالية الصاعد الذي راح يطرح أسئلة على (محرم باشا) والد (نشأت) صوت الرأسمالية المصرية الغاربة؛ حيث يتوافر الكاتب على معلومات قيمة عن ظروف سقوط الملك فاروق يرفد بها محرم باشا؛ ليكون قوي الحجة ساطع البرهان.
إن تفسير الباشا لسقوط النظام تفسير طريف وقابل للتفكير جدياً، بل يرتقي إلى حدود النظرية في منظور القوى المحافظة التي ترى أن سقوط الأنظمة يكون بسبب ضعفها لا بسبب استبدادها، وهكذا سيفسر قيام الثورة الفرنسية والروسية.
لقد قدمت للملك أسماء الضباط الأحرار دون أن يتحرك، بل اكتفى بأن استدعى رئيس الوزراء جمال عبدالناصر ووبخه. ولو وضع الملك عشرة ضباط في السجن لبقي ملكاً، لكن الانقلابيين تعلموا الدرس من تجربتهم، حيث أدنى بادرة الآن وتعلق المشانق وتفتح المعتقلات.
ليختم الباشا حديثه بحكمة غرسها (قاسم) في رأسه: الضعف هو أبو الثورات، لا الاستبداد، ولا الجوع - ص 290 - 293.
إن قوة المنطق والاستنباط الذي يخلص له الباشا لا يملك المتلقي المعاصر إلا أن يعجب بصدقية هذه الحكمة التي أطلقها الزمن الروائي منذ الخمسينيات على لسان الباشا؛ لأن زمن القراءة يأتي ليبرهن على حقيقتها.
بالطريقة ذاتها يعطي لخطاب الإسلاميين كل قوته النقدية؛ إذ يعرض لحجته في نقد نظام عبدالناصر؛ إذ يتساءل (رؤوف): هل هذا مجتمع مسلم؟ انظر! صور عبدالناصر في كل شبر.
وفي كل الحوارات التي يحفل بها نص (شقة الحرية) يتمتع فيها الجميع بذات الحقوق في التعبير، التي يديرها منتجها بنزاهة فكرية وسياسية وثقافية عالية، بل إن إعطاء الجميع القوة القصوى لحجتهم يكشف عن درجة معرفة الكاتب بالحياة السياسية والثقافية لعصره، حيث يتحدث باسم جميع المدارس السياسية والحزبية من خلال معرفة عميقة بمكنونات خطابها الأيديولوجي والسياسي، وهذه المعرفة الموسوعية سنجد معادلها العالمي في نص (العصفورية) من خلال اتساع وعمق استيعابه للتيارات الفكرية والفلسفية للعصر.
بل يتمتع بشجاعة فكرية أن يبدي آراء جديدة ومفاجئة في قراءتها للحياة الفكرية والثقافية والأدبية لزمنه من خلال لقائه مع طه حسين ونجيب محفوظ والعقاد، حيث مع الأخير يصحح أو يرد على تصورات طالما تم تردادها ضد العقاد حول النزعة (النيتشوية) وفلسفة القوة التي جعلته قريباً من النازية سياسياً، فيفاجأ القارئ بهذا الحوار مع العقاد المختلف؛ فعند طرح السؤال الشاغل لفؤاد إن كان هناك تناقض بين القومية العربية والإيمان بالإسلام، أجاب العقاد على الفور:
اسمع يا مولانا! التناقض الوحيد هو بين العبودية والحرية، بين الاستبداد والعدالة، بين الديكتاتورية والديموقراطية... لا بديل عن الحرية. كل ما يطرح بديلاً عن الحرية هو ديكتاتورية؛ إذا طرحوا الإسلام بديلاً عن الحرية فاعرف أنهم يطرحون إسلاماً مزيفاً.. إذا طرحوا الاشتراكية بديلاً عن الحرية، فاعلم أنهم يطرحون عدالة كاذبة.. إذا طرحوا القومية بديلاً عن الحرية، فاعرف أنها مجرد شوشرة أيديولوجية.. تسألني عن القومية يا مولانا؟ شوف هتلر عمل أيه باسم القومية! شوف موسوليني! ص 334.
وكأن سوق هذا الخطاب على لسان العقاد مقصود بذاته للرد على شائعات اتهام العقاد بالفاشية أو النازية من خلال حملات اليسار عليه؛ ولذا فقد كانت الوظيفة الدلالية لهذا المقطع السردي وظيفة تفسيرية لما هو خارج النص؛ أي للسياق المرجعي الثقافي الذي يتحقق النص في فضاءاته، بل إن النص يطمح إلى أن يطرح نفسه داخل السجال الثقافي لعصره؛ ليدلي بدلوه في فهم أفكار عصره، حيث إن لذة النص - بتعبير بارت - لا تكمن في فخامة تذوق الدال فحسب، بل التزود بحصيلة معلوماتية ومعرفية، والقصيبي يبرهن من خلال هذه الرواية ورواياته وحوارياته الأخرى، وبخاصة (العصفورية)، على أن المعاناة الجمالية هي معاناة معرفية، وأن الإبداع الأدبي ليس ثمرة التخييل الفانتازي فحسب، بل ثمرة التخييل المعرفي الذي يضيف إلى حصيلة القارئ مزيداً من المعرفة بالعالم، ومعرفة بمكوناته، حيث غدت الرواية اليوم ولدى الروائيين الكبار شكلاً من أشكال البحث والتقصي تتطلب تخصصاً في موضوعها.
هذه الترسيمة التي تحكم النظام العقلي ل(فؤاد) ربما أوحت للقارئ بأن المستبعد الوحيد منها هو الماركسية أو الشيوعية، ومن ثم لا بدَّ أن تكون الأطروحة المضادة لترسيمة الكاتب الفكرية هي الشيوعية، لكن القارئ سيفاجأ عندما يقدم الروائي وجهة نظر الشيوعية المصرية بحيادية شديدة في تقديمها لذاتها، ومن ثم منح الشخصية الشيوعية نباهة وحذاقة في تقديم نفسها ورأيها وموقفها من مجمل القضايا التي كانت تشغل بال (يعقوب)، بعمق سياسي ونظري فكري ربما عجز عنه الكثيرون من سدنتها؛ حيث يقوم الأستاذ (سين) بالإجابة عن أسئلة (يعقوب) الحائرة والقلقة حول الإسلام ورضاعته له مع الحليب؛ فلا يستطيع أن يتخلص من هذا الجزء من نفسه... والنقطة الثانية خشيته على حريته من أن يكون عمله الحزبي على حسابها، فإذا أراد أن يصلي أو يصوم فيريد أن يفعل... وإذا أراد أن يكون ماركسياً مسلماً فسيفعل؛ لأنه يريد أن يكون موقفه من الدين نابعاً من اقتناعه.
وفي المآل يرى (الأستاذ سين) أنه إذا كان الموقف الشخصي من الدين لا يتناقض مع الفكر الماركسي ومصالح الناس فلا جناح عليه أن صلى وصام ليلاً ونهاراً - ص 298 وعلى هذا فإن المصفوفة الذهنية النظرية للشخصيات تنتج وعياً مطابقاً بالترسيمة البنائية للفواعل الروائية؛ فلا يستبعد أحداً بالدرجة ذاتها التي لا يمتاز بها أحد على الآخر؛ فالكاتب يعطيهم الحقوق ذاتها وبالتساوي في التعبير عن أنفسهم، والحقوق ذاتها بصياغة الأطروحة المضادة التي تدفع أطروحة الخصم، حيث تبدو رواية (شقة الحرية) تحقق شرطها البنائي كفن حديث معادل ل(الدنيا الحديثة)، على حد تعبير نجيب محفوظ، بوصفها فناً تعددياً بالضرورة، تنويرياً بالضرورة، ديموقراطياً في المآل.
تختتم هذه الرواية الفذة لكاتبنا الفذ (شقة الحرية)، بإلقاء (فؤاد) النظرة الأخيرة على حياته في القاهرة وهو يغادرها في الطائرة، ويلقي نظرة على شقة الحرية؟! رحم الله الحرية. والوحدة والثأر، والاشتراكية!
سورية