غازي القصيبي مثقف شامل، موسوعي المعارف والخبرات، متعدد المواهب وهو نوع نادر من المثقفين في زمن ما بعد الحداثة؛ حيث يجري في هذا الزمن الإعلاء من شأن التخصص الدقيق. وفي مواجهة ذلك تنتشر العلوم البينية التي تؤذن بنهاية العلوم المتخصصة في حين أن ما بعد الحداثة تعمل على تجزئة الثقافة وتشظيها لأسباب كثيرة يتعلق أغلبها بتطور العلوم والتكنولوجيا الهائل والدور المتزايد الذي تلعبه وسائل الاتصال الحديثة في هذا التشظي على المستوى الاجتماعي حيث يكون بوسع الفرد أن يعيش مع نفسه منفرداً ويلبي له الإنترنت كل حاجاته.

وبالإضافة للدور الذي يلعبه هذا النوع من المثقفين الموسوعيين في صد الهجمة مابعد الحداثية بالمعني السلبي والضيق لما بعد الحداثة؛ فإنه يلعب أيضا دوراً بنائياً في إعادة ربط كل القضايا ببعضها البعض عبر رؤى وأفكار، ومن ثم تأسيس وعي شامل بهذا الترابط وإعادة الوحدة لعالم يتفكك.

ترددت كثيرا هل أكتب عن (غازي القصيبي) الشاعر أم الروائي أم خبير التنمية، أم الناقد الأدبي بخبرته الحياتية كسفير ووزير وموظف كبير في بلد غني أتاحت له تعليما راقيا وحياة مرتاحة.

واخترت في النهاية أن أتعامل مع إنتاجة الغني من موقع النقد الثقافي الذي تعرف على الوشائج الخفية بين كل الحقول من العلم للفلسفة ومن الرياضيات للنقد الأدبي للفكر الديني للتنمية، وقد صنع بذلك مهاداً خصبا للتفكير بالكليات انطلاقا مما هو جزئي.

ولكنني بطبيعة الحال لم أستطع بسبب الوقت قراءة كل إنتاجه الغزير، فكان أن اخترت نماذج أعتقدت أنها دالة، واستثنيت الشعر لأن شعره يبقى في حاجة لمعالجة خاصة؛ ففي الشعر تكمن فرادة الرجل التي يستدعي التعرف عليها إعادة القراءة والمزيد من التدقيق وحساسية التلقي وشحذ أدوات النقد والانتقاء من عالمه الواسع ما يلائم الذائفة وما يمكن أن يبقي بعد زوال المناسبة التي كتب فيها وهي عملية ليست سهلة، وهكذا توقفت أمام خمسة كتب من كتبه اخترتها عشوائيا على أمل أن أقوم فيما بعد بدراسة شعره والكتابة عنه شاعراً هو الذي يقول وهو يعلق على ديوان لعلي الدميني (بياض الأزمنة) (فذوقي لا يقيد أحد غيري، وفهمي ليس معيارا ألزم به الآخرين).

وبدأت بروايته (الجنية) التي سماها حكاية، وهي تدور كما يتضح من عنوانها حول علاقة البطل بعالم الجن، وقد حشد لها المؤلف ثمانين مرجعا أو يزيد في علوم الدين والسحر والانثروبولوجي، بل والشعوذة، ولا أعرف لماذا خطر لي وأنا أقرأها أنه كشاعر كان يبحث في الأساس عن ما قالت عنه الثقافة العربية إنه (شيطان الشعر) ولا يبدو لي أنه قد وجده بعد أن فشلت تجارب زواج البطل من جنيات مغاربيات، إذ من المتعارف عليه أن المغرب هي بلاد السحر والسحرة، وعلى ما يبدو فإن شيطان شعره تعلق بالشاعر إبراهيم ناجي الذي افتتحت أشعاره كل فصول الرواية.

ويمنحنا سؤال المفتح مفتاحا آخر لاختيار البطل الزواج (بجنية) إنه بحث الإنسان منذ دب على الأرض وتكلم ونشأ لديه الوعي بذاته كإنسان وهو البحث المضني عن الحرية والشوق الدائم للتحرر من الضرورة والانطلاق في عالم الحرية التي لا تحدها حدود؛ إذ يبدأ السؤال على النحو التالي:

أيتها الجنية

هل أنت الحرية؟

أيتها الحرية

هل أنت جنية؟

وغني عن البيان أن سؤال الإنسان الفلسفي عن الحرية قد وجد آلاف الإجابات من مفكرين وفلاسفة وشعراء وتشكيليين وموسيقيين ولكن شعلة القلق الوجودي لم تنطفئ حتى زمن الناس هذا وتظل الإجابات تتواتر لتولد أسئلة من نوع جديد كلما سبر الإنسان المزيد من أعماق الكون.

ويقدم لنا الراوي نفسه مستخدما كل تقنيات القص من السخرية إلى التخفي، ومن المفارقة إلى تداخل الأزمنة إلى التشويق المتميز للحبكة البوليسبة، بادئا على طريقة مغني الربابة بالقاء السلام على الحاضرين، ودون أن ينسى أن من بين قرائه نساء فيقول أيها القراء الكرام (والقارئات بطبيعة الحال). وبمناسبة الإهداء للقارئات تزوج البطل من أربع نساء طبقا للشرع لكنه لم يحتفظ بهن جميعا معا في معارضة ضمنية لهذا النظام لأنه استقر في النهاية على زوجة واحدة.

أما طريقة السرد الرئيسية فتنهض على إقامة علاقة مباشرة مع القراء فيخاطبهم كما لو كان معهم في مقهى أو سهرة حميمة. كما أنه ينقل آراء الراوي السياسية والاجتماعية في لمحات عابرة وخاطفة ولكنها دالة للغاية، فهو يحكي كيف رفض والده السعودي زواجه من مغربية فيقول ساخرا (رفض المشروع المشرقي - المغربي رفضا قاطعاَ نهائيا لا رجعة فيه، وأيدته الوالدة، رحمها الله، بحماسة بالغة، وإنضم إلى جبهة الرفض والتصدي عدد كبير من الفضوليين من أفراد الحمولة ). وسوف نلاحظ أن الكاتب يحرص على استخدام مفردات علم الانثروبولوجي الذي كان يدرسه البطل (ضاري ضرغام الضبيع) مشددا على انتمائه للغة الضاد وهو يشير هنا إلى أفراد (الحمولة).. ولكن تخصصه في هذا العلم لم يغلق أمامه باب إسقاط الأوهام، وقد فعل ذلك في بعض الأحيان عبر معلومات استقاها من مراجعة، فأضاف للرواية وللقارئ معرفة جديدة بالعلم الذي تخصص فيه وبالأصول الواقعية التي جاءت منها الخرافات (معظم الجن في المنطقة الشرقية، حيث الواحات والمزارع والنخيل، كائنات زراعية على نحو أو آخر وفي المنطقة الوسطى الصحراوية، تتحول هذه المخلوقات إلى كائنات صحراوية، وفي الحجاز حيث الأماكن المقدسة، لا يهاجم الجن إلا الأشرار بشراسة تشير إلى مصير من يرتكب جرما في أقدس الأماكن، وفي عسير حيث الجبال الشاهقة والوديان العميقة، تتحول الكائنات الجنية إلى ادوات ضبط فعالة، تعين الآباء والأمهات على التحكم في تصرفات الصغار وإبقائهم بعيدا عن مخاطر الضياع في الوديان والجبال ).

وتعد هذه الفقرة مرتكزا أساسيا لكل ما تبقي من الحكاية أو الحكايات حول قصتي زواج بجنيتين مغربيتين وثالثة أنجب منها وهي أنسية ذات صلة قرابة بواحدة منهن لنعرف أن كل ذلك العالم هو من نسج الخيال وهواجي النفس لواحد من الذين تعمقوا في دراسة السحر حتى تحول إلى ما تصور أنه واقع. وهي تحولات تنطوي على قوة تصوير بارعة تجعل القارئ يصدق طيلة الوقت أنه فعلا في حضرة جنيات طيبات وأخريات شريرات وشياطين يستدعيهم سحرة ماهرون سواء من اللاوعي الإنساني الغائر أو من قوة الخيال الخارقة، وفي كتابه (صوت من الخليج) ونسخته التي وقعت في يدي تشير إلى أنها الطبعة الثالثة. ويضم الكتاب ثلاثة وخمسين متابعة لأعمال أدبية وفكرية من الخليج العربي تعد في حد ذاتها ثروة لمن لم يتابع الإنتاج الأدبي والفكري في هذه المنطقة الحيوية من الوطن العربي التي طالما ارتبطت ظلما بالثروة أكثر منها بالثقافة: ويشير (القصيبي) في مدخل هذا الكتاب إلى أن تطورات كثيرة، في مقدمتها ثورة الاتصالات والمواصلات عملت تدرييجيا، على ردم الهوة بين القلب والأطراف حتى وصلنا إلى مرحلة تحولت فيها الأرياف الفكرية، بدورها إلى مراكز جديدة للثقافة، تأخذ وتعطي وتفعل وتتفاعل ونلمح عتابا رقيقا وضمنيا لمثقفي المشرق العربي وللمصريين على نحو خاص في قوله إن الكثيرين من القلب يجهلون، أو يتجاهلون، ما يدور في المناطق التي كانت حتى عهد قريب، خالية من أي نشاط ثقافي يذكر (وهي شكوى يرددها مثقفون في بلدان المغرب العربي أيضا ويتهمون المشرق بتجاهلهم، وطالما قيل أن مصر ظلت مكتفية بذاتها ربما بسبب عدد السكان الكثير والتاريخ الضارب في القدم وتنوع المنابر الثقافية فضلا عن ريادتها في تجربة الحداثة العربية كلها منذ نهاية القرن الثامن عشر.

ويلتقط (القصيبي) في تعليقه على الشاعر البحريني (إبراهيم العريض) انشغال الأخير بالجن، فنعرف أن اهتمامه هو بالموضوع الذي كتب عنه رواية هو اهتمام قديم. وأستطيع هنا ان أرد عليه بثقة في قراءته العربية للمستقبل قائلة كما أن مثقفي مصر لا يتابعون الجهد الفكري والإبداعي في الخليج يفوت بعض مثقفي الخليج ما يجري من بحوث مهمة في علوم المستقبل وليس كما يقول (القصيبي ) إننا إذا استثنينا كاتبا أو كاتبين، أو ندوة أو ندوتين لم نجد في عالمنا العربي من علماء المستقبل سوى ضاربي الودع وزاجري الطير وقراء الفناجين.

في مصر كاتب تخصص منذ ثلاثين عاما في علوم المستقبل ونشر عدة كتب، هو (راجي عنايت)(ومركز بحثي هو منتدى العالم الثالث انشغل أيضا على مدى ثلاثين عاما منذ أسسه المفكر الراحل إسماعيل صبري عبد الله بإنتاج تصورات مستقبلية في كل الميادين عن مصر 2020 في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والصحة والمياه والفنون 00 الخ.

كذلك هناك جهود مركز المعلومات ودعم إتخاذ القرار في رئاسة الوزراء في مصر الذي يخطط لبرنامج طموح للمستقبل، وبالقطع فإن الكتاب الذي عرض له(القصيبي) في هذا الصدد للمفكر البحريني (محمد جابر الإنصاري) العالم والعرب سنة 2000 كان أو سيكون أحد مرجعيات هذه الجهود لبلورة المشروع النهضوي العربي المنشود، ذلك المشروع الحلم الذي يستحيل أن يتحقق دون الدخول العربي الحقيقي إلى عصر إنتاج العلم وليس الاكتفاء، كما هو الحال الآن باستهلاك منتجاته دون معرفة واليكم هذه الحقيقة التي يسوقها الرجل متألماً وغاضباً. (هل تعرف أن العالم العربي سينفق ما قيمته10 بلايين دولار على الصناعة البتروكيميائية خلال العشرين سنة القادمة دون أن يتمكن من تصميم مصنع بتروكيميائي واحد؟ ).

وهو يدعو ضمنيا لتحرير العلم من سطوة العقيدة لأن (العلوم الطبيعية والتقنية التي تخضع للتجربة لا تقوم على عقائد، وعلينا أن نعتبر ما وصلت إليه الحضارة الغربية التقنية الآن امتدادا طبيعيا لما حققته الحضا رة التي قامت في ديار المسلمين والتي كانت هي أيضا إمتداد للحضارات القديمة ).

وكنت قد تابعت معركة (القصيبي ) حول إمارة الشعر وإصراره أنه ليس للشعر إمارة تعطى(لشوقي) أو لغيره من الشعراء وهو ما أوافقه عليه تماما، وأضيف أيضا أن فكرة تراودني منذ زمن طويل حول هذا الموضوع الذي يرتبط عميقا من وجهة نظري بفكرة سياسية أعمق حول واحدية الزعامة والزعيم الأبوي القديم في الوطن العربي والعالم الإسلامي والذي لا يندر أن يلبس أردية دينية.

وبمناسبة الاستبداد الأبوي ألا نجد أنه من الطبيعي أن نكتشف ان معظم الشعر النسائي في أدبنا من تأليف الرجال كما يقول ثم يختتم مقاله عن لميعة عباس عمارة العراقية قائلا:

(أما آن للشعراء الرجال أن ينهوا تطوعهم بالتعبير عن تجارب النساء ).

ويختتم هذا الصوت من الخليج بمقتطف بالغ الأهمية من كتاب لعالمين هما (يوسف الشيراوي) و(أسامة الخالدي) يقول المقتطف (إن إصلاح نظام التعليم نظراً لخلفية المجتمع العربي الاجتماعية والفكرية من أصعب الأمور، ولكن لابد من الخطوة الأولى وتتمثل بالحوار والنقاش مع المعلمين والمربين والآباء، حتى يتم إدخال التعديلات المطلوبة بأقل قدر من ردود الأفعال المعارضة، ولابد أن يتم الإصلاح على مستويين: إشراك المستفيدين بوضع غايات نهاية البرنامج ومراقبة تطبيق ذلك، وتوجيه التعليم والتدريب إلى الإبداع والابتكار عن طريق التعديل لنوعية شهادة إتمام الدراسة الثانوية ).

والحق أن ما يحتاج إلى إصلاح هو التعليم كله لا في المملكة العربية السعودية وحدها، وإنما في كل بلدان الوطن العربي دون استثناء باعتبار هذا الإصلاح القائم على إشاعة روح النقد والإبداع وتشجيع الطلاب على طرح الأسئلة بدلا من تلقي الأجوبة هو المدخل إلى المستقبل.

في كتابه (صوت من الخليج) يرى كاتبنا أن معضلتنا التنموية في أساسها هي أن الذين يكتبون لم يمارسوا والذين يمارسون لا يكتبون أي الانفصال بين النظري والعملي وهي معضلة كبيرة.

يستخلص (القصيبي) درس الثورة في إيران الذي يراه (جرس إنذار يرسل تحذيره إلى قادة العالم الثالث(إذا أردتم الاستقرار فحولوا الأرياف إلى عواصم، ولا تحولوا العواصم إلى أرياف ). وهو هنا ينتقد جذريا ما سماه خبراء التنمية (بترييف المدن، الذي ينتج من بين ما ينتج أحزمة الفقر والأحياء العشوائية خاصة في البلدان كثيفة السكان، نتيجة لإهمال تحديث الريف وعدم الاهتمام بالفلاحين.

وتبرز بالضرورة كل تشوهات التنمية وإنحيازاتها وقبحها وأشكال اللامساواة البغيضة في توزيع ثمارها.

ويقدم القصيبي حزمة من الحلول يضعها أمام بلدان العالم الثالث إذا كانت تستهدف حقا القضاء على الفقر، ولكنه يتجاهل الفقراء أنفسهم ويعاملهم كمفعول به فقط وليس كفاعلين لديهم من الطاقات والرؤى والأفكار والمبادرات والحلول للمشكلات ما لايخطر على بال المنظرين الذين انتقد القصيبي عزلتهم حين قال إن العالم الثالث يوشك أن يحول وزارات التخطيط فيه إلى مراكز تمارين نظرية.

إن نظرية جديدة للتنمية تعتبرها حقا للجماهير العريضة بالملايين هي بنت القرار السياسي والإرادة السياسية وطبيعة التحالف الحاكم وليست مسألة فنية، ولعل الاختلاف مع (القصيبي) يأتي من تركيزه على ضرورة إتخاذ هذا القرار بالقضاء على الفقر من القمة، ودون أن نقلل من شأن القرار السياسي من القمة نحتاج للتأكيد على محورية دور الجماهير صاحبة المصلحة كفاعل سياسي وهو ما لايمكن إنجازه دون إشاعة الديموقراطية بأعمق معنى وأشمله، ديموقراطية المشاركة التي تتجاوز الشكل التقليدي للإنتخابات لتضرب بجذور عفية في كل العلاقات الشعبية وعلاقة السلطة بالجماهير ويتجاوز مفهوم السلطة هنا القمة السياسية وحدها ليمتد إلى الأسرة والمدرسة والجمعية الأهلية والحزب والنقابة والرابطة والمؤسسة الدينية ويرتبط في الأخيرة بالنظرة التقدمية التأويلية للنصوص الدينية.

وهنا نتوقف أمام مفهوم السياسة ذاته الذي غالبا ما يجري اختزالة في الانتخابات العامة فما بالنا إذا كانت هناك بلدان في الوطن العربي لا تعرف حتى هذا الشكل الأولي من العمل السياسي، ومن جهة أخرى هناك النظرة للسياسة باعتبارها مجموعة من الألاعيب والمناورات والمساومات على مصالح النخبة أو بالأحرى الطبقات الحاكمة، ومن جهة ثالثة هناك القول الشائع بأن السياسة هي فن الممكن، ودون أن نقلل من شان وفعالية هذه المقاربات الشائعة كلها هناك حاجة لإضافة مفهوم يطرحه علينا واقع التحولات العالمية والإقليمية والمحلية والذي يقول لنا: إن السياسة يمكن أن تكون أيضا بنت ممكنات مختلفة، وأن التراكم الذي يتأسس على كفاح الجماهير العريضة من أجل تطوير حياتها، ووضع تطلعاتها للتغيير في التنفيذ حين تنجح حركتها يخلق مثل هذه الممكنات التي يتشبع بها الواقع إلى أن تنهض قوة منظمة أو تحالف قوي اجتماعية منظمة لوضعها موضع التنفيذ، وهنا يحدث ما نسميه بالطفرة ولنا في حركة الحقوق المدنية في المجتمع الأمريكي على مدى أربعين عاما مثالا حياً إذ كان من بين نتائجها ضمن عوامل أخرى انتخاب رئيس أسود وقد توجد هذه القوى المنظمة الطامحة للتغيير في قمة السلطة، وبوسعنا ان نتذكر هنا تجربة بناء اليابان كدولة صناعية كبرى بمبادرة أسرة حاكمة أستجابت لها القوى الشعبية وحدث تعاون من نوع فريد بين القمة والقاعدة وإن لم يتوصل هذا التعاون إلى صيغة لإلغاء الاستغلال وإن كانت الديموقراطية قد أدت للتقليل منه.

وبطبيعة الحال ليست هناك صيغة واحدة أو وصفة جاهزة للتنمية، فخبرة الشعوب واستخلاصات كبار المفكرين والزعماء منها تتنوع تنوعاً مذهلا، وأتوقف أمام الصيغة التي توصل إليها المفكر الماركسي الإيطالي (أنطونيو جرامشي) عن الكتلة التاريخية حين قال في المسألة الجنوبية (إذا ما تحققت العلاقة بين المثقفين والشعب الجماهير وبين القادة والقاعدة، وبين الحاكمين والمحكومين بصورة عضوية بحيث تتحول العاطفة إلى إدراك، وبالتالي إلى معرفة، فإن ذلك يعني أن هناك كتلة تاريخية بصدد التكون)

وانطلاقا من فكرة مشاركة الفقراء في وضع خطط التنمية التي تستهدف القضاء على الفقر عرف الاقتصادي الهندي (أمارتيا سن) الحاصل على جايزة نوبل عرف الفقر بأنه الافتقار إلى البدائل أو القدرة على الاختيار، فالإنسان ليس حيوانا مستهلكاً، بل هو حيوان سياسي كما سبق أن قال أرسطو قبل آلاف السنين، والقدرة على الاختيار غالبا ما تتطلب التمتع بالحرية، ولممارسة الحرية سياق وشروط لأن الحرية الليبرالية الفردية لا تصلح وحدها معيارا، ففي المجتمع الطبقي هناك من يتمتعون بالحريات، وهناك من هم محرومون منها، وهناك حريات فردية، وشخصية مثل حرية التنقل، الأمن الشخصي، وحريات سياسية مثل حرية الاجتماع والتظاهر حرية الرأي والاعتقاد والعبادة، وحريات اقتصادية واجتماعية مثل حق الملكية، حرية التجارة والصناعة، حق العمل، وهناك حريات لا يمكن إلا أن تكون جماعية مثل الحق النقابي وحق الإضراب وفي عدد من البلدان العربية لا توجد هذه الحريات لا في القانون ولا في الواقع، ويمكن أن تصبح هذه الحريات موجودة طبقا للقانون كما هو الحال في عدد آخر من البلدان العربية بينما تصبح ممارستها محكومة بحال الطوارئ وبقيود الدولة البوليسبة والممارسات الأمنية، وزواج الفساد والاستبداد ولذلك تسمى حريات شكلية. وكانت دولة الحق والقانون الذي يحمي هذه الحريات مكسبا كبيرا حققته الإنسانية في سعيها نحو الترقي والوصول إلى ما أسميه بالحرية العليا التي يسيطر فيها البشر جميعا على مصائرهم دون خوف أو حاجة، ويذهب كل انسان بإرادته الحرة إلى أقصى ما يمكن أن تحمله إليه مواهبه.

إذ تتمثل الحرية في السيطرة على أنفسنا وعلى العالم الخارجي وهي سيطرة تقوم على معرفة الضرورات الطبيعية وهكذا فهي بالضرورة نتاج التطور التاريخي كما وضع الأمر (فريدريك إنجلز ).

أما كتابه عن الغزو الثقافي ومقالات أخرى فيطرح قضايا بالغة الأهمية تعود أصولها إلى القرن التاسع عشر منذ أوفد (محمد علي) بعثاته العلمية من مصر إلى أوروبا وسافر إلى فرنسا الشيخ (رفاعة الطهطاوي (إماما دينيا للبعثة ثم قرر أن ينهل من المعارف الدنيوية التي أتيحت له إضافة لدوره، وكان أن فتح الباب أمام الثقافة الغربية لتغذي بلاده فدعا إلى الحرية والمصنع وتعليم البنات والدستور، وبعد أقل من قرن كان (طه حسين) يسافر أيضا إلى باريس ويعود ليدعونا إلى أن نتعلم من الأمم المتقدمة دون أن يتولد لدى أي من (الطهطاوي) أو (طه حسين) شعور بالدونية إزاء الغرب لانهما كانا يعرفان حقيقة الدور الذي لعبته الثقافة العربية الإسلامية التي أضاءت العالم بنورها على مدى ثمانية قرون في زمن ازدهارها وكانت (فلسفة بن رشد) هي التي اعتمدتها أوروبا لتدخل إلى عصر النهضة خروجا من الظلمات إلى النور في القرون الوسطى، وحين كانت الثقافة العربية الإسلامية في أوج تألقها.

يرى القصيبي أن أخطر ما في الغزو الثقافي (إنه أصبح ذا دفع ذاتي تلقائي، يتم دون أي مجهود من الجهات الغازية، ويتم دون أن يدرك ضحية الغزو أنه معرض لأي خطر، فيقبل، في حماسة بلهاء، أو بله متحمس، لا على قبول الغزو فحسب بل على اعتناقه واحتضانة، هنا مكمن الخطر الأكبر: كيف يمكن أن تهاجم عدوا لا تشعر بوجوده، أو كما قال شاعرنا القديم:

كيف احتراس من عدوي إذا

كان عدوي بين أضلاعي؟!

ورغم قوة الأمثلة التي ساقها (القصيبي) فإنني أفضل لأسباب كثيرة أن أسمي الظاهرة التي يصفها بالعولمة الثقافية الرأسمالية ومركزها الكبير الولايات المتحدة الأمريكية فالرأسمالية التي أخذت تنمط العالم وهي تدخل في أزمة عميقة استطاعت أن تروج للثقافة التجارية الاستهلاكية لانها تحقق أرباحاً طائلة من زيادة الاستهلاك في كل أرجاء المعمورة وهو ما يسميه بعض الباحثين بأمركة العالم حتى أن وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانج قال محذراً:

إنتبهوا لزحف الثقافة الأمريكية ستفقدكم إنسانيتكم).

والتبعية بدلا من الغزو ليست مجرد استبدال كلمة بكلمة ولكن التبعية هي جزء من سياق الهيمنة الرأسمالية على العالم وخاصة على البلدان النامية وهي هيمنة تلقى مقاومة باسلة في كل مكان وتنهض في ظل هذه المقاومة أشكال لا تحصى للإنتاج الثقافي الجديد المضاد للاستهلاك والتجارة والتنميط إعلاء لشأن الإنسان ووعيه وقدرته الإبداعية حتى في قلب البلدان الرأسمالية الكبرى ذاتها، وهي البلدان الأكثر تقدما من الناحية العلمية والتكنولوجية.

لشاعر العامية المصري عبد الرحمن الأبنودي تعبير جميل حين أشار في إحدى قصائده للشعوب بمناسبة انتصار الشعب الفيتنامي الذي تضامن مع ملايين الأمريكيين ضد عسكرية بلادهم ووحشيتها:

صادقوا أمريكا شعب

حين حاربوا الدولة

وأخيراً في(العودة سائحا إلى كاليفورنيا) يقدم (القصيبي) برهانا على أن البلدان المتقدمة والغنية بوسعها أن تهدي للإنسانية كلها ما يسعدها مثلما هي (ديزني لاند) في كاليفورنيا التي قضى فيها هو وأسرته وقتا جميلا؛ فالاستعمار إلى زوال -كما تقول خبرة الشعوب ونضالها- وهو إلى زوال حتى رغم صور التوحش والهمجية التي اختبرناها في العدوان الإسرائيلي على غزة ولكن الحضارة الإنسانية التي أسهمت في خلقها كل الشعوب ستظل باقية في عالم سوف ترفرف عليه في خاتمة المطاف رايات العدل والمساواة والكرامة الإنسانية خاصة بعد أن تنتصر شعوب الوطن العربي ضد الاستبداد والفساد والصهيونية ونتوصل للديموقراطية الحقه.