دخلت على غازي القصيبي وأنا أحضّر للدكتوراه في بداية السبعينيات، كان في لندن وعرف أنني سوف أكتب رسالة الدكتوراه حول الخليج والتغيرات السياسية والاجتماعية، وسأل: هل ستنشر ما سوف تكتب عن الخليج؟ قلت له: نعم، قال: هذا أفضل لأننا نحتاج إلى تأصيل الكثير من تاريخنا السياسي والاجتماعي، إلا أن النشر في منطقتنا حتى الآن لا يستسيغه كثيرون من متخذي القرار. لم ينسَ غازي تلك المقابلة ولم أنسها أنا، فقد كررها بعد سنوات لما استضفته في الكويت وكنت أميناً عاماً للمجلس الوطني للثقافة والفنون، بمناسبة معرض الكتاب في العام 2002، ليلتها أمطرت السماء في ليلة خريفية في الكويت، ولم تفت المناسبة غازي كالعادة، وكنا في خيمة كبيرة.. فقال للحضور: لقد جاء المطر ليمنع آخرين من حضور الأمسية، فشكراً للمطر!! لأن بطن الخيمة كانت مكتظة بالحضور، من ديوان جزائر اللؤلؤ إلى شقة الحرية قرأت لغازي معظم ما كتب، وما أزال أتلقف ما يكتب وما ينشر.. فغازي واحد من أهم من فتح الباب على مصراعيه لجيل كامل من النساء والرجال في منطقتنا لولوج عالم الكلمة الخطر، وكان ربما أول وزير في عالمنا الخليجي يعمل في الوزارة، وهي أعلى منصب سياسي، وتمنع كتبه في الوقت نفسه. تلك هي شخصية غازي.. السهل الممتنع.
غازي القصيبي رجل موهوب ليس فنياً وإبداعياً فقط، ولكن أيضاً سياسياً وإدارياً، فريادته في الأعمال الإبداعية ترفد ريادته في أعمال الإدارة، وفي الاثنين يحمل شخصيتين هما واحدة، و(لكل مقام مقال) كما يقال في الأمثال السيارة، إنه رقيق يتدفق حناناً ويكاد يذوب من الرقة في أشعاره أولاً وأعماله الإبداعية ثانياً، وهو صلب قوي في عمله الرسمي، حازم في الأداء، دقيق في التنفيذ.
أجمل ما في شخصية غازي تلك الشفافية التي يتحلى بها مرادفة لروح تحب النكتة ولا يتردد في قولها إذا (حبكت) كما يقول إخوتنا المصريون، إلا أنّ مَن عمل معه يعرف على وجه اليقين أن العمل عمل والإنجاز مطلب ملحّ من غازي العملي المنفّذ الطموح.
لكن غازي القصيبي، بسبب تعدد قدراته وبسبب ما مر به من أحداث، ظاهرة في نظر جيله من أمثالنا وإن جئنا في السنّ بعده بسنوات، جيل التحدي وجيل الانتقال من البحر والصحراء إلى دفء التدفق النفطي والبحبوحة الاقتصادية والعولمة.
درَس في البحرين لأن والده كان ممثل المرحوم المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، طيّب الله ثراه، كان في ذلك الوقت يُختار ممثل الملك -رحمه الله- من بين أهل الثقة وأهل اليسر معاً، وهم أشخاص أغلبهم تجار تقليديون من أصول نجدية يعيشون في مناطق الخليج المختلفة، وكان عبدالرحمن القصيبي، والد غازي، شخصية معروفة من تجار البحرين والسعودية، وهو من الذين وصلوا بتجارتهم إلى الهند وسواحل إفريقيا. ولد غازي وفي فمه ملعقة ربمّا من فضة، وكانت عائلته تستطيع أن تقوم بتعليمه، إلا أن ميلاده ونشأته أيضاً شهدت ميلاد -أو قلْ نضج- الفهم الخاص لدى الأهالي بالتعليم الحديث، وهكذا تدّرج في التعليم حتى آخر مراحله، ولم يركن إلى اسم عائلة أو ثروة.
لم يكن في الخليج في منتصف القرن الماضي جامعة، وكان على من يريد أن يكمل تعليمه أن يذهب إما إلى بيروت، وإما إلى بغداد، وإما إلى القاهرة. إلا أن القاهرة اجتذبت العديد من أهل الخليج، سواء دفعة غازي أم من تلاه من النخب الخليجية، كانت القاهرة قد دخلت عصر (القومية)، وكانت محطة أساسية للعلم والثقافة والفن والمسرح وأيضاً الاطلاع على السياسية. وكانت القاهرة أيضاً ماتزال تحمل (عصر التنوير العربي) الذي من نماذجه طه حسين والعقّاد وعبدالوهاب والريحاني وأم كلثوم ومسرح سياسي وفني متوهج ومكان لإنتاج الكتب وملعب للشعراء.
في هذا الجو (النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي) تكوّن وعي غازي القصيبي الفني والسياسي، واشتعلت مواهبه الشعرية والفنية. لكن علينا أن نتفهم أن غازي انتقل من بيئة محافظة تخرج فيها المرأة إلى الشارع متّشحة السواد، ويفخر الآباء بأن بناتهن لا يخرجن من البيت إلا مرتين؛ مرة إلى بيت الزوجية، والثانية إلى القبر!! وجد غازي جواً من الانفتاح الجديد، وجد زميلات له في نفس المدرج، وزملاء يعيشون في شقة لهم من الأهواء المختلفة ومن جموح المراهقة والشباب ما وصف بعضه غازي ب(شقة الحرية)، وسكت عن جله لأسباب (أن ليس كل ما يعرف يقال) في مجتمعنا المحافظ.
غازي، بسبب نضجه المبكر، لم يكن مقتنعاً بالانضمام إلى أحد من التيارات السياسية (القومية) وقتها وكانت كثيرة، كان صديقاً لبعضها، ولكنه لم يفضل الانتماء المباشر، وأحسب أن شخصيته المستقلة هي التي فرضت عليه (الفرجة من الخارج) دون التورط في ثقافة الانتماء المباشر المقيِّد للحرية والمقيِّد للفكر.
ريادة غازي القصيبي الفكرية والإبداعية والتنموية تتمثل في أكثر من ملف، فالجانب الإداري من غازي القصيبي أفضى إلى اهتمامه بالمستقبل، وهاجس العيش على مصدر ناضب للثروة شغل الجيل كله، ولكن غازي كان أكثر وعياً من كثيرين بالمصيدة التنموية، فأراد من خلال العديد من أعماله التسابق مع الزمن، فأقام من المنشآت الصناعية والتعليمية ما يلفت النظر إلى المستقبل، ولعل أهم ما قام به غازي إبان توليه حقيبة الصناعة إنشاؤه الشركة العملاقة (سابك)، وهي الآن قاطرة التنمية الصناعية في المملكة العربية السعودية، واهتم بالمستشفيات لمّا كان وزيراً للصحة، وبشبكة الكهرباء لتصل إلى كل مدينة وقرية سعودية لما أصبح وزيراً للكهرباء.
اهتمام غازي بالمرأة وتطورها ناتج عن اهتمامه بالتنمية ومن منظور حضاري متقدم، وكذلك اهتمامه بقطاع الشباب والتدريب. ستبقى صورة غازي، وهو في ملابس نادل في مطعم يحث الشباب السعودي على أن العمل الشريف -مهما كان وأينما كان- هو فخر لمن يقوم به، تلك الصورة التي لم يجرؤ أحد من المسؤولين على أن يجاهر بها، قدّمها غازي فخوراً.
ماذا عن غازي بعد كل ذلك؟ لعل خاصية لم آتِ على ذكرها، وهي أن غازي قارئ جاد في الكثير من التخصصات، وخاصة الإبداعية والاجتماعية. وقع في يدي كتابه عن التنمية فمازلت معجباً بذلك الكتاب الصغير في حجمه الكبير في معناه حتى إنني قررته على طلابي في مقرر التنمية الاجتماعية كإحدى القراءات المهمّة في المجال. قال في ذلك الكتاب طرفة لها علاقة بممانعة الثقافة للتنمية، فقد زارت الراحلة آنديرا غاندي في السبعينيات المملكة العربية السعودية، وكان الوزير المرافق لها، فقالت له: إن هناك سداً أقامته الهند على أحد أنهارها لكي يستفيد الفلاحون من أكبر كمية من المياه وأطول وقت في الزراعة، وكلف السد عشرات الملايين من الدولارات، إلا أنه بعد انتهاء السد انصرف الفلاحون عن استخدام مياهه على أساس أنها افتقدت «البركة». دلّل غازي بهذا المثال على موقف ثقافي يمنع الاستفادة من التنمية، وهو مثال يتكرر بأشكال مختلفة في مجتمعاتنا، مثل منع المرأة مثلاً عن التعليم، وهو أمر يقعد المجتمعات بنصفها تقريباً عن التنمية، بجانب الخسارة الكبرى للأجيال التي تربيها نساء جاهلات!!
لا يمكن أن نتحدث عن غازي دون ذكر الجانب الإنساني فيه، فهو غني بالمشاعر، وقصيدته إلى (أمي الهفوف) يناجي فيها مكاناً قريباً إلى قلبه عاش فيه ردحا من الزمن، أما كتاباته عن البحرين فهي تلخّص في قصيدة جميلة قالها أمام المرحومين الملك فهد بن عبدالعزيز والشيخ عيسى بن سلمان عندما افتتح جسر الملك فهد الذي يربط البحرين بالجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية، وهو إنجاز تنموي وسياسي تاه به غازي فخراً في تلك القصيدة، ويحق له أن يفعل ذلك.
الكويت