حين بدأت بقراءة (سلمى) لغازي عبد الرحمن القصيبي لفتت انتباهي مجموعة من الخصائص الموجودة فيها. أوّلاَ: (سلمى) رواية خيالية بكل ما للكلمة من معنى أي أنّ القارئ يجد نفسه أمام منطقين أو مستويين متراكمين ولكنهما غير متطابقين: نقطة الانطلاق هذه الجملة التي تشكّل السطور الأولى للكتاب: (تفتح العجوز عينيها بشيء من الصعوبة. ترى ابنها الذي يقترب ويقبّل رأسها ويديها ثمّ يجلس أمامها. لا بدّ أنّه يوم الجمعة. سليم لا يزورها إلاّ يوم الجمعة). المشهد عادِي جداَّ ويتكرّر كلّ أسبوع. يتلوه حوار بين الشخصيتين الرئيسيتين للرواية: سليم وأمّه سلمى. كعادته أتى سليم ليزور والدته المسنّة في بيتها. أحضر معه هدية: جهاز الراديو الذي أوصته به. الإشارة الأولى إلى تدخّل اللامعقول تتجلّى في جملة أخرى تقع في نهاية الصفحة الثانية أي الصفحة الثامنة من الطبعة الثالثة التي نرجع إليها (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،): (لماذا تريد أمه جهاز راديو جديداً كل شهر؟) ابتداء من هنا لم يعد القارئ في الواقع وإنما أصبح يجوب عالماً يقع بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والحلم: العجوز مستلقية على فراشها، الراديو بجانبها، تغيّر المحطّات وهي بين النوم واليقظة ويدور المؤشّر بين الإذاعات.. فجأة وجد القارئ نفسه مع الرئيس جمال عبد الناصر. وسلمى واقفة أمامه. ميزة من ميزات هذه الرواية أنها مبنية على فكرة طريفة وذكية في آن واحد: سلمى المرأة العجوز والوحيدة تستمع إلى الراديو لتتسلّى وتمضي الوقت. إنها مولعة بالبرامج التاريخية ولكنّها لا تكاد تبدأ هذه البرامج حتّى تخلط سلمى بين التاريخ الرسمي وتاريخها الشخصي أي أنها اعتادت أن تعيد صياغة بعض الحوادث التاريخية في اللاوعي، الشيء الذي يؤدّي إلى خلق تاريخ جديد أكثر تطابقاً لرغباتها ولأحلامها. وعندما تكتشف أنّ الأخبار والمعلومات التي يبثّها جهاز الراديو مختلفة تماماً عن أحلامها، تتخلّى عن هذا الجهاز وتوصي ابنها على جهاز آخر جديد قد يبثّ الأخبار التي تتمنّى أن تسمعها. هكذا تتوالى المشاهد التي تتقمّص فيها سلمى عدة شخصيات:
في بداية الرواية، تظهر في ملامح مديرة المخابرات العامّة لدى الرئيس جمال عبد الناصر. يجري حوار بينها وبين الرئيس المصري قبيل اندلاع الحرب. تحاول سلمى خلال هذا الحوار تحذير عبد الناصر وهي تخبره بأن (هناك مؤامرة خطرة جدّاً تُدبًّر ضدّك وضدّ مصر). بالاستماع إلى برنامج إذاعي آخر على جهاز جديد، ننتقل إلى الأندلس حيث أصبحت سلمى زوجة آخر ملك عربي في غرناطة وأرادت أن يكون زوجها البطل الذي يعيد فتوحات الخليفة الداخل والخليفة الناصر. في مرحلة أخرى، نشاهدها زوجة أبي طيّب المتنبّي، ثمّ زوجة الخليفة المستعصم. لمّا أدركت أنّ الخليفة عاجز عن قيادة الدولة جمعت خيوط السلطة في يديها وأصبحت تحكم من وراء الستار وتعمل لصد خطر التتار. في نهاية هذا المشهد تنتصر الجيوش العربية على جيوش التتار ولا تسقط بغداد في يد هولاكو. لاحقاً تقوم بدور زوجة صلاح الدين الأيوبي. تتوّغل بين صفوف جيش العدوّ لتتجسّس على ملك الفرنجة (قلب الأسد) وتسهم في انتصار العرب على الفرنجة في معركة حطّين. بعد بضع صفحات نراها بصحبة أحمد شوقي، أمير الشعراء، ومحمد عبد الوهاب.. ثمّ يأتي المشهد الأخير الذي يجري في فلسطين، في غزّة. سلمى تقف في زي نقيب في قوّة الدفاع الإسرائيلية قبل أن تقوم بعملية انتحارية وتقتل الجنرال أرييل شارون.
نهاية الكتاب المفاجئة تؤكّد إرساءه في عالم يقع على الحدود بين الواقع والخيال: المفاجأة الأولى ناتجة عن التزامن بين موت سلمى الشخصية الخيالية وموت سلمى العجوز. في الوقت الذي تضغط يد سلمى على الزر وتستشهد في الخيال، تموت سلمى العجوز بجانب ابنها والطبيب في الواقع. بعيد ذلك، مفاجأة ثانية تنتظر القارئ: في الصفحة قبل الأخيرة، يظنّ أنّه وجد تفسيراً منطقياً للأحداث السابقة عندما يقول سليم إنّ والدته (في الآونة الأخيرة، بدأت تخلط بين التاريخ والواقع..) ولكن في اللحظة التالية، تعيد الجملة التي يلفظها الطبيب القارئ إلى حيرته: (الشيء العجيب، يا أستاذ سليم، أنّ الممرّضة وجدت الفراش مليئاً ببقع من الدماء، مع أنه لم يكن في جسمها جرح واحد).
العنصر الثاني الذي يلفت انتباه قارئ هذه الرواية هي بنيتها الشبيهة ببنية الحكاية التي تروى شفهياً. والجدير بالذكر هنا أنّ المؤلّف نفسه لمّح إلى هذا الجانب من كتابته من خلال الإهداء الذي يفتتح الرواية: (إلى الصغيرة سلمى سهيل القصيبي شيئاً من حكايات أمّتها الكبيرة). نلاحظ مثلاً أنها تعتمد على التكرار: تكرار السيناريو نفسه وتكرار عبارات ومفردات معيّنة: سلمى العجوز تستمع إلى برامج إذاعية وتغرق في اللاوعي. بعد فترة غير محدّدة تصحو وتكتشف حقيقة لا تلائمها فتقفل الراديو وتمتنع عن استعماله ثانية. يضطرّ ابنها سليم إلى إهدائها جهازاً آخر، من نوع آخر ومصنوعاً في بلد آخر. تتلقّى العجوز جهاز الراديو الجديد وتتمنّى كلّ مرة أن (ينقل الحقائق فقط) ولا يكذب عليها.. ويتكرّر السيناريو نفسه فيما يخصّ المفردات والعبارات يتبيّن أنّ بعضها تتكرّر مراراً وهي تكاد تشكّل لازمة: «تتحرّك أصابعها (سلمى) وهي بين النوم واليقظة. ويدور المؤشّر بين الإذاعات..» ولدينا تقريباً الكلمات عينها: «تعبث أصابع العجوز بالراديو الروسي الجديد .. (وهي تغفو وتصحو..) وتتكرّر هذه الكلمات.
العنصر الثالث المهمّ في هذه الرواية يتجلّى في علاقة شخصيتها الرئيسية - سلمى - بالتاريخ. ألا يعلن ابنها سليم أنّ والدته كانت قد ألّفت أربعة كتب في التاريخ وأنها (كانت أربعة أجزاء اسمها) مواقف حاسمة في التاريخ. وتتقاطع هنا مستويات الخطاب السردي نتيجة الالتباس القائم بين مستوى السرد ومستوى الكتابة ومستوى القراءة. يمكننا أن نلخّص هذا الالتباس بالسؤال التالي: أسلمى أو مبدعها غازي عبد الرحمن القصيبي أو قارئ الكتاب من يشعر بالحاجة إلى إعادة صياغة التاريخ وتغيير الخطاب الإعلامي الرسمي؟ المشاهد التي تتخيّلها المرأة العجوز أو تراها في منامها تشير إلى وقائع وأشخاص معروفين ومهمّين جدّاً في التراث الثقافي العربي: فقدان الأندلس، سقوط بغداد، النكسة، الاحتلال الإسرائيلي لغزّة، تُعتبر حوادث مؤلمة في الذاكرة التاريخية العربية، بينما معركة حطّين وأسماء كصلاح الدين أو جمال عبد الناصر وحتى أحمد شوقي أو عبد الوهاب قد توحي بزمن ذهبي للحضارة العربية. لهذا، حين يتمّ تشويش صورة هؤلاء الأشخاص وهذه الوقائع بل تغييرها أو تشويهها، يمكننا أن نستنتج من ذلك أنّ سلمى تسعى إلى إلغاء الحوادث المؤلمة من الذاكرة التاريخية العربية من جهة، وإلى الاندماج والانسجام والتماثل مع الوقائع والشخصيات التي تتمتّع بنوع من الدلالة أو الطفاوة الإيجابية من جهة أخرى.
سلمى البطلة تهرب من واقع معيّن يذكّرها به الإعلام.. لم تعد تتحمّل الأخبار والمعلومات التي تبثّها الإذاعات المختلفة فتلجأ إلى الخيال وكما يفعل الطفل تبتكر أخباراً وعالماً آخر أقرب إليها، عالماً وتاريخاً تتعاطف معهما.
فكتابة غازي عبد الرحمن القصيبي جعلتني أتذكّر أوّلاً الحكايات العربية القديمة حيث القضايا المهمّة الثقافية والاجتماعية وحتّى السياسية يتناولها الكتّاب من خلال حكايات طريفة ومسلّية.
ثانياً النقد الاجتماعي ونقد الوضع السائد في البلدان العربية موضوع عالجه الكثير من الروائيين العرب المعاصرين. إلا أن كاتب (سلمى) جعل البُعد النقدي والبعد الخيالي الغرائبي يتفاعلان في أسلوب حكائي جميل، الشيء الذي يؤدّي إلى خلق جوّ خاص لا يجده القارئ إلا نادراً، في أعمال القاصّ السوري الكبير زكريا تامر مثلاً.
باريس