Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
الاعترافات التي تصنع الجمال
شوقي بغدادي

 

يصعب عليّ في هذا الزمن أن أكتب عن شاعر في مجمل ما صنعه لنا. أشعر أنني أواجه ساحة يغطيها الغبار وتخترقها عشرات، بل مئات الطرق. وكل طريق قد يغري معاً بحديقة، أو بصحراء. أين أضع مثلاً سعدي يوسف الشاعر العراقي المنفي إلى الأبد في هذه الساحة وهو يكرر الآن موضوعاته؟ وقبله محمود درويش وهو يغالب اليأس والموت والغربة؟ وقبله نزار قباني وهو لا يمل من هذه اللعبة الحلوة التي لا تفرغ جمالياتها مع الأنثى؟. فأين إذن نضع غازي القصيبي الروائي والشاعر وكاتب النادرة والخاطرة والمثالة والرحّالة والدبلوماسي والساخر واللابس ألف قميص تحت عباءته؟!.

أول ما اعترضني هذا الاسم فأدهشني وأسرني كان في روايته الفانتازية العجائبية (العصفورية).. ثم عرفت أنه شاعر حين قرأت متفرقاته ثم في بعض دواوينه، فتوقفت من جديد أمام الشاعر متأملاً ومحتاراً في الوقت ذاته أين أضعه في هذه الساحة العربية الشعرية الفسيحة المحتشدة بالغبار وضباب الغيوم الواطئة وألق المطر المفاجئ والنادر؟!.

حين أعدت قراءته وأنا مشبع بغيره من المحدثين وجدتني على مهل أدخل إلى محراب للصلاة الصادقة. صلاة بلغةٍ معتادة غير أن صدقها الجارح أمسك بي ودفعني إلى طرح هذا السؤال الجوهري: كيف يكون الشعر بلا صدق؟ ولكن السؤال يولّد سؤالاً أصعب: وهل الصدق وحده يصنع الشعر؟

بالتأكيد.. لم يخترق غازي القصيبي جدار الحداثة إلى حدائقها العجيبة المختلطة بالوحول والكريستال واللؤلؤ والغزلان والوحوش.. لقد كان دائماً على مسافة من صرعاتها وفيّاً للحبل السري الذي يربطه بأمه (التراث). كان يصاحب معه المتنبي وابن الرومي وأبا تمام والبحتري والجواهري ونزار قباني ومحمود درويش وآخرين.. فإذا لم يجد مكاناً لائقاً به في حدائق الحداثة، فلا بدّ من الاعتراف بأنه لم يبتعد عنها كثيراً، يساعده في ذلك طموحه، وموهبته، وثقافته.

هذا كلام عام بالتأكيد يحتاج إلى محاجّة مدعومة بالشواهد المقنعة والتحليل الصافي كي ننجح في إيجاد مكان نضع فيه غازي القصيبي من دون أن نُتّهم بالمجاملة أو المحاباة أو التعالي..

لندع الوطنيات جانباً. أنت تقرؤها فتتحسس أنك أمام نظم مما تعوّدنا حتى الملل على قراءته وسماعه في أيامنا هذه.

وفي الغزل لا يبدو الشاعر الشاعر إلا حين يمزج بين العلاقة الخالدة مع المرأة وهموم الشاعر الذاتية كما في قصيدة (خيمة الأهداب) التي تبدأ بهذا المقطع الجميل بقافيته الهمزية الرشيقة:

قصدتُ عينيكِ أشكو الأين والظمأَ

فهل تمدّين لي في العشبِ مُتّكأَ

وهل تصبّين لي من قربةٍ قدحاً

أروي به قدحاً بالدمعِ مُمتلئا

وهل تهزّين لي من نخلةٍ رطباً

رعى فمي الشوكَ حتى عادَ مهترئا

قصيدةٌ على بحر خليلي توهمك أنها كلاسيكية خالصة، ولكن ما أن تمعن فيها حتى تجد أن الروح التي تنبض خلفها خلقت لك شعراً جديداً بصياغته اللغوية ومجازاته المبتكرة وقافيته الرقّاصة..

في قصيدة غزلية أخرى اسمها (الفجر الأحمر) نواجه غزلاً آخر يترنّح بين الكهولة والشباب في جسد الشاعر وهو يرى إلى فتاة خليجية في العشرين من عمرها، تبدأ بهذا المطلع:

كانت تغنّي والمساءُ حولها

أرجوحةً من الغزلْ

والبحر بدرٌ وقُبَلْ

وكنت في مخالبِ الخمسينَ

أرنو لابنة العشرينْ

والروح قنوطٌ .. وأملْ

تُحبّني؟. هذا كثيرٌ !..

ربّما ؟! لعلّ ؟! .

إلى هذه الخاتمة البالغة اللطف والذكاء:

وعندما أبصرته ملطّخاً

بحمرةٍ

كالحمرةِ التي تضيء خَدَّها

الصبيَّ ساعة الخجلْ

قلتُ له:

- يا فجرُ هل تظننّي أحبّها؟

وقال لي الفجر:

- أجَلْ !

ولم يقل لي لمَ جاءَ أحمراً

ومَنْ قَتَلْ ؟!

خاتمة ليس جمالها في صدقها فحسب بل في طريقة العرض التي يمتزج فيها الوصف والحوار عبر جملٍ قصيرة خاطفة ومشحونة بالمجاز المبتكر كما في السؤال الأخير المفاجئ والمشحون بعاطفة ملتبسة: لمَ جاء - الفجر ُ- أحمراً؟.. ومن قتلْ؟. فهل هذا غزل أم وصف للطبيعة؟. سؤالٌ لطفُهُ كامنٌ في أن لا ضرورة لإجابةٍ حاسمةٍ عليه !..

ولكنه في قصيدة أخرى عنوانها: (الحبّ والموانئ السود) استطاع (غازي القصيبي) أن يلغي المسافة بين الغزل كعاطفة تشدّه نحو المرأة وبين الوجدانيات الذاتية كهواجس خاصة بشخصه وتجاربه، مختاراً لقصيدته صياغة لغوية غير عمودية، وبهذه الهندسة المعمارية الجامعة بين مضمون مبتكر وشكلٍ متطوّر يحقّق قفزةً نوعية نحو حداثة خاصّة به فاقرؤوا معي هذا المدخل:

قبل أن ترتعش الكلمة كالطيرِ

قِفي

وانظري أيَّ غريبٍ

أيّ مجهولٍ طواه معطفي ...

آه.. ما أقسى طلوع الفجر

من غير حبيبٍ !.

أَوَ تدرين لماذا

كلما قرّبنا الشوق نما ما بيننا

ظلُّ جدارْ ؟.

ولماذا كلما حرّكنا الشعِر غزانا النثر

فالألفاظُ فحمٌ دونَ نارْ

بهذه الأسئلة يمهّد لجوابٍ عميقٍِ مستمّد من حدائق الطفولة مروراً بالمراهقة، فالشباب فال رجولة متحوّلاً من البراءة إلى التلوّث عبر مقاطع يشبهها بالموانئ فيقول في الميناء الثالث:

كنت بريئاً

لا أملك أوهامي

ونجومي المفقودة في الأفق

ودفاتر شِعر أسكنها

وتعشّش فيها أحلامي

ووقفت على هذا الميناء

قال الناس: أعندك بيت؟

غير قوافي الشِعر العصماء

قال الناس: أعندك أرض

غير أراضي الشِعر الخضراء؟

وأصبتُ بداء المال ..

هنا تتحوّل القصيدة إلى ما يشبه الاعترافات التي يتقدّم بها المؤمنون في الكنائس طلباً للغفران. هذه اللهجة الحارّة من الصدق تحوّل الاعتراف إلى شِعر يتعرّى فيه الشاعر من كلّ الأثواب التي تغطّي عيوبه، غير طامح إلى شيء سوق الصدق الأخلاقي والفنّي في آن، وخاصّة حين تتابع القصيدة منحاها الاعترافيّ حين سَمّتْ الاهتمام بجمع المال داءً، كي تسمّي المجد بالحمّى، إلى أن يختم بهذا المقطع الذي يخرج بالغزل العادي إلى عراء النفس البشرية التي تبحث عن براءة مفقودة ونظافة ملتبسة فيقول:

فتنتي ما بيننا قام دُجى

من ضياعٍ.. ورياءٍ.. وطموحْ

عبثاً أفتح روحي للهوى

بعد أن عدت إليه.. دون روحْ..

من خلال نافذة الغزل سوف يقفز غازي القصيبي إلى العراء كي يقترب أكثر فأكثر من آلهة الشعر عبر باقة فوّاحة من القصائد الذاتية الخالصة من أي غرضٍ آخر غير البحث عن الجمال من خلال الصدق الفني. تبدو كلاسيكية من حيث تقيّدها بالعروض الخليل غير أنها بيتاً بعد بيت تذهب بالقارئ بعيداً عن أيّ تصنيف أكاديمي كي يرى نفسه في مواجهة شعر خالص للفن وبالتالي للصوت الداخلي للذات، هذا الصوت الذي يطهّر الذات ويرفعها في الوقت ذاته إلى مبدعة خارج التصنيفات المتداولة كما في (حديقة العزوب):

خمس وستون في أجفان إعصار

أما سئمتَ ارتحالاً أيها الساري

أما مللتَ من الأسفار، ما هدأتْ

إلاّ وألقتك في وعثاءِ أسفارِ

من خلال هذا التعب النفسي سيسند الشاعر رأسه على كتف رفيقة دربه

–زوجته- كي يتابع اعترافاته معترفاً بجميلها عليه:

أيا رفيقة دربي.. لولديّ سوى

عمري لقلت: فدي عينيكِ أعماري

منحتني من كنوز الحبّ أنفسها

وكنتُ لولا نداكِ الجائع العاري

ماذا أقولً؟ وددتُ البحر قافيتي

والغيم محبرتي.. والأفق أشعاري

إلى أن يصل باعترافاته الجارحة بصدقها إلى هذه الذروة:

وإن مضيتُ فقولي: لم يكن بطلاً

لكنّه لم يقبّل جبهةَ العارِ

ومن حواره مع رفيقة الدرب يتحوّل إلى حوار مع بلده خاتماً شكواه باعتراف آخر:

ويا بلاداً نذرتُ العمر زهوتَهُ

لعزّها .. دمتِ.. إنّي حان إبحاري

إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي

ولم أدنّس لسوقِ الزيفِ أفكاري

أما الخاتمة الدينية التي يقفل بها قصيدته هذه فهي تحصيل حاصل كما يقولون كان من الممكن الاستغناء عنها.

هذه الاعترافات –أو الذاتيات- هي التي صنعت في تصوّرنا من غازي القصيبي شاعراً حقيقاً خارجاً عن التصنيفات.

وعدد هذه القصائد وفير وموزّع على معظم المجموعات التي صدرت له ومن هذه القصائد: (الحمّى)، و(مومياء)- وهي أقرب إلى النزعة الفكرية- و(قطرة من مطر) و(حواء العظيمة) و(خمسون) و(عندما كنت أفقدها) و(السير في المستحيل) و(الرؤيا) وغيرها. وهي تحتاج في تصوّرنا -لأهميتها- إلى دراسة خاصة مستقلّة أعمق.

وما من شك أن محاولة اكتشافنا غازي القصيبي الشاعر والإنسان تمتّد أبعد وأشمل مما صنعنا، ففي تعامله مع الطبيعة مثلاً سوف نلاحظ موقفاً محدوداً بالمنظر البحري كأن البيئة التي نشأ فيها تركت بصمتها على شعره أعمق من لندن والقاهرة- حيث قضى وقتاً طويلاً- وكل بلدان العالم التي زارها، إذ لا نجد سوى قصائد معدودات هي: (يقول البحر) (كبحرْيّة) و(حديثٍ مع البحر) و(هي والبحر). تقول هذا لا لكي نطلق حكماً سلبياً أو إيجابياً وإنما لكي ندفع الدارسين فيما بعد إلى تفسير هذه الظاهرة: لماذا استولى البحرُ على مساحات أكثر من خلال علاقته بالطبيعة؟. وهل هذا راجع إلى تأثير البيئة أم إلى نزعة نفسيّة؟

الحديث عن غازي القصيبي أطول بالتأكيد من هذه المداخلة، وقصدنا هو أن نحرّض انتباه النقاد إلى الذهاب أبعد مما صنعنا فالشاعر يظلّ طائراً من الصعب الإمساك به.

سورية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة