يمثل المبدع الدكتور غازي القصيبي حالة إبداعية متميزة أكثر مما هو أديب يحسب على الشعر أو الرواية أو أدب المقالة أو أدب المذكرات، وأكثر مما هو رجل سياسة وثقافة ودبلوماسية، ومحرض ثقافي يتبنى الأصوات الجديدة ويحتضن المواهب الواعدة ويقيل الأدباء من عثراتهم ويحذب على رعايتهم، كما أعرف من حالات كثيرة، اقول حالة ابداعية واضيف اليها انسانية؛ لأن هذه الحالة التي أشير اليها تتجاوز ملكاته ومواهبه، إلى شخصيته وسلوكه وخصائصه كإنسان نرى فيها جدية المسؤول القيادي الذي يقود العمل في المؤسسة الكبيرة مثل الوزارة والجامعة أو الإدارة أو السفارة بحنكة وحكمة وقدرة على تحريك الاخرين ودفعهم للاجتهاد والابداع وفي نفس الوقت هو الرجل الرقيق الوديع الذي تتحلى شخصية بروح الدعابة والسخرية، التي ترشح أحيانا من شعر الاخوانيات ومن بعض المواقف في رواياته وكتاباته النثرية الأخرى، وتظهر ان هذا المسؤول القيادي الحازم الجازم صاحب القد والحد والضبط والربط هو نفسه الرؤوف الرحيم الحنون الذي لا يستطيع ان يقف ساكتا أو ساكنا امام آهة انسان مريض يجيئه شاكيا يريد علاجا لنفسه فيأخذ الأمر ماخذا شخصياً، حتى يحقق لطالب العون طلبه، وان كان العون فوق طاقته، وفوق طاقة الجهة التي يتبعها، يذهب بتصعيد الأمر إلى أعلى سلطة في البلاد، كما حدث بحضوري لصديقنا الراحل احمد عباس صالح الذي كانت الدموع في عينيه وهو يقف عاجزا، يسمع المبلغ المهول لانقاذ رفيقة حياته، بإجراء عملية زرع الكبد لها، وكانت تكلفتها تصل في ذلك الوقت لمبلغ في خانة السبعة ارقام، ورغم انه كان وثقا انه مبلغ يتجاوز إمكانيات أي سفير في لندن الا انه ذهب إلى السفير الوحيد الذي يتجه إليه الادباء، في حالات الشدة، وكان المبلغ فعلا فوق إمكانياته، الا انه ظل وراء الموضوع حتى ارسله مع زوجته إلى المصحة الوحيدة في العالم القادرة على القيام بمثل هذه العملية في اوكلاهوما، يرافقها لاكثر من عام في رحلة العلاج، انها قصة طالما سمعت الراحل احمد عباس صالح يذكرها ويشير اليها في بعض كتاباته كدليل على شهامة ونبل السفيرالاديب، ومثله كان يفعل صديقنا الكاتب ياسين رفاعية الذي كانت زوجته الشاعرة الراحلة امل جراح عليلة بداء القلب، فلم يخذلها الشاعر السفير ومضى يعينهما في رحلة العلاج إلى النهاية، اما عن جوانبه الأخرى فيكفي ان اشيرالى صديق كاتب لم يكن يعرف السفير الوزير غازي القصيبي، عنما حضر معنا مأدبة اقامها في بيته زميلنا الصحفي عثمان العمير، حيث كان حاضرا الدكتور غازي، ليكون هو روح الحفل ومحرك الدعابات والضحات فيها بشخصية الغنية ذات الالوان المبهجة الكثيرة، إلى حد أن هذا الصديق الصحفي، كان في حالة من الاندهاش والاستغراب عندما عرف مني بعد نهاية السهرة ان هذا هو غازي القصيبي، فقد رآه شيئا غريبا ان يكون الرجل الذي يضرب به المثل في النجاح الاداري والسياسي والقيادي له كل هذا الحضور المبهج الضاحك الساخر.
ولهذا اقول انه حالة ابداعية انسانية، وتوليفة من العناصر، توافرت لرجل واحد، وصنعت هذا المبدع الشاعر الروائي الباحث الكاتب الساخر والجهبذ السياسي الدبلوماسي الاداري، طبعا، قد لا يستطيع القاريء ان يرى الجزء من جبل الجليد القصيبي الغائص تحت الماء، لأن هذا يحتاج إلى معرفة شخصية ومعايشة ومسامرة، ولكنه سوف يستطيع من خلال قمة الجبل الطافحة فوق الماء وهي مقالاته ورواياته ودواوينه وكتاباته البحثية ومواقفه العلنية وسجله الوظيفي المفتوح للجمهور من خلال مناشط المدير والوزير والسفير، ان يرى جزءا كبيرا من جسم هذا الجبل، فهو سيرى في شقة الحرية الروائي ويستمتع باسلوبه الادبي ويرى قدرته على التشويق والجاذبية والسيطرة على القارئ الذي يدخل عالم الرواية في تلك الشقة فلا يخرج منها الا بخروج مؤلفها ذاهبا إلى المطار مغادرا والى الابد شقة الحرية في القاهرة، ولكنه سيرى بعد ان قرأ الرواية ورأي غازي القصيبي الاديب والروائي وتعرف إلى موقفه السياسي في تلك الحقبة العامرة بتصارع الافكار والآراء، سيرى غازي القصيبي، الشجاع، الجريء، الذي يدخل المناطق التي يخشى ان يطاها ادباء البلدان التقليدية، ولكن غازي يفتح فضاءً جديداً أمام المبدعين في بلده , وليتكلم من يريد الكلام عن اصوات الاقتحام والتجاوز ونداء الحرية في الادب السعودي، لدى ادباء المملكة من نساء ورجال، ولكنه لن نستطيع ان القول، ان هناك كاتبا سبق غازي القصيبي، وسبق شقة الحرية إلى مثل هذه الجراة ومثل هذه الشجاعة، حيث كانت روايته الأولى هذه، عملا غير مسبوق في هذا المجال، ويضاف إلى شرف الريادة، شرف أنها جاءت من موقع رجل احتل المواقع الأولى في الإدارة والسياسة والقيادة والوزارة والسفارة.
بعد ان وضع بصمته، وأكد نفسه، وصنع لاسمه مكانا في عالم الروائيين براويته الأولى شقة الحرية، وهي الرواية التي لم يشا ان ينتهج فيها نهجا تجريبيا وانما التزم بالقواعد والاسس والتقاليد التي بنت اعمدة هذا الفن، حق للكاتب فيما تلى تلك الرواية من روايات ان يلعب ويجرب ويختبر قدرته على تحطيم القوالب التقليدية المعروفة في هذا الفن مثل البولوفونية في روايته التي اعطاها عنوانا غير معهود هو الرقم 7 وهو رقم الشخصيات التي تحدث لها القصص التي يربط رابط مشترك في النهاية، وروياته الصغيرة، اليسيرة التناول والتي اعتبرها الاقرب
الى قلبي حكاية حب، فهي فعلا حكاية، وفعلا مفعمة بالحب والعاطفة، خاصة ان بطلها رجل أعمال يقضي ايامه الاخيرة في منتجع صحي، لكنه لا يكشف شخصية، للفتاة راضية التي تعلقت به، واذا كان القصيبي الروائي والسارد وصاحب الشطحات التجريبية حاضرا، مستفيدا من مكتسبات الرواية الحديثة، مغترفا من تجربته العريقة وعمق فهمه للحياة وانفتاحه على كل فئات المجتمع، فإن القصيبي الساخر، وقلمه خفيف الظل والروح حاضر، وحاصر أكثر من هذا وذاك، هذا الفيلسوف الساخر، المدرك لعبث الحياة، يقد م تلخيصا موجزا وعبقريا لما وصف به ربنا جل جلاله الدنيا عندما قال(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) فكان هذا التناول اللاعب الساخر الذي يمتلئ لهوا ولعبا وعبثا، وأبى صاحب هذه الريشة الساخرة العابثة، إلا أن ينتهج هذا الأسلوب، وكان يستطيع ان يجعل من قصة انسان يعيش اخر ايامه وينتظر موته القادم الوشيك، قصة مأساوية حزينة، مفعمة بالمواقف الباكية، والمشاعر القاتمة والأصوات النائحة لأحبابه من ابناء الاسرة، ولكنه جعل هذا الموضوع المأساوي موضوعا لقصة رومانسية عاطفية مبهجة ضاحكة مرحة. ونظن ان الروائي غازي القصيبي استنفد طاقته في الكتابة التجريبية، والعبث بالقوالب القديمة، فاذا به في روايته الجنية يلجأ إلى شيء ثالث، أو مدرسة تمتزج بها الكتابة بالحداثة مع التراث، فكأنه هنا ينفتح على الجوانب العجائبية الغرائبية التي أتقنها أرباب الرواية في أمريكا اللاتينية وطبعوها باسمهم وأسموها الواقعية السحرية، فيذهب إلى أرضها العامرة بالعجائب والغرائب، ولكنه في نفس الوقت يتكئ على تراثه العربي ويمتح من ينابيع الفن السردي القديم في الأدب العربي وأسطورته التي تمثل عبقرية الخيال عند العرب ألف ليلة وليلة، ويأتي بهذا الجنين المولود على تخوم عالمين، فيصنع لبطل قصته المبتعت السعودي الباحث في علم الأنسنة، والغاطس في حفريات التاريخ والحضارة في بلاده، هذه الزيجة العجيبة مع جنية تنتمي لأهل الخفاء.
استطيع ان امضي عشرات الصفحات في الكتابة عن هذا المبدع المتعدد المواهب، المتعدد الكفاءات، الذي قضى عمره في وظائف عامة، تشغل وقته من أول النهار إلى آخر ضوء فيه، ومع هذا أنجز هذا الكم الهائل من الشعر والرواية والحكايات والمقالات والكتب البحثية، فكيف فعلا استطاع تحقيق ذلك، وصار أيضا الرجل الاجتماعي الذي يتسع وقته للمسامرات والصداقات ولقاءات الاصدقاء ومداعباتهم ويتسع أيضا لعمل الخير والمبرات وأعمال الانقاذ لأصحاب الحاجات، حيث اصبح كما علمت عضوا في الجمعية التي ترعى المعاقين وتشرف على الوفاء باحتياجاتهم، وخاض المعارك والمعامع السياسية والادبية،
وكنت وانا اكتب بابا أسبوعيا للشرق الأوسط، ايام اجتياح الجيش العراقي للكويت، يكتب مقالاته اليومية النارية ضد الغزو، فاقول من اين سياتي بالمقال الثاني، لانني كنت مثله كتبت مثل هذا المقال الغاضب الذي ادين به الغزو، وعجزت عن كتابة مقال اخر خشية ان اكرر نفسي لو كتبت مقالا بعده، فكنت اراه وخلال اشهر كثيرة يكتب هذا المقال اليومي بنفس الغضب ونفس الاسلوب الناري ونفس المشاعر المتفجرة، وقد افلح ان ياتي مع كل مقالة بافكار جديدة، ومقترحات جديدة، واجتهاد في البحث عن اساليب لمقاومة الطاغية المجنون، وتحطيم انيابه التي تقطر بدماء الابرياء، فكانت اياما تحول فيها الشاعر الوديع الحالم الرقيق الضحوك، إلى مفرزة انتحارية، أو كتيبة من كتائب الحمم والصواعق، تشارك في الحرب، وترمي بقوة نيرانها على الطاغية، مما زاد من يقيني ان الله اودعه طاقة لا يملك سرها الا هو.
قلت استطيع ان امضي دون توقف اتحدث عن جوانب وجوانب وجوانب من الغنى والثراء والجمال والبهجة والمحبة والخير في هذه الشخصية الجميلة المبدعة الخلاقة، التي يصدق فيها قول المتنبي:
يفنى الكلام ولا يحيط بوصفكم
أيحيط ما يفنى بما لا ينفدُ
ليبيا