الكتابة عن مبدع كبير مثل غازي عبد الرحمن القصيبي، تعدُّ أمراً عسيراً بلا شك، وشركاً قد تعلق فيه الكتابة، ولا تخرج صحيحة البدن، كما دخلت، فهي من ناحية، كتابة عن رجل امتلأ بالشعر كله، فصيحاً كان أم شعبياً، وطرق باب الرواية ليدخلها سلساً، في عدد من الروايات، وباب المقالة والذكريات ليمدنا بالكثير الممتع. ومن ناحية أخرى هي كتابة عن مناصب عدة، ودبلوماسية فذة، وأيضاً شعبية كبيرة لا تضاهيها كثير من الشعبيات. ومنذ رواية (شقة الحرية) التي رصدت واقعاً خليجياً، عاشه وما زال يعيشه الدارسون الخليجيون في مصر وغيرها، وما تلاها من الأعمال الأخرى، والقصيبي يطبع مرات ومرات، وتسأل القراءة عن أعماله باستمرار في دور الكتب ومعارضها، معطياً أملاً للإبداع العربي، إنه سلعة ضرورية أيضاً، لكن في الواقع لا نسطيع تعميم الأمر، إنما مجرد أمل، وحتى بعد أن كثرت الكتابة الإبداعية وتعددت أوجه الترويج لها.
حين بدأت قراءة رواية (أبو شلاخ البرمائي)، في طبعتها الخامسة التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت، وأنا أتوجس من الرأس المقطوع الملقى بجوار الجسد على لوحة الغلاف. في البداية، ظننت أن سيفاً حاد النصل، يكمن بالداخل، وقد يجز قراءتي، ويلقيها على الصفحات الأولى، لكن لا دم في اللوحة يقود إلى سيف أو سكين، ومن ثم توصلت إلى نظرية إلغاء العقل أثناء القراءة، وبدأت أقرأ بعقل منزوع، داخلاً إلى نهر خيالي ممتع، ورمال من الواقع، تحاول ردم ذلك النهر، فتنتصر حيناً، وتنهزم أحياناً.
الرواية تبدأ بصحفي يعد كتاباً عن يعقوب المفصخ، الشهير بأبي شلاخ البرمائي، بتكليف من صحيفة، ولا تخبرنا لغة التكليف، من هو المفصخ، ليكتب سيرة في كتاب، ولا مبررات التكليف التي تجعل صحفياً يصبر على محاورة رجل لا يمنح الحوار ثنائيته المعروفة، سؤال وجواب، لكن المضي قدماً في القراءة، تعطيك في كل سطر جديد، ضوءاً، وكل صفحة جديدة، مبرراً.. وهكذا تمضي وأنت مقتنع بجدوى محاورة البرمائي، وجدوى كتابته سيرة أيضاً.
وعلى الرغم من الرواية كما قلت، اتخذت شكل الخيال واللامعقول، وإمكانية إدراجها لا رواية، إذا قرئت بالذهن العادي، إلا أنها قطعاً رواية، ورواية هامة، إذا اتبعنا الرأس المقطوع بلا سيف، أو العقل الملغى أثناء القراءة، هي تريد إمتاعك بخامات (ألف ليلة وليلة)، حين تأتي بسير الجنيات وحوريات البحر اللائي يظهرن في شباك الصيادين، والجزر الممتلئة بالنساء الأسطوريات، وفي نفس الوقت لا تزحزك كثيراً عن واقع عربي راهن، يرزح تحت الأمية والجهل والخضوع، وإمكانية استغلاله من قوى الغرب، لينشط في مصالحها لا مصالحه هو.
ليس أبو شلاخ البرمائي وعائلته من رسخوا للترف، في بلاد النفط بلا شك، واستوردوا الخدم الفلبينيات، والعبيد، وغيرهم، لكنهم جزء من واقع يحدث الآن، ليس أبو شلاخ وزملاؤه الذين منحوا مواهب غريبة، من أوصلوا أنابيب الثروة، في صحراء مدقعة، وبتغذية العدس الفقيرة، لكنهم رموز من أمة قد تكون موهوبة، ونشطة بالفعل، لكن لا مجال لموهبتها، ونشاطها، وسيف الاستغلال مسنون.
نتعرف في البداية على بيئة أبي شلاخ، البيئة التي نشأ وتغذى على مفرداتها الكثيرون من الجيل الماضي، قبل مراحل الازدهار، ليس في منطقة الخليج فقط، ولكن في معظم بلاد العرب تقريباً, هناك حيث لابد من أهل، ليحموا ويساندوا، وينصروا الأخ ظالماً أو مظلوماً، لابد من شيخ لتدريس القرآن للصغار، حتى يشبوا مشبعين بالنور الإلهي. بيئة الحمير والإبل والقبليات التي تحيل الشرف إلى قبيلة، وتنزعه من قبيلة أخرى، والاعتقاد في وجود الجن، ومحاورتهم، والعديد من الطقوس التي تشبعنا بها كلنا، وكتبناها لاحقاً في روايات عدت من الواقعية السحرية.
تأتي بعد ذلك م حاولة الحوار مع الغرب الذي اتسعت عيونه بشدة، والثروة تطل برأسها من تحت الأرض. هنا تبدأ معركة الفنتازيا كما أسميها، المعركة التي نوه إليها الغلاف منذ البداية، حين طالبك بإلغاء عقلك بعيداً، وأنت تدخلها. وقد تسلحت الرواية منذ صفحاتها الأولى بعدد من العرب يملكون مواهب، يريدها الغرب، وحتماً سيستغلها لمصلحته. موهبة قارئ الأثر، الذي يكتشف منابع النفط وينوه إليها، موهبة الطبيب الشعبي الذي يكتشف حبوب النشاط الجنسي التي أصبحت فيما بعد هي حبوب الفياغرا الشهيرة، وحبوب منع الحمل أو حبوب العقم أيضاً، موهبة الساحر الذي ينظر إلى الشيء، فيصرعه، ولابد من وجود هندي متعلم بشدة، يحمل درجة الدكتوراه، ليعمل في مهنة وضيعة، وهذا يحدث إلى الآن بلا شك.
وقد كانت محاولة إدخال أبو شلاخ البرمائي، إلى دهاليز الغرب، وتسخيره في أعراضه الخاصة، واقترابه من سراديب صنع القرارات الكبيرة، والتغلغل في التاريخ المعروف سلفاً، بجعله تاريخاً يضم بدوياً من إقليم الهفوف، محاولة شديدة الغرابة، وخارجة عن مألوف الكتابة، لكن لا بأس من تذوقها ما دمنا نتبع لوحة الغلاف.
لكن مع كل ذلك الزخم، وكل تلك النتوءات والتعرجات، وحملنا من جو إلى جو، مثل إدخالنا في فراش وأجساد الممثلات الشهيرات، وركوبنا بساط الريح لنطير من قمم الترف إلى قحط الصحراء، وجلوسنا في قاعات الدرس في أرقى الجامعات الأميريكية، وغير ذلك من المعقول واللامعقول الذي تمتلئ به الرواية، ماذا أرادت رواية مثل أبو شلاخ البرمائي، تطبع طبعة تلو أخرى، وتنزاح من ذهن قارئ إلى ذهن قارئ، ماذا أرادت تلك الرواية أن تقول؟..
لا أعتقد ككاتب روائي، أن الرواية مجرد متعة أو تسلية فقط، وأعلم يقيناً أن لكل روائي، صغر أو كبر، مشروعه الخاص، وكل نص له شفراته، ولغته، وطريقة حواره الذي يحاور به القارئ، وقد توصلت بعد قراءتي لرواية أبو شلاخ البرمائي، وبعد إلغائي لعناء إحالتها إلى أي مدرسة روائية معروفة، إلى الكثير من المفاهيم التي قد يتفق أو يختلف معي الآخرون في شأنها.
هي أولاً رواية شديدة الإمتاع، إذا قرئت بغرض المتعة، لكن أيضاً، وفي ظلال سردها التي ليست ظلالاً شديدة الكثافة، تنبهنا إلى أشياء عدة، خاصة حين نقرأ الواقع العربي الراهن، ونحيل العديد من صفحاتها إليه، حين نعلم يقيناً إننا نملك قدراتنا الخاصة ولا نستطيع استخدامها، ونملك كل مقومات أن نصير أمة ولا نصير. وما طرق الجنس والنساء التي وردت في الرواية، إلا طرقاً معبدة ما زلنا نسير عليها. طرق الفقر أيضاً، عبدناها، ونسير عليها، وأبو شلاخ البرمائي الذي عربد في الرواية، طوال صفحاتها، وهو الخضيري الذي ترفض قبائل الصحراء تزويجه، ويحتل فراشاً أميريكياً فخماً، ويدرس في الجامعات الأميريكية دون أساسيات تجعله دارساً، ويدخل من الأبواب الخلفية للدهاليز الكبيرة، ويمنح آذان تسمعه، هو العربي الذي يستخدم عند الضرورة، والذي يحاوره الصحفي، وهو الجدير أن يكتب سيرة باستمرار.
تقطة أخيرة عن تلاقح الرواية ببعض نقاط الواقع، أو تعرضها لشخوص حقيقيين، قد تلام على التعرض لهم، لكن أقول إن الكتابة تأتي بقوانينها، ولا تستطيع أن تصنع لكاتب ما لغته أو أفكاره، فقط نتذوقها أو لا نتذوقها، ونملك بلا شك حق لومها إن كان ثمة ما يستوجب اللوم.
هذه قراءة سريعة لرواية أبو شلاخ البرمائي، قد تتبعها قراءة أشد كثافة، إذا اتسع المجال لذلك.
السودان