يرتكز الحدث في رواية (حكاية حب) للكاتب غازي القصيبي على الصراع والتجادل بين قطبين رئيسيين: أولهما الموت المنتظر ليعقوب العريان، بطل الرواية. وثانيهما وقائع علاقة الحب المستدعاة في مخيلة هذا البطل، وهي علاقة سبقت مرضه المميت، الذي بقي محتفظا طول الوقت ببؤرة المشهد السردي.
وفي الحقيقة فإن كلا القطبين يحل بذات القدر من الأهمية في صنع الحالة الحدثية وتطويرها وحفز آلياتها السردية، بل انها تقوم بهما معا في اطار من علاقة جدلية متشابكة ومتصارعة في ذات الآن. ففي الوقت الذي ينتظر يعقوب العريان فيه الموت مقيماً في مصحة، مهمتها جعل الموت هادئا وغير مؤلم على من هم يعانون من أمراض غير قابلة للشفاء، في هذا الوقت بالتحديد يأخذ في استدعاء مشاهد حبه المستحيل ذاك. حيث تتقاطع هذه المشاهد مع المشاهد التي تتم خلال الزمن الروائي المعاش، بحيث تمثلان معا ضفيرة حدثية متماسكة، تتصاعد بشكل متزامن، وكلما أوغلنا في تداعيات الحالة المرضية تكشفت لنا تطورات وتحولات هذا العلاقة.
وهي علاقة مستحيلة لأن المرأة المعشوقة ليست خالصة له، فهي متزوجة من آخر. ومن الواضح أن هذا الآخر يحبها، ربما بذات القدر الذي يكنه لها يعقوب ان لم يكن أكثر. نعرف ذلك من خلال اخبار الزوج ليعقوب بأن روضة (وهو اسم المرأة التي يقع في حبها يعقوب.. وللاسم دلالة سوف أتوقف عندها بعد حين) في المستشفى تضع مولودتها الاولى، واذا كنا نعرف على وجه اليقين أن هذه الطفلة (هديل) هي ابنة هذا الرجل قد جاءت من صلبه، الا أننا لا نكاد نعرف النسب الحقيقي من ناحية الأب للطفلة الجديدة التي ولدت بعد قيام علاقة روضة بيعقوب، هل أبوها هو الزوج الرسمي أم أنه يعقوب نفسه؟ فعندما يذهب يعقوب للطبيب ليقوم بتحليل دمه ليقارن الحامض النووي الخاص به مع ذلك الخاص بالطفلة ليتأكد من نسبها له يعرف، بشكل عرضي تماما، بحقيقة مرضه المستعصي ذاك، وكأن هناك ارتباطا شرطيا بين اليقين والموت. وهنا يقرر تمزيق التقرير الطبي الذي يحتوي على اثبات النسب.
وهي أيضا علاقة ذات طابع طيفي أثيري، علاقة غير اعتيادية ولا واقعية، فلقد التقيا في متجر تديره المرأة حيث وقع في حبها من أول نظرة. ومنذ ذلك الحين وهو لايستطيع من حبها فكاكا، وعندما طلبت منه المرأة أن يلتقيا في (دار السرور) التي قرات عنها في احدى الروايات التي كتبها يعقوب، يخبرها بأنها مجرد دار متخيلة على الورق ليس أكثر، وهنا تأخذه إلى (دارسرور) أخرى تخصها هي.. (آسفة يارجل، سوف آخذك معي إلى دار سروري أنا) (الرواية ص37) انها دارها هي التي زعمت وجودها بديلا عن الدار المتخيلة. فاللقاء بينهما وان أوحت الرواية أنه يتم على نحو حقيقي، الا أنه يحمل أبعادا أقرب إلى الخيال والحلم، أبعادا غير متعينة على وجه اليقين، فدائما ما يكون لقاؤهما في أماكن نائية بعيدة، كأن .. (يجلسان على طاولة منفردة، في المطعم الصغير النائي المختفي بين صخور الشاطئ) (الرواية - دار الساقي - بيروت - ط5 - 2007- ص34). أو أن يكون في كوخ عجائبي غريب، يبدو مظهره من الخارج بسيطا الا أنه ما ان ينفتح حتى ينجلى عن عوالم أقرب إلى الحلم والخيال.. (تفتح الباب، وتأخذه معها إلى الداخل، يجتازان البهو الصغير، والصالون الصغير، وتفتح الباب المؤدي إلى الشرفة الصغيرة. يعبران الشرفة، ويجد نفسه معها، فجأة، يسيران على شاطئ مهجور، يدا بيد، والبدر يطل عليهما، والساعة تقترب من منتصف الليل). (الرواية ص37)
انه عالم ذو طبيعة رومانتيكية واضحة تجمع عناصر حالمة تكاد تمثل جوا مثاليا للحب، فرغم احتمالية مفردة شاطىء البحر,الموحي بالغموض واللانهاية ومفردة ضوء القمر, الموحي بالعاطفية والتوهج الوجداني العارم، إلا أن اجتماعهما معا إلى جانب تحديد الوقت الذي هو منتصف الليل، وهو وقت السحر، والذي يمثل الساعة الأنسب للأحلام الستغرقة، ليوحي بالدلال الأبعد للحالة، فهي ليست حالة واقعية بأي ية صورة، انها رؤيا تشكلها هذه الانتقالة التي تستمد غرائبيتها من هذا الانتقال المفاجىء وغير المبرر، وغير المنطقي. ولعل هذا، بالتحديد ما يجعل فهمنا وتعاطينا مع الرواية يأخذ منحى آخر، سينجلي توا.
والمرأة (روضة.. وللاسم دلالة سأقف عندها بعد حين ) في علاقتها بيعقوب تشترط عليه ألا يأتي على ذكر زوجها بأي قول من أي نوع، كما أنها لاتذكره في حديثها بأي شكل من الأشكال. ولنلاحظ هذا الحوار:
- (لا أود أن نتحدث عنه أبدا، أبدا (تقصد الزوج), عندما أكون معك لاأود أن...
- حسنا حسنا، فهمت، لن
- أريد وعدا قاطعا.
- أعدك وعدا قاطعا
- شكرا) (الرواية - ص34 )
ولولا معرفتنا بهذا الزوج في بداية العمل، لما عرفنا عنه شيئا. حيث نلاحظ هنا تشديدا واضحا وجليا على عدم ذكر هذا الزوج، على نحو يثير التساؤل. يتمثل ذلك في تكرار كلمة (لا أود) مرتين، وكذلك كلمة (أبدا) مرتين، وكذلك عبارة (أريد وعدا قاطعا). فلماذا هذا التشديد على عدم ذكر الزوج؟ وما التبرير الأخلاقي الذي يمكن أن تسوقه الرواية لصنيع المرأة التي تساير رجلا غير زوجها على هذا النحو الحميم. والأمر، بالطبع ينطبق على الرجل (يعقوب)، وان بدرجة أقل؟ وكيف يمكن أن نفهم امتناعها عن اخبار يعقوب بحقيقة نسب البنت التي ولدتها أثناء علاقتها به؟ خاصة عندما يتبدى انفعاله الشديد الذي يكاد يعصف به ويزلزل كيانه، هذا الانفعال الذي تبرزه الرواية على أقوى صورة:
- قلت اني حامل.
هل كان للنبأ أثر الصاعقة؟ لا، الصاعقة تحرق الضحية وينتهي الأمر. كان للنبأ أثر الزلزال الذي يضرب ويستمر يضرب. يسلمه من عاطفة إلى عاطفة بلا رحمة. من الزهو إلى الخوف إلى القلق إلى الغضب إلى السغادة إلى الشفقة إلى الحب إلى الفضول إلى الحنان إلى الحيرة. يحاول أن يتكلم، ولا يستطيع. تواصل النظر اليه، مبتسمة، والمشاعر المتناقضة تعصف به وتهزه من الجذور. بصعوبة بالغة يقول: - روضة، من..؟ (...)
روضة، هل أنا؟
يجىء صوتها قاطعا كالسيف:
- وعدت، وعدت وعدا قاطعا،
يهمس بصوت متحشرج:
- ولكني لا أتحدث. .لا. .لا أتحدث عنه.. انا فقط.. أنا أريد. .
يهوى السيف مرة أخرى:
- أنت تعرف، تماما إلى أين يقود هذا الحديث. لا تسأل هذا السؤال مرة ثانية إذا كنت تريد أن تراني. (الرواية - ص67)
ان هذه القطعية والحدة الباترة لا تتناسب اطلاقا مع وعي وسلوك امرأة شرقية،. كما أنها غير مفهومة الا في اطار ملاحظة عبارة (لاتسأل) التي تحيلنا إلى الى عالم الحكاية الشعبية المبنية على الأحاجي، والفاكهة المحرمة، والأسئلة الممنوعة. ونلاحظ أيضا أن الرواية قد تضمنت عددا من الاشارات إلى حكايات ذات طابع شعبي واضح، كحكاية الزير سالم والأميرة فيروز وابيها الملك ألماس..إلخ (انظر ص80 وما بعدها). وهنا نستطيع القول أن الخطاب الروائي قد خرج تماما عن المسار التقليدي الحكائي بالمعنى الواقعي الذي تعنى فيه العناصر ما تشير اليه بصورة مباشرة. اننا هنا بإزاء عالم كامل من الرموز والايحاءات التي تشير إلى ما وراءها. فالمرأة هنا ليست مجرد امرأة، بل معنى، ورمزا، وقيمة فاذا، سواء من حيث دلالة الاسم الذي تفصح الرواية عنه بوضوح لا يقبل اللبث، عندما نقرأ قول يعقوب العريان وهو يجيب عن معنى اسم روضة قائلا:
- حبيبتي. الاسم يعني حديقة باللغة العربية (الرواية ص65)
فهل نحن بازاء ايحاء، بشكل ما إلى الجنة التي علينا أن نخرج منها نتيجة ضعفنا الأخلاقي، كما في الحكاية الدينية؟ أم أن الحديقة (الجنة) هنا تحيل إلى الحياة بنعيمها وجمالها الأخاذ الذي يمنح نفسه لكل الأحياء دون استثناء، ومن يصبح أبناؤنا الذين قدموا منها ليسوا بأبنائنا، إنما هم أبناء الحياة، فلا ينبغي أن ندعي امتلاكنا لهم، بل نحن وهم صنائع لفاعل واحد، هو الحياة نفسها، تلك التي نشتهيها، وهي تعطينا بقدر ما تريد هي، وحسب قانونها الخاص، لا بحسب رغباتنا ومطالبنا منها. هنا يأتي قول جبران الذي أولردته الرواية في ثنايا حوار يعقوب وروضة:
- ماذا قال جبران يارجل؟
- قال أشياء كثيرة.
- ماذا قال عن الأولاد؟
- (أولادكم ليسوا أولادكم. انهم أبناء الحياة، وبناتها. الحياة التي تشتاق إلى نفسها). لا أذكر البقية
- (إنهم يجيئون عبركم، ولكنهم لا يجيئون منكم. ومع أنهم معكم الا أنكم لاتملكونهم).. (الرواية ص110). ها هو الكاتب يمنحنا شفرته ومفاتيح عمله المتعدد الطبقات، فالمرأة هنا هي الحياة، والطفلة التي جاءت منها (زينب، كما فضل يعقوب أن يسميها على اسم والدته) ليست، ولا ينبغي لها أن تكون ابنته، وفي هذا مايفسر سر عدم البوح بنسبها وعدم الحجيث عن زوجها وسر منحها نفسها له وهو ليس زوجها. ان روضة هنا هي المرأة - الدنيا، الوجود الخالق- المانح للحياة والبقاء. ولعل يتسق مع اصراها على أن تنادي يعقوب ب(يارجل) لا ب (يا حبيبي)، عندما يسألها يعقوب عن سر هذا النداء تقول:
(يارجل، يا رجل أنا أسرق هذه اللحظات من الزمن، أغافل القدر، أتظاهر أننا في حالة عادية من الحالات البشرية.. في اللحظة التي اكتشف القدر فيها أننا في حالة سعادة، في حالة حب، في اللحظة ذاتها، سوف يسرقك مني، أو يسرقني منك). (الرواية ص46)
اذن فالمرأة هنا هي الحياة التي ينبغي أن تكون عادية غير مغالية وغير متجاوزة لحدود بعينها حتى لا تصل إلى الكمال الذي لابد أن ينبئ بالنقصان والزوال. انها الحياة التي ينبغي أن نحياها كما هي، لا كما نتمناها. فهي تعرفنا كما نحن، وعلينا أن نعرفها كما هي، لا كما نتمناها. ولعلنا نفطن إلى أن(ام روضة) تتعامل معه, بعد أن يتعارفا عن طريق (روضة)، وكأنها تعرفه منذ سنين، تقول الرواية:
بدأت تعامله كما لو كان جارها في الحي منذ سنين: (أهلا أبو يوسف). وأحس هو أنه يعرفها طيلة حياته: (أهلا أم روضة). لا أسئلة ولا أجوبة. (الرواية ص46).حتى ان روضة تتهيأله في نهاية الرواية وفي لحظات احتضاره في صورة زوجته المتوفاة منذ زمن بعيد، بما يجعل من روضة كيانا كلي الحضور، سابغ الدلالة.
ان هذا الاحساس التلقائي بالمعرفة القديمة، شريطة عدم الالحاف وعدم السؤال، حسب منطق الرواية - الأسطورة، هو ما يؤكد ما ذهبت اليه من المعاني والدلالات التي يوحي بها نموذج المرأة - الحياة في هذه الرواية. وسنلاحظ أن نهاية يعقوب سوف تحين في اللحظة التي يحاول فيها معرفة نسب (زينب) البنت التي ولدتها روضة بعد علاقتهما، وهو ما يعني أنه قد خان العهد الذي قطعه على نفسه بعدم السؤال، منكرا - وان على نحو ضمني - واجبه الذي يقضي بأن يقبل الحياة كما هي، وأن يأخذ منها ما تقبل هي أن تعطيه، لا ما يريد هو.
ولعل الرواية بذلك تلعب على ذات التيمة التي قدمها نجيب محفوظ في قصة (أهل الهوى) من مجموعة (رأيت فيما يرى النائم)، (مكتبة مصر- القاهرة- ط3 - 1987) حيث تحتل مكان روضة هنا شخصية (نعمة الله) هناك ويمثل الرجل هنا شخصية (عبدالله) هناك.
ان وجه العلاقة بين العملين يكمن في طبيعة المرأة - الحياة المتكبرة المتجبرة في كل منهما (الروض والنعيم) وفي طبيعة الرجل - الانسان المهيض الفاني، الذي لا يمكنه الا أن يأخذ ما يمنح اليه.
غير أن الاختلاف هنا يتجلي، في أن حكاية حب - إلى جانب ذلك - تقدم رؤية لعالم كامل يمتد بين الشرق والغرب، يمور بالنماذج البشرية المتنوعة، ما بين الممرضات الأمريكيات الشبقات وعالمة النفس التي تتسم بالواقعية والايمان بالحياة والقس المسيحي الناقم على كنيسته ورجل الأعمال الذي يواصل الاهتمام بالبورصة رغم كوارثه الحياتية، سواء مع أبنائه، أو في صحته التي تنتهي في كل لحظة في انتظار الموت.
وعلى ضفاف هذين القطبين، السابق الاشارة اليهما في بداية هذه الورقة - الموت والحياة - تترى عناصر أخرى، تمثل آراء سياسية، كالموقف من الديكتاتورية والموقف من أمريكا، وأخرى في الدين والحياة والحب والثقافة.. إلخ. واشارات إلى مقاطع من شعر جبران وقصة ليوسف ادريس وملحمة جلجاميش وأغنية لطلال مداح تتحدث عن علاقة حب اسطورية.. إلخ، وهو ما يطبع الرواية بطابع تأملى واضح، ويجعلها بمثابة شهادة فكرية ورؤيوية تطرح قضايا كبرى تتصل بقضايا الوجود الانساني، على نحو مباشر.
لقد جاء المكان في الرواية موحيا بالحالة البرزخية التي ليست أكثر من محطة عبور، فهي المصحة التي ينتظر جميع نزلائها الانتقال إلى عالم آخر. وهي وإن بدت أنها تقع في امريكا أو احدى البلاد الأوربية الا أنها بدت انسانية جدا، بل تكاد تشبه سفينة نوح التي تجمع أخلاطا من الناس الذين عليهم ان يرسوا في مكان آخر بعد حين.
كذلك جاء الزمان متداخلا ومبنيا على المراوحة بين الماضي والحاضر في حركة دؤوب لا تتوقف، وهو ما ساهم جميعه في تأكيد حالة انعدام الوزن والانتظار واللا استقرار التي تكتنف جميع شخوص الرواية.
كما جاءت هذه الشخوص في إهاب الكائنات البائسة المسكينة المستحقة للشفقة والتعاطف رغم التباين الحاد بين طبيعة كل منهم عن الآخر. لقد جاؤوا أشبه بأبطال التراجيديات اليونانية القديمة التي أصابتها لعنة الخطيئة المسلطة عليهم من قدر لا يرحم، فكتبت عليهم المعاناة وانتظار القضاء المحتم.
كما جاء البناء مركبا غاية التركيب فتم استخدام تقنية (الرواية داخل الرواية) وتضمين نصوص من عيون الأدب العربي والتناص مع عناصر ثقافية متعددة، سبق ايرادها. لتتضافر كل هذه العناصر مخرجة لنا عملا أدبيا كثيفا قادرا على النفاذ من أن يكون مجرد حكاية حب، ليصبح حكاية وجود ومصير انساني كامل.
مصر