Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
الإدارة نصاً إبداعياً
السيد ولد أباه

 

عُرف عن ابن خلدون قوله الشهير في المقدمة إن العلماء والأدباء هم أبعد الناس عن السياسة وأقلهم كفاءة للشأن العام.. ولقول ابن خلدون أدلة كثيرة لا تحتاج لبيان، من امرئ القيس الذي أضاع ملك أجداده إلى المتنبي الذي فشل في أن يحصل على إصغر إمارة رغم صحبة أبرز ملوك عصره، انتهاء بنزار قباني الذي كان يحب أن ينعت بالدبلوماسي الفاشل والشاعر الناجح.. ولا شك أن للقاعدة الخلدونية استثناءات، في مقدمتها حالة غازي القصيبي.

كنت كغيري قد اطلعت على رواية (شقة الحرية) قبل أن أتعرف على القصيبي، وقد سحرتني بمشاهدها وشخوصها، واكتشفت فيها القاهرة التي لم أعرف بحكم اختلاف الأجيال.. واعتبرت أوانها أن القصيبي قدَّم إحدى أجمل الشهادات الروائية على الحياة الطلابية وكنت يومئذ طالباً مغترباً.

بعد قراءتي لشقة الحرية أطلعني أحد سفراء موريتانيا السابقين في الرياض من الأدباء الظرفاء على أحد دواوين القصيبي ناعتاً إياه بأنه من أبرز شعراء المملكة العربية السعودية، ووجدته يحفظ بعض الأبيات الجميلة من الديوان الذي كان يحتفظ به في مكان خاص من مكتبته.. سألت الصديق السفير عن مركز الرجل ووظيفته ففوجئت عندما أخبرني أنه وزير للصناعة على ما أعتقد، وأن تخصصه في القانون والعلاقات الدولية، وأنه كان مديراً للسكك الحديدية.. بدت لي خلفية الرجل مثيرة طريفة، من عدة أوجه:

فنادراً ما يمكن الجمع بين الشعر والرواية، ولا أذكر في الساحة الثقافية العربية من وفق في هذا الجمع وأبدع في المجالين غير القصيبي.. صحيح أن الطيب صالح الذي غادرنا مؤخراً مأسوفاً عليه كان يكتب الرواية بنفس شعري وهو الراوية الناقد المتميز، كما أن الروائي التونسي الكبير محمود المسعدي سلك النهج ذاته، لكن لم يكن أي منهما يقرض الشعر.. أما القصيبي فقد كان شاعراً مع الشعراء، وروائياً مع الروائيين دون التباس أو خلط.

ثم إن القصيبي جمع إلى قدراته وتجاربه الإبداعية مساراً مهنياً ناجحاً في الإدارة والعمل الدبلوماسي.. والغريب أنه تولى أكثر المسؤوليات فنية وصعوبة وأبعدها عن الأدب والثقافة كالصناعة والصحة والمياه والعمل، ومع ذلك نجح فيها بشهادة الجميع.

ويكشف الكتاب الذي أصدر عن تجربته في الإدارة عن هذه الخبرة المتميزة التي صاغها في قواعد عامة ونصائح عملية يحتاج إليها الموظفون في شتى الاختصاصات المهنية، مما يفسر النجاح الهائل الذي حققه الكتاب.

والواقع أن القصيبي حوَّل العمل المهني الأكثر فنية إلى نشاط إبداعي، على غرار أعماله الروائية والشعرية، انطلاقاً من مسلَّمة ضمنية بأن كل فعل إنساني هو مادة للإبداع ويمكن أن نضفي عليه لمسة جمالية.. بيد أن القصيبي الذي نجح في المسؤوليات الوزارية والدبلوماسية التي كلفه بها ملوك الدولة السعودية الذين كان دوما قريباً منهم جديراً بثقتهم، حافظ على علاقة غريبة خصبة بين شخصية الأديب وشخصية الموظف، يتحرر من قيود التحفظ المهني عندما يجلس على منصة الإلقاء ويحترم أصول الصنعة عندما يلبس عباءة الموظف.. بيد أن شخصية الشاعر قد تطغى عليه في بعض الأحيان النادرة فتسبب له بعض المصاعب، ويحدث ذلك عندما تستفزه مشاهد الظلم والتعسف كما كان الحال في قصيدته الشهيرة عن استشهاد الفتاة الفلسطينية آيات الأخرس وفيها يقول:

انتحرتمْ؟! نحن الذين انتحرنا

أيها القومُ! نحنُ مُتنا... فهيّا

قد عجزنا.. حتى شكا العجزُ منّا

وركعنا.. حتى اشمأز ركوعٌ

وشكونا إلى طواغيتِ بيتٍ

ولثمنا حذاء شارون.. حتى

أيّها القوم! نحن مُتنا.. ولكنْ

بحياةٍ.. أمواتها الأحياءُ

نستمعْ ما يقول فينا الرِثاءُ

وبكينا.. حتى ازدرانا البكاءُ

ورجونا.. حتى استغاثَ الرجاءُ

أبيضٍ.. ملءُ قلبهِ الظلماءُ

صاح مهلاً! قطعتموني! الحِذاءُ

أنِفت أن تَضمّنا الغَبْراءُ

كتب القصيبي هذه القصيدة الرائعة وهو يومئذ سفير لدى الملكة البريطانية، ويحسب للملك الراحل فهد بن عبدالعزيز وولي عهده آنذاك الملك الحالي عبدالله بن عبدالعزيز أنهما تعاملا مع الاحتجاجات الخارجية على نص القصيبي الذي حملت عليه الأوساط المناوئة للعرب بروح الحاكم المتسامح الذي يقدر للشاعر رؤيته وحقه في الإبداع والتعبير، على عكس ما هو سائد في دنيا العرب.

القصيبي قامة عالية في الحقل الثقافي العربي، ولعله الأديب اللامع الأوحد الذي نحج في تحويل الرتابة الإدارية إلى نص إبداعي جميل.

موريتانيا

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة