يظهر أن بعض القصائد التي كتبها الشاعر غازي عبد الرحمن القصيبي في مجموعته الشعرية (ورود على ضفائر سناء)، التي يتكئ فيها على رموز من الموروث العربي، كعنترة العبسي ومصعب بن الزبير وطارق بن زياد (في قصيدة الفرسان)، لم تكن سوى مداخل تمهيدية لقصيدته الطويلة والجميلة التي صدرت في كتاب شعري على حدة وحملت اسم (سحيم)، وصدرت في طبعتين متواليتين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت، عامي 1996 و1997.
فالأصوات المتحاورة من التراث، التي يحرّكها الشاعر على مسرح القصيدة، تنتهي بسؤال في قصيدة (الفرسان) عن (فتى التاريخ)، فارسه، مَنْ هو؟.. المؤلّف يسأل.. لكنّ التاريخ يجيب هكذا:.. يصمتُ، ثم يضحك ثم يضحك ثم يضحك ثم يغلبه السعال، كما يقول. إذنْ، ليس ثمّة من فتى لهذا التاريخ المتشعّب ذي المدارج والمرتفعات والاهوار.. بل هناك فرسان يتناوبون الأدوار على مسرح مركّب.. حيث يتداخل الواقع بالأسطورة والقديم بالحديث، والعبد بالسيّد، والعشق بالموت..
وحين وقع القصيبي على حكاية أو أسطورة (سُحيم) عبد بني الحسحاس، الذي قتلته قبيلته حرقاً بالنار، لتغزله في نساء العشيرة، وكان ذلك قرابة سنة 35 للهجرة كما في الرواية.. فإنه وقع على نبع ثري وموحٍ من التراث الذي لا ينتهي، بل يتجدد اليوم وغداً وفي كل آن، حيث توجد عناصر الحكاية، وهي عناصر العشق والموت، والعبودية والحرية والانتقام المتبادل: انتقام العبد من القبيلة التي ينتسب إليها بعشق نسائها، والوصال معهنّ، وصالاً جسدياً ومعنوّياً، يرمي إلى إتباع الشّغف والانتقام للحريّة في آن..
وانتقام القبيلة من عبدها الخارج عليها في أعز ما تملك من إرثها (العرض المتمثّل بالنساء)، بقتله حرقاً بالنار. ذلك أن الانتقام والغلبة من خلال النساء، أمر قديم وراسخ في سيكولوجية الأفراد والشعوب، فثمة ارتباط جوهري بين الأرض كحمى وعرض له.. ويشتد هذا الارتباط في حال البداوة، والتاريخ المبكر للقبائل والشعوب.. ولعلّ من توابع هذه الفكرة، ما تآلف عليه الاستعمال اللغوي لعمليات الاجتياح والغزو واحتلال الأراضي، فاللغة تستند في هذا المجال إلى مفردات ومفاتيح لها صلة بعلاقة الرجل بالمرأة، من فتح واغتصاب واختراق وما إلى ذلك، فيقال مثلاً (فتح الغزاة البلاد) أو (اغتصبوها) أو (اخترقوها) أو ما أشبه ذلك... وفي حكاية عبد بني الحسحاس، يظهر هذا المعنى جليّاً ومثيراً بالعبارة والحال، نحن هنا أمام عبد أسود اللون راسف في عبودية القبيلة، وقد منحه الله جسداً متيناً وقوياً، وملكة الشعر الذي هو سحر من السحر، فاستخدم أدواته للانتقام لعبوديته، بعشق نساء القبيلة، وتشهيره بهنّ، ووصفه المفصّل لوقائع وصاله بهنّ واحدة واحدة، واسماً اسماً.. هذه الثنائية تظهر في أشعار عبد بني الحسحاس، ويستلهمها غازي القصيبي في عمله الشعري، كما تظهر ثنائية أخرى هي ثنائية اقتران العشق بالخطر المؤدي إلى الموت. فالانتقام إذن، كما أشرنا، متبادل بين العبد الشاعر، والقبيلة المفتوك بها من خلال نسائها، وانتقامها بتحريق عبدها بالنار.
والقصة بذاتها كما نلاحظ، تحتمل أن يفجر من خلالها الشاعر، أقصى ما لديه من شاعرية، ومثلما فجرت في الماضي شاعرية (سحيم)، فترك لنا مقطعات وقصائد قليلة، إنما هي عذبة وذات تعبير فائق ومحكم عن مجمل أحواله ومغامراته وتحديّاته.. كذلك فجرت لدى غازي عبد الرحمن القصيبي شاعرية معاصرة، لا تقلّ عن شاعرية سحيم في زمانه.. بل تزيد عليها بفارق الخيال والزمان.. وقدرة القصيبي على إدارة الفكرة والصورة والمعنى، بإيقاعٍ معاصر.. فنيّ ومتأمّل معاً.
والقصيدة تبدأ بحديث مع الذات، لسحيم، يديره وهو ينتظر لحظة سحبه وإلقائه في النار.. من قبل أشياخ القبيلة، ورجالها وأوباشها معاً.. يتخيّل كيف سيجرونه، من رجله، كشاةٍ إلى النار.. لكن، في الفترة الفاصلة بين الموت وانتظار الموت، تكرّ في مخيّلة سحيم المشاهد والذكريات والأسماء.. ويبدأ بذاته لثغته.. والملامح سوداء - حسناء - والعضلات التي ضفرتها أصابع أحلى البنات يصير هباءً - سحيم الوسيم.. وينتقل إلى أولى عشيقاته (سميّة).. ثم يرتدّ ثانية إلى ذاته.. هو (العبد). أيمكن أن يكون له دم كدم الأحرار؟ يتساءل الشاعر (القصيبي) من خلاله بهذا السؤال الجميل:
(أننزف - نحن العبيد - دماً
أم هو الحبر - أسود - في لون سحنتنا؟).
ويعود لسميّه، وحبّه لها، حيث كان صبيّاً يسوق الجمال، وكانت سميّة بنتاً تسوق شياه أبيها.. وفي مقطع عذب من الشعر يختصر الشاعر هذا الحب البدويّ.. قلت لها: يا سميّة هاتي الشياهَ إلى عشب قلبي - وجريّ الشياه إلى ماء عيني - وقلت لها: يا سميّة وابتسمت - آه ما أجمل البدر في التمّ - وقالت: غرابُ شديد السواد - ضكتُ وقلتُ: غرابٌ وعبدٌ وانتِ أميرة كل النساء.. (فالغراب العبد، يغدو، هنا، كما في سائر أشعاره في الحب، عبداً لعشيقاته..) كانت سميّة في العشر والخمس - كنت أنا عبدها - وهي كانت أميرة كل الرجال.. فأّول ما حررّ العبد، الحبّ، ثم حرره الشعر (يبقى رمادي الرماد الوسيم وحين عشقت سميّة حوّلني العشق حرّاً). فسواد البشرة، لم يمنعه من حرية النفس (قد أمنح الشمس عند الظهيرة جلدة وجهي - ولا أمنح الشمس حريتي).. ذلك ما يستعيده القصيبي من خلال شعر سحيم: (إن كنتُ عبداً - فنفسي حرة كرماً - أو أسود اللون - إني أبيض الخُلق)...
وتتوالى صُور النساء اللواتي عرفهنّ من القبيلة، في مخيلته، يذكر حين احاطت بهن من أقصى الخيام، ثماني نسوة جئن يعدنه وهو مريض، ويذكر أيضاً، اسماء، (بعد سميّة).. أسماء التي لاحت وفي يدها قربة الماء (سقتني على لوحٍ من الماء شربة - سقاها بها الله الذهاب الغواديا) وشربة أسماء تقتل مثلما يقتل العطش. يقول (أأسماء - ما أجمل الريّ يقتلُ..) وتطلب أسماء منه أن يعلمها الشعر، يقول: إذنْ - أرهفي السمع حين يخرّ المطر - فوزن القصيدة صوت المطر - إذن أرهفي السمع حين يغنّي الحمام - فوزن القصيدة شدو الحمام.
ويتذكر مسألة الثأر لسواده، بعشق البيضاوات. نساء أسياده، يقول: (هل كنت أثأر للسود؟ أحمل فأس العبيد وأهوي به - فوق رأس قرونٍ من الذّل؟.. وما كنتُ أثأر بل كنت أعشق).. يتذكر أيضا العامريّة التي ينسج لها تاجاً من الأقحوان، وتخاف عليه نوايا القبيلة.. لكنه لا يخاف. ويتذكر أباه الذي لا يعرف له اسماً. بل كان يلقب بالوعل، وينصحه بأن يموت كالوعل، حراً، شديد السواد، إنما يرتقي الجبال، ويطارده البيض..
وتتوالى الأسماء بعد العامرية،وهند، وميّ.. وفي اللحظة الحاسمة، لحظة تدافع القبيلة في اتجاهه، لتسحبه من رجله وتلقي به في النار الموقدة، تتداخل الأفكار في رأسه، فيشتبك العشق بالموت، والحرية بالانتقام.
ثم ينتابه الإحساس بأنه على الرغم من سواد لونه، حرّ.. لقد حرره الشعر، مثلما حرره العشق.
إنّ غازي عبد الرحمن القصيبي في قصيدة سحيم، استعاد ملحمة شعرية رائعة من قلب الحكاية والأسطورة، وأعاد من خلالها كتابة هذا الجدال الذي لا ينتهي، بين ثنائيات العشق والمحرّم، وبين العبودية وأسباب التحرر منها كما وضع يده على قاع الروح البشريّة، في تقلباتها بين النقمة والانتقام.. وعلى المعنى القديم المستعاد للانتقام حبّاً وجعل أجساد النساء مسرحاً للعشق وللصراع، وهي معانٍ سبكها الشاعر بلغة حيّة تنبض بالصورة والاستعارة والتضمين، جادلاً الموروث بالحداثة.. ومبتكراً عمله الشعري الجميل.
لبنان