Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
في ديوانه (سحيم):
ذروة الشاعر ومأزقه في الآن ذاته
شوقي بزيع

 

يحاول الشاعر والكاتب السعودي غازي القصيبي في مجموعاته المختلفة أن يقيم عمارته الشعرية فوق أرض غير مجهولة الهوية وغير منبتّة عن سياق القصيدة العربية المعروفة والذاهبة بعيداً في القدم. فهو منذ مجموعاته (أشعار من جزر اللؤلؤ) و(العودة إلى الأرض القديمة) مروراً بأعمال أخرى مثل (ورود على ضفائر سناء) و(قراءة في وجه لندن) و(سحيم) وغيرها من المجموعات يأنس إلى قصيدة الوزن بشقيها الخليلي والتفعيلي ويرى في تموجها الإيقاعي ما يتلاءم مع طبيعة اللغة العربية الشعرية في الأصل ومع جوهر الشعر نفسه الذي يجعله بول فاليري نظيراً للرقص فيما يجعل النثر نظيراً للمشي العادي.

ومن يتتبع تجربة القصيبي سرعان ما يكتشف بأنه يعرض عن الأغراب والغموض والتعقيد ويرى إلى الشعر باعتباره مناخاً جمالياً لا بوصفه أفكاراً مجردة وتوليدات عقلية صرفة. إنه بهذا المعنى شاعر الرشاقة والليونة والتلوين الصوتي بقدر ما هو شاعر العاطفة والترسل القلبي والاحتفاء بالعالم. وهو بالتالي يتقاطع مع نزار قباني في غير وجه من الوجوه، دون أن يقع في أسره، كما يقترب من المدرسة الجمالية اللبنانية التي تحتفي باللغة وتناظراتها الهندسية واللغوية دون أن يتماهى معها.

كما أن النظام الجمالي عند الشاعر ليس مجرد مهارات لفظية أو تمارين مختلفة على اللغة والإيقاع، بل هو ثمرة اندفاع وجداني ومكابدة حياتية صادقة. وإذا كانت بعض القصائد العمودية ذات الطبيعة المناسباتية تشي بشيء من الصنيع والنظم فإن معظم القصائد الأخرى تعبر عن لواعج الداخل وانكساراته. وهو ما يبدو جلياً في قصيدة (الزائرة) التي تكشف عن شعور عارم بالكهولة والتقدم في السن وفوات الأوان مقابل فوران الصبا المندفع من الجهة المقابلة.

واللافت في الأمر أن تلك الفجوة الزمنية الفاصلة بين الشاعر وبين نساء قصائده لا ثني تكرر نفسها في الكثير من القصائد والمقطوعات مثل (يا ابنة العشرين) و(قومي افتحي الباب) و(سندريلا). ولكن أسلوب التعبير عنها لا يكون دائماً على سوية واحدة ومستوى واحدة من القوة والنضارة. ففي حين يتألف التعبير في قصيدة (ابنة العشرين) ويطفح بالاندفاع الشجي (يمر جمالك الوردي فوقي - كما تمشي النصال على الذبيح) تقع قصيدة (سندريلا) أو بعض أبياتها على الأقل في النمطية والتكرار الفائضين عن الحدود. وإذا كان بعض التكرار مؤنساً ومحبباً في بعض الأحيان فإنه حين يفيض عن حده يوقع الأسلوب في الرتابة أو يشي ولو دون قصد ببعض الوهن والاستسهال، كما في الأبيات التالية:

أخمس وعشرون؟! يا للربيع

يرفُّ نعيما.. نعيماً.. نعيما

يراودني منه خصب الحياة

فيلمس مني عقيماً.. عقيما

ويشدو بكل سعيد.. سعيد

فيسمع مني أليماً.. أليما

لكن مثل هذه الهنات لا تتكرر لحسن الحظ في الأعمال والقصائد الأخرى بل تخلي مكانها للكثير من النمنمة والإتقان والهندسة التعبيرية اللافتة. ولن يجد القارئ الحصيف فروقاً كبيرة تذكر بين النماذج الكلاسيكية الخليلية وبين الأنموذج الذي تقدمه قصائد الشعر الحر. فهناك تشابه في القاموس اللفظي الذي يحرص الشاعر على انتقائه بعناية وعلى اصطفاء ما ليس منفراً ومقعراً وعصيّاً على اللفظ والفهم من ألفاظه وتعابيره.

فالقصيبي من هذه الزاوية، وخلافاً للعديد من الشعراء، ما يزال يؤمن بأن فروقاً كثيرة تفصل بين اللغة في القاموس وبين اللغة في القصيدة، بين ما يمكن للشعر أن يهضمه وبين ما يتعذر هضمه وقبوله.

كما أن إيقاع القصيدة الحرة يحمل بدوره الكثير من الانسجام والتماثل القائمين في النموذج الآخر. الفرق هنا في الكم وليس في النوع، في عدد التفعيلات وليس في أساس البنية الإيقاعية. لذلك فإن القصيدة المفعلة أكثر اتساعاً فيما يتعلق بتعدد القوافي وتنوع الصيغ والإيقاعات. كما أن هذه القصيدة تفسح المجال واسعاً أمام السرد والقص والبنية الدرامية والتوشيح الصوتي والكمائن التعبيرية المفتوحة على الدهشة:

عندما كنت تهوينني

كنت أمشي على البحر..

أزرع في موجه الورد..

أرشق لؤلؤة

في جبين الطموح

عندما كنت تهوينني؟

كان ذلك..

منذ مئات الجروح

فزراعة الورد في الموج ورشق جبين الطموح باللؤلؤة، لا يعادله في الإدهاش سوى تلك الاستعارة المفاجئة التي أحل الشاعر فيها الجروح محل السنين وعلى غير ما يتوقع القارئ. غير أن النصوص، كما في القصيدة العمودية، تتفاوت في عمقها وكثافتها وقدرتها على الإدهاش.

ففي حين يحفل الشا عر أحياناً بالصورة والتخيل ويحرص على حقن الكتابة بأمصال الجدة والتميز نرى القصيدة أحياناً أخرى تقتات من بنيتها الإيقاعية المجردة أو من موضوعها الصرف بحيث لو نثرنا أبياتها خارج مقتضيات الوزن لخلت من العناصر الأخرى التي يتطلبها الشعر وبخاصة الصورة الشعرية. وليس أدل على ذلك من مثل هذا النص:

يا صاحبي

هزمت ألف مرة

لكنني لم أدر ما الهزيمة

وعدت بالصمود.. والعناد.. والعزيمة

أختطف النصر من النهاية الأليمة

إذ كنت أنت صاحبي

لكن هذا الوجه لحسن الحظ ليس الغالب على شعر القصيبي الذي يعرف كيف يقاوم الاستسهال أو يقع في شرك السرد النثري العادي في معظم نتاجه. ومع ذلك فإنني أزعم أن شاعرية القصيبي الأكثر نضجاً وتدفقاً وقدرة على التأسيس إنما تتمثل في ديوانه اللافت (سحيم). واعترف أنني قرأت هذا العمل غير مرة وكنت أشعر كل مرة بالدهشة ذاتها والانبهار ذاته. فنحن هنا أمام عمل شعري شديد التكامل والتنوع والتناغم بين عناصره. ذلك أن الشاعر استطاع من جهة أن يطلق قصة سحيم، عبد بني الحسحاس الذي عرف بفحولته وجاذبيته النسائية وسطوته على النساء البيضاوات، من إطارها الزمني الظرفي إلى فضاء المطلق ورحابته. إنها المعادل الآخر لقصة عنترة العبسي سوى أن سحيم لم يقسم فحولته بين النساء والسيوف ولم يتعرف من خلال هذه الأخيرة على لمعان ثغورهن بل من خلال المغامرات العاطفية المشبوبة التي جعلته لا يرتضي بامرأة واحدة. أنه مزيج من عنترة وعمر بن أبي ربيعة، من الانتقام للسواد المهان عند الأول ومن الوصف الحسي وتلمس السعادة عبر الجسد الأنثوي المتكرر الظلال عند الثاني.

غير أن بيت القصيد في هذه المجموعة ليست القصة أو الفكرة وحدها بل ذلك الانسياب الشعري الذي يتدافع كالنهر من أول الحكاية حتى آخرها ومن مقطع إلى مقطع. ثمة تداخل في الأصوات والأزمنة والضمائر بقدر ما تتداخل أيضا أبيات سحيم بسطور القصيبي ووجدانه بوجدانه والأنا الأولى بالأنا الثانية في عملية تماهٍ نادرة. في هذه المجموعة تتحد الأضداد وتتصارع الخيارات فوق سطح واحد: الخير والشر، الجسد والروح، الذكورة والأنوثة والحرية والاستعباد:

أنا عبد وحرُّ

سميّة كانت مليكة كلِّ النساء

وكنت أنا العبد، كنت

مليك جميع الرجال

وحين اعتنقنا تصادم ليلٌ وفجرُ

وفي الانفجار تحوّلت الأرض عرساً

وجاء الشهود

وكما الرؤية والمعنى كذلك اللغة والأسلوب والجسد البلاغي للنص. فالشاعر الذي يسلم القياد للتداعي العفوي في السرد واللفظ والتقفية يعمد أحياناً إلى استخدام مهاراته البلاغية من خلال الطباق والجناس والإحالة والتناظر. لكن ذلك يأتي بلا كلفة ولا افتعال لا بل أنه يصب في خدمة المعنى وتطوير الدلالة، كما هو في المقطع التالي الذي يلعب فيه الشاعر، عبر قناعه التاريخي، على اسم (سمية) واشتقاقاته الكثيرة والمؤثرة بما يخدم المعنى والقصد من ناحية ويخلق من خلال تكرار الحروف الصوتية مناخاً موسيقياً بالغ الجمال من جهة أخرى.

وأهمية مثل هذه النصوص أنها لا تنجح في الإفلات من الآثار الجانبية السلبية للمحسنات البديعية والتزيين البلاغي والمهارات اللفظية فسحب بل أنها تنجح في تطويع الشكل وتشريقه بما يتلاءم مع طبيعة الموقف المعبَّر عنه والمعنى المراد إيصاله إلى القارئ. كما أن تكرار حرف السين، وهو حرف صوتي بامتياز، يحول الشعر هنا إلى نوع من الزقزقة التي تشبه زقزقة العصافير والتي تتوافق أتم التوافق مع حالة العشق والوله التي يعبر عنها القصيبي بلسان بطله الذي يعرف بحسه الذكوري وخبرته العاطفية وحساسيته الشعرية المفرطة أن اللغة هي إحدى المفاتيح الأكثر نجاعة وفاعلية لولوج قلب المرأة والاستحواذ على إعجابها ولأنه يتقاسم مع سحيم افتتانه بالنساء وباللغة على حد سواء فهو يحوّل بطله (الاستشهادي) إلى قناع له ويحمله بالتالي كل ما يختزنه في داخله من لواعج وشجون إزاء النساء اللواتي أحبهن واللواتي يتحولن إلى ظلال متعددة لروح الأنوثة الأبدية التي تجرنا وراءها، كما يقول الشاعر الألماني غوته. وليس من الغرابة تبعاً لذلك أن تتعدد أسماء الحبيبات المقصودات بالخطاب بين سمية وأسماء وعميرة ومي وهند وبثينة وغيرهن فيما يحافظ الخطاب الشعري على وتيرته الساخنة والقلب على توتره وخفقانه. وحين يخطئ سحيم دون قصد في تسمية إحدى عشيقاته التي تسارع إلى لومه ومعاتبته يقول لها:

أنا، هند، عبد الجميلات

أصبو لكل الجميلات

لكن بعض الجميلات يعبرن مثل السحابة

بعض الجميلات يرسخن الروح كالنخل..

ثمة في ديوان (سحيم) ما يظهر معرفة الشاعر العميقة بعلم النفس وبالكثير من وجوه التحليل النفسي لشخصية سحيم، كما للشخصيات الأخرى. فسحيم لا يجد ما يرد به على استعباده من قبل بني الحسحاس كما على سواد لونه سوى شعوره العارم بفحولة طاغية لا يمتلكها أسياده المترهلون من الترف، لذلك فإن اندفاعه الأهوج يجيء انتقاماً من هؤلاء الأسياد المستبدين من جهة وهجوماً على الحياة الجائرة التي حرمته من حقوقه الإنسانية المختلفة من جهة أخرى. كأن سحيماً هنا يواجه سلطة المجتمع الاستبدادي والعنصري عبر سلطتين اثنتين توفرتا له في آن واحد؛ هما سلطة اللغة وسلطة الجسد، وكلاهما معاً ضرب من ضروب الفحولة. والبطل الشعري هنا لا يبتعد كثيراً عن البطل الروائي في رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) حيث يرد السوداني مصطفى سعيد على تسلط الغرب وجبروته عن طريق الفحولة وإغواء الفتيات الغربيات المماثلات بشكل أو بآخر لفتيات بني الحسحاس.

أما الوجه الآخر للتحليل النفسي فيظهر من خلال افتتان نساء بني الحسحاس بعبد قبيلتهن الأسود متجاوزات عقدة التفوق الاجتماعي وعقدة اللون والوسامة والشكل. فالنساء اللواتي افتتن بسحيم لم يفعلن ذلك بسبب وسامته النادرة، بل لسبب معاكس تماماً ومتصل بجمال القبح، إذا جاز التعبير، إضافة إلى مسألة أخرى تتعلق بما يمكن أن نسميه (حسن الغريب). فالعادة عدوة الجمال كما يقول بعض المفكرين، لأنها تفسده بالتكرار والرتابة الباعثين على الضجر، في حين أن الغريب والوافد يحتفظ بسحره الخاص الناجم عن الغموض والمباغتة والفضول. وهو ما نرى نظائره في (ألف ليلة وليلة) حيث النساء، كما المدن، يسلسلن قيادهن وزمام أمورهن للغريب الوافد.

يبقى القول أخيراً بأن غازي القصيبي في ديوانه (سحيم) قد ترك لنا ولقرائه جميعاً أحد أجمل دواوين الشعر العربي المعاصر. لكن هذا الديوان ليس مأثرة الشاعر فحسب بل هو مأزقه وتحديه الخطير في الوقت ذاته، لأنه من خلاله وضع لنفسه سقفاً عالياً يصعب تجاوزه، وإن كنا نتمنى له ذلك.

لبنان

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة