بعيداً عن الألقاب والمناصب، أدخل إلى عالم الدكتور غازي القصيبي، بغير استئذان، لأنّ مضاربهُ العربية مفتوحةٌ على المدى، في الصحراء.. لا تنطفئ فيها نار القِرى، ولا تبرد قهوتها المُطيّبة بالهيل.. ومرحّباً بالضيفان، على فمه الذي لا تفارقه البسمة أبداً.. وهو المسكون بالحُزن المُعتّق، مُنذ أن أسكنه الشِعر صدر البيت، وأسكن هو الشِعر في صميم الفؤاد.. واستعيرُ منه بيتين يصفُ فيهما نفسه، لأصفه كما أراد:
وأحسبُ أنّ القصيبي -على تعدديته- مُتفرد بالشعر، ومنحازٌ إليه أكثر من أي عبقريةٍ أخرى فيه، لأنّه السيّد، والباقي تفاصيل.. واسألوه هو يقُل لكم إنّ القصيدة عنده تختصرُ كلّ شيء، ولا يمكن للأشياء كُلّها أن تختصر القصيدة!
وصحيحٌ أنّ القصيبي برغم ما توافر له من إمكانيات الانتشار على أكثر من صعيد، إلا أنّ النقد وبخاصةٍ (النقد الأكاديمي الراقي) لم ينتبه بعد إلى هذه التجربة العملاقة، التي أزعمُ أنّها تصل إلى حدود العالميّة - وأقولها بلا مجاملة، ودون أيّ تردُّد.. والذنبُ في هذا التقصير ذنبان: ذنبُ للقصيبي فيه نصيبٌ، وللآخرين الباقي.. فالمجتمعُ الثقافي العربيّ بعامّة، مجتمع كراهية.. وحسد، وغِيرة.. خصوصاً عندما يكون الشاعر أو الأديب أو المثقف مسؤولاً كبيراً، يعملُ في الدولة (لا خارجها).. فالتقصير إذن متعمّدٌ، وعن قصد، إزاء من يملك القلم، والسيف معاً، على الرغم من زُهدِ صاحبهما الذي لا يعدله زهد، والتواضع الذي لا يوازيه أيُّ تواضع!
إنّ لغازي القصيبي عندي شخصياً، مكانةً استثنائية، فأنا أُحبّ الرجل -عن بُعد- وأتابعه باستمرار.. وأرى في خط سيره الصّاعد دائماً، ما يجعله قادراً على أن يكون بشعره، وأدبه وحدهما في الصف الأول، بين شعرائنا جميعاً، وبإمكانه كذلك -لو أراد- أن يستغل معرفته الواسعة بأكثر من لغةٍ عالمية، ليسجّل اسمه في قائمة المبدعين العالميّين.. وصولاً إلى أرفع الجوائز التي فاز بها من هم أقلُّ منه بكثير.. غير أنّه لا يُريد.. وحسبُهُ أنّه يكتبُ ما يشاء، لا ما يشاء غيرهُ، ودون أن تُقيّده كما الكثير ممّن نعرف.. شهوة الجوائز، أو شهادات التقدير..ولعلّي كنت أقصده بقصيدتي عن (الجائزة)، أية جائزة.. حين قلتُ:
جائزة الشاعر أن يرضى عنه الشِعرُ
وأنْ يخضرَّ الورقُ إذا عانقه الحِبرُ
فيغدو للا معنى.. مَعنى
وأقولُ لكم: تبقى الكلماتُ ظلالاً للكلماتْ
حتّى يُلبسها الشعرُ عباءتهُ
فيُسوّي منها دنيا.. تختلف عن الدُّنيا
وحياةً لا تُشبهُها أي حياة
ويفجِّرُ منها أنهاراً وبحاراً وسهولاً وجبالاً
ويُعيد اللونَ إلى وجهِ الكونِ
ويطلع في كُلِّ صحاريه الواحاتْ!
أجل أعنيه هو بذلك القول، وهو وحده الذي يستحقُّ أن يُقال عنه مثل هذا الكلام.. ومن حقِّ (الفصحى) التي غرّبها أهلُها، وتنكّروا لها تماماً أن تعتز بشاعرٍ كبيرٍ كالقُصيبي..
وما دام الشعر يأتي من منطقةِ الرُّوح، فلا شكَّ أن المتنبي (وهو الجدُّ الأثيرُ لغازي) يدخلُ منطقة الحفيد كُلّما راوده الشِعرُ، أو الكتابة بعامّة.. فلا يزور الكبارُ إلاّ الكبار.. ولا ينصت لنبضِ الشاعر إلاّ الشّاعر.
الأردن