حينما تلقيت الدعوة الكريمة، للمساهمة في هذا الكتاب، احتفاء واعترافاً وتقديراً للدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي، تملكني إحساس بالحرج قبل الإقدام على محاولة الكتابة والمضي فيها. ذلك أني وجدت نفسي منذ اللحظة الأولى أمام قامة إنسانية وفكرية شامخة بكل المعايير، كثيرة الإنجازات غزيرة العطاء في مختلف المواقع التي مرت منها وعملت بها. إنها اسم علم حاضر بقوة على مدى المشهد الثقافي العربي، الإبداعي منه بشكل خاص، من خلال الدواوين الشعرية والأعمال السردية القصصية والروائية والمحكيات التي أصدرها مطبوعة، عدا المقالات المتناثرة والدراسات الكثيرة التي خطها قلم المحتفى به.
أهله ذلك ليرسخ اسمه عن جدارة واستحقاق، ومنذ وقت مبكر، في ذاكرة قرائه المنتشرين مشرقاً ومغرباً. خاصة وقد اختار الصحافة، الوسيلة الأكثر ذيوعاً وانتشاراً ليتواصل عبرها مع قرائه المعجبين بأدبه، المتطلعين إلى جديد إنتاجه وفصول مساجلاته ومعاركه الفكرية المتتابعة، المثيرة للنقع والغبار، دفاعاً عن القيم والمبادئ والمثل التي طالما طبعت مسيرة ومسار غازي القصيبي الفكرية. فهو لا يحيد عن قناعاته، قيد أنملة، بشهادة منتقديه. لكنه بذات الوقت يمتلك القدرة والشجاعة على إنضاجها وتطويرها، دون أن يهاب أو يتهرب من ممارسة المراجعة والتصحيح الذاتي.
إن هذا السلوك الفكري المتأصل، في طبع الأديب والمثقف غازي القصيبي يحفز نحو محاولة القيام بإطلالة على جزء من عوالمه الداخلية لملامسة سجايا وخصال، نعتقد أنها لصيقة بشخصيته الودودة، المنفتحة على الحياة والمعرفة الإنسانية. وفي طليعة هذه الخصال الصدق، بما تعنيه هذه الفضيلة الخلقية النادرة من شجاعة في الرأي، وثبات على العهد والمبادئ، وجرأة في قول الحق والجهر به، ومواجهة العواصف الظالمة، حتى لو كلف ذلك السلوك صاحبه، التضحية بعلاقات وصداقات غير مبنية على أساس متين.
إذا كان سلوك، مثل الذي ذكرناه، غير مستغرب من مثقف مستقل، متحرر من كافة القيود والالتزامات الرسمية، غير آبه بالأعراف الاجتماعية التي تستلزم الانتباه والحيطة ومراعاة الاعتبارات، فإن إعجابنا سيزداد حقا بقدرة عزيزنا غازي القصيبي الخارقة، على التوفيق بين نزوع المثقف الحر الذي يسكنه، الحريص في كل الأوقات على عدم التفريط في صوته الخاص، وبين إسناده المهام الرسمية بما تقتضيه من الانضباط للموقف السياسي العام، وتقليص مساحة الحرية الشخصية، إلى حد معقول، لا تذوب معه شخصيته. إنه توازن لا ينجح في إقامته والحفاظ عليه كل الناس دون تضحيات ومعاناة. بل لا يتوفر، في اعتقادي، إلا لرجالات الدولة الأفذاذ، المتشبعين بالعلم والمعرفة والتجربة الميدانية وسعة علاقاتهم الإنسانية. وفي ظني أن غازي القصيبي واحد ضمن معشر هذا الصنف من البشر.
ولست بحاجة في هذا المقام، لاستعراض سجل المهام الرسمية الكثيرة التي اضطلع بها القصيبي، على مدى مساره المهني الحافل ولكني أحرص على التوقف، في هذا الاستحضار الموجز، عند جانب لافت لأي ناظر متأمل في سيرة هذا المثقف الاستثنائي، المتمرد والحكيم في ذات الوقت وبرأيي فإن الجانب الذي يستحق التنصيص عليه، يتمثل على الأرجح في أمرين بارزين: أولهما أن القصيبي كان مطلوباً دائماً، وربما بإلحاح منذ إنهاء تحصيله الجامعي الأول، لتقلد أرفع المناصب وأصعبها في ظل حكومات وعهود توالت في بلده، ما يدل على قناعة من اقترحه بكفاءته ونبوغه المبكر وقدرته على التفرع لدراسة الملفات المستعصية، وبما له كذلك من توجه اجتماعي يجعله أهلاً لمعالجة قضايا المواطنين والإصغاء لهم والتجاوب معهم.
والأمر الثاني، أن عزيزنا غازي، وهو الشاعر الرقيق، والدبلوماسي الألمعي، تقلب بين المناصب ذات الطابع التقني المغرق في التخصص. فقد تولى الإشراف على إدارة السكة الحديدية، واضطلع بمهام وزارة الكهرباء، على سبيل المثال لا الحصر، لكنه سرعان ما يترك تلك المسؤوليات ذات الدقة والآلية، وتسند إليه قطاعات سياسية اجتماعية متصلة بحياة السكان اليومية، تحتم عليه التواجد في الواجهة، دون أن يشكل استبدال المهام عائقاًَ للعودة، لمثيل مهامه الأولى، إذا ما اقتضت مصلحة البلاد ذلك. ثم يرتاح قليلاً ليتهيأ للإبحار في عباب بحار الدبلوماسية، حيث رسا مركبه في نهاية رحلته بأعرق موانئها، في الحاضرة اللندنية، عاصمة البروتوكول والأعراف وتقاليد الكياسة الدبلوماسية العريقة، وحيث المجتمعات المخملية، فضلاً عن كونها إحدى أهم العواصم العالمية المؤثرة والمشاركة في صنع القرارات الكبرى ذات الوشائج الخاصة ببلده، مثلما هي الفضاء الأمثل لنسج العلاقات الغامضة والعادية، وترويج الأفكار وتدبير العلاقات بين الدول والأفراد.
أحاول الآن، أن أبدي بعض الملاحظات السريعة بخصوص الجانب الفكري عند هذه الشخصية المتفردة. وأول ما يستوقف الدارس والقارئ على حد سواء، تعدد مواهب غازي القصيبي فقد قرض الشعر قديمه وحديثه وترك في كليهما آثاراً شاهدة في ديوان الشعر العربي. ساهم مثل أكابر الشعراء في تجديد وتطويع القصيدة للتعبير عن شجون الذات وأحزانها وهمومها وهواجسها. مثلما تجلت براعته الإبداعية في طرق أغراض ومواضيع غير مسبوقة، ما يجعلني أميل إلى القول بأن القصيبي لا يرتاح دائماً للون تعبيري في الكتابة دون غيره. الشعر عنده وعاء يصلح لاستيعاب ما لا يناسب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية. وفي المقالة يجد الميدان فسيحاً للمساجلة والنقاش المحتدم وتلوين الأفكار ومقارعة الحجة بالدليل المضاد. وفي المقالة القصيرة أو الخاطرة الصحافية، يلجأ القصيبي إلى استخدام أسلحة ووسائل تعبير أشد مضاء وأقوى تأثيراً مثل أسلوب السخرية المرة التي يصوب سهامها نحو الظاهرة أو السلوك الذي يريد انتقاده ومحاربته والنهي عنه.
وفي هذا الصدد، يبدو لي أن السخرية والقول اللاذع لا يخفيان دائماً نفسية ضيقة، متحاملة على الناس، بقدر ما يعبران عن العكس. وكما نعلم فإن كبار الكتاب الساخرين في الآداب العالمية لم يصدروا في غالبتيهم عن حالات مرضية، وضيق بالبشر، بل غالباً ما نشدوا الخير للإنسانية في كتاباتهم وناهضوا الشر والقبح والظلم ودعوا إلى قيم التسامح والإخاء. وبمعنى آخر فإن تصدي الكاتب الحق بأسلوب ساخر، يخفي وراءه غيرة على الحق والعدل وتفضيلاً للمصلحة العامة. وبهذه المناسبة، فإني كقارئ، أستحضر سلسلة المقالات المتأججة، التي كتبها غازي القصيبي من وحي مأساة غزو الكويت، على أيدي النظام العراقي البائد. استشعرت فيها، في حينها، حزناً ممضاً يخترق أعماق كاتبها، وإحساساً بالفجيعة وألماً من الجرح الغائر في الذات، جراء ما أصاب الأمة العربية، في تلك اللحظة العصيبة التي كانت حقاً منذرة بالتداعيات الخطيرة التي لاحت لكل ذي بصيرة وما زالت تلقي بظلالها علينا، أفراداً وشعوباً وأنظمة.
لم يكن هدف القصيبي السخرية في حد ذاتها، من حاكم العراق آنئذ، ولم يكن قصده الوحيد تشويه صورته وكشف عورته وتعرية حقيقته الباطنية ليبخسه في نظر القراء. لم يقم بذلك لمجرد التحامل عليه كشخص، وإنما كتب ما كتب عن قاهر العراقيين، لينبه ويحذر من مغبة ترسيخ وتكرار ظاهرة الاستبداد السياسي والحكم المطلق، المتخفية وراء شعارات شعبوية وقومية براقة، تدغدغ مشاعر الجماهير وتستجدي عواطفها، دون أن يتاح لهذه الأخيرة إدراك الهوة التي تنقاد نحوها ولربما استهدف القصيبي في ثورته أيضا شرائح من المثقفين الانتهازيين، طاوعوا الديكتاتور في أهوائه الكارثية، وزينوا له أفعاله الخرقاء، فكانت صيحة القصيبي دعوة لهم ليفيقوا من سبات عميق وأضغاث أحلام.
أكرر القول ان ما كتبه القصيبي وهو يقاوم الرياح والعواصف الهائجة في ذلك الصيف القائظ، إنما كان يعبر عن ألم شخصي عميق فقد رأى قيماً وطنية وقومية تنتهك أمامه، وهو الذي آمن بها وناضل من أجل أن تظل سامية، منذ أن كان طالباً في الجامعات التي تخرج منها، بدءاً من القاهرة في الستينيات، وهي يومئذ قلب العروبة النابض، كما كان يقال، ومهد الأحلام الثورية الرومانسية، حيث المد القومي في أوجه حتى أوقع في سرابه كثيراً من الحالمين بأمة عربية واحدة موحدة من المحيط إلى الخليج.
المغرب