له من اسمه نصيب. وعليك إن أهدتك الحياة سعادة أن يكون غازي القصيبي صديقك، ولو ردحاً من الزمن، أن تستعد لغزواته، فهو بما أوتي من ذكاء وثقافة وخفة دم وسرعة بديهة، سيهزمك عند أول مناورة، أياً كانت ترسانتك. لقد برمج كل شيء لمنازلتك، بل ليفتك بك. يريدك شاهداً على تفوقه عليك. وبرغم ذلك ستسقط في كمين محبته.
لا أحد ممن عمل مع الدكتور غازي القصيبي أو ممن جالسوه ولو مرة نجا بريشه. هو يملك تشكيلة فخاخ سيختار لك منها ما يناسبك. أما إن كنت محظوظاً فستحظى بها جميعاً.
سينصحك، ويضحكك، ويبهرك بما يحفظ من أشعار. ويروي لك قصص وطرائف لا تدري من أين جاء بها. ويرتجل من أجلك قصيدة ساخرة وربما قصيدة هجاء. وسيطلق عليك لقباً ساخراً يؤدبك به. سيكون معلمك دون ادعاء. مدافعاً عنك دون أن تستنجد به. منصفاً لك حين تكثر من حولك الخناجر. يساندك دون أن يمنّ عليك. وقد يذهب حدّ الاستنجاد بزوجته لإنجاز ما وعدك بمساعدتك فيه أدبياً ولم يجد له من وقت. لكرمه، لن يترك لك من فرصة لشكره.
ما يهم البحر إن شكرته؟ في ما يعطيك دون انتظاره شكراً منك، يكمن مكر تذكيرك بأنه البحر!
إن كنت تضاهيه كرماً ستشقى بسخائه. كأنه يأخذ منك ما يعطيك.
يوم عُرض عليّ المساهمة في هذا الملف التكريمي أوّل ما خطر ببالي إنها ربما فرصتي الوحيدة لأقول للدكتور غازي القصيبي (شكراً). وأن أترك هذه الكلمة مكتوبة في هذا الملف للتاريخ اعترافاً بجميله وبأشياء قد تبدو صغيرة لغيري، لكنها كبيرة في قلبي، كدين لا يستطيع كريم إلا أن يوفيه.
ذلك أن على التاريخ أن يوثق السخاء الإنساني لكاتب لم يعرف المكائد ولا الدسائس المتفشية منذ الأزل بين أهل القلم. يداه نظيفتان من جرائم الحبر، طهر قلبه الذي يأبى أن يكبر. كأنه جاء ليكتب وعاش ليهب. دون أن ينسى أثناء ذلك أن يضحك من كل شيء... ومن نفسه قبل كل شيء.
هو باذخ الحزن لفرط تهكمه وسيصعب عليك في الحالتين أن تبلغه. شاهق هذا الشاعر، وطفل حتى كأن أحفاده أكبر منه. صادق، لا يعرف الحذر. لم يكتسب خبث الشعراء وغرورهم. ولا توجس السياسيين وحيطتهم. يترك خلفه قصائد.. ورسائل حيث يمرُّ. يترك ضحكته تلك.. ويترك بينك وبينه ذكاءه وثقته. ذلك أنه لا يتوقع الكيد من أحد.
أعرفه تماماً كأننا التقينا. أكنت أحتاج أن التقي به لاكتسبه. الأدب يعيش من المواعيد التي تخلفها. أعرفه لأنه رجل من برج الحوت. برج أبي.
ولأن فيه شيئا من نزار. فهو شاعر بدوام كامل.
وأعرفه لأنه أخ يتمي، وكل مبدع يتيم، كما يقول نزار.
برغم ذلك يوم وفاة أخيه رحمه الله، ما استطعت مهاتفته لأعزيه فيه. اكتفيت بقراءة ما فاض به قلبه من ألم في تلك القصائد التي كتبها.
أكان يجب أن أفعل؟ وهو الذي لا يفوّت واجباً تجاه كاتب. حتى أنه قبل سنوات هاتف زوجي الذي لا يعرفه ليطمئن عليه بعد إجرائه لعملية قلب مفتوح.
مثله لا يُعزى، أنه يتفوق عليك حزناً وسخرية. ما السخرية سوى قناعة الآخر. فبأي لغة كنت سأواسي هذا الرجل الذي يملك تلك الخلطة العجيبة والآسرة من التناقضات التي لم تتوفر في كاتب معاصر غيره.
رجل مزدحم بصوابه ومقالبه وجديته وتهكمه بثرائه وعوزه. بوجاهته وتواضعه. وللأمانة التواضع كلمة لا تناسبه تماماً. فالمتواضع يدري أنه مهم ويقوم بجهد أن يبدو بسيطاً. بينما كل جهد غازي القصيبي في التأقلم مع أدوار الوجاهة والصدارة التي تورط فيها بحكم مناصبه.
لذا أجزم أن أجمل أيام حياته كوزير للعمل، ذلك اليوم الذي عمل فيه نادلاً في مطعم. هو يحتاج أيضاً ذلك الهامش من الجنون الجميل كي يبقى شاعراً، ويحمي وسامة روحه. وإلا سينتهي به الأمر ألا يشبه يوماً ذلك الرجل الذي كان طلب من أولاده السفر على الدرجة الاقتصادية ليتذكروا أحياناً أن نعمتهم محض مصادفة جغرافية، وأنه كان يمكن أن يكونوا اليوم خدماً، عند خدمهم!
بساطته اكتشفتها قبل عشر سنوات. عندما وصلتني منه رسالة يقول فيها: «الأخت أحلام، رأيتك بالمصادفة في برنامج –كتاب- هل تقبلين نصيحة من أخ أكبر وربما أكثر تمرّساً بالعلاقات العامة الأدبية. لا تقبلي أبداً المشاركة في برنامج يتحدث مقدمه باللغة العامية. ولا تقبلي أبداً أن يضعك أحد موضع الدفاع عن مبادئك أو موضوع التفسير أو التبرير»
أخوك غازي القصيبي.
لندن 30-11-1998.
أين عثر الرجل على الوقت وسط مهامه كسفير ليتطوع لنصحي؟
كانت السنة التي رحل فيها نزار. شيء من التفاتته تلك ذكرني به. أحببت حرصه عليّ ونصحه لي. هاتفته لأشكره. اعتدت بعد ذلك أن أستشيره واعتاد أن ينصحني دون أن ينسى أن يصطاد أخطائي الإملائية أو اللغوية. وأحياناً، ما كنت أصرح به من مواقف سياسية في الصحف. ذات مرة بعث لي بمقابلة أجرتها معي صحيفة لندنية. بعد أن علّم بالأصفر كل ما وجده طريفاً أو سخيفاً. مضيفاً إليه هوامش من تعليقاته الخاصة، وكثيراً من علامات التعجب! كان يسعد بأن يحرر في حقي محضر ضبط أدبي.
كم كنت أحب هذا فيه. إنها عقدة قديمة فقد كان أبي في صباي يعيد لي رسائلي مصححة بحكم أنه عمل سابقاً أستاذا للغة الفرنسية.
ثم ذات مرة أجرت معي مجلة (الوسط) اللبنانية مقابلة مطولة كان عنوانها (أنا امرأة كسولة لا ألهث خلف شيء فتأتيني الأشياء لاهثة) وطلبني الدكتور غازي القصيبي يقول أنه لا يقال في العربية (كسولة) بل (كسول). ولا أدري لماذا شعرت أنه يتجنّى عليّ، استناداً إلى كون خطأً كهذا لو وُجد لما سمح به المدقق اللغوي في المجلة أن يكون عنواناً على الغلاف.
قررت أن أدخل معه في معركة لغوية غير عادلة، نظراً لكل أسلحة الدمار الشامل التي كانت في حوزته. كتبتُ مقالاً ساخراً عنوانه (فعول إيه اللي إنت جاي تقول عليه) وعندما رأى بعضهم ذلك البولدوزير يحاول سحق فراشة. هبوا لنجدتي على طريقة بومدين يوم قال في أيلول الأسود (أنا مع الفلسطينيين ظالمين أو مظلومين).
ونزلت عليّ يومها بيانات المساندة والتضامن من كل صوب. إحداها من الأستاذ الجليل عبد الله عبد الجبار وأخرى أمام مفاجأتي من العماد مصطفى طلاس الذي قرر أن يساندني بعرض مؤلفات الدكتور غازي القصيبي على كبار اللغويين في سورية، ليتصيّدوا بدورهم أخطاءه. ولأن لا احد سمع للغويين صوتاً أظنه قد هزمهم أيضاً!
انتهت المنازلة، ذات نهاية سنة ببطاقة معايدة ظاهرها بريء وباطنها ماكر. كتب فيها الدكتور غازي القصيبي الذي كان يصدر سنوياً كتاباً: أيتها الكسولة والكسول والمكسال والكسلانة
متى تنجزي الرواية الجديدة !
أظنهُ كان صادقاً في سؤاله. فيوم كنت سأصدر (فوضى الحواس) بالإنكليزية تطوّع لمراجعة الترجمة. وهو كرم منه أبقاني مدهوشة. أمّا ما زاد دهشتي فتكفل زوجته بنبل وتضحية نادرة لمراجعة 400 صفحة وكتابة ملاحظاتها عن الترجمة. ولعلها فرصة لأقول لهذه السيدة الكريمة (شكراً) فأنا ما نسيت فضلها. ولا أعرف زوجة شخصية سياسية عربية جاهزة لتهب وقتها لمثل هذه المهمة.
أذكر للدكتور غازي القصيبي أيضاً، تلك المقالة الرائعة في سخريتها، التي كتبها أيام محنتي مع سعدي يوسف وتشكيك بعضهم في أني من كتب (ذاكرة الجسد) وكان عنوان المقالة: (يا حفارين موتوا من الحسد! أنا الذي كتبت (ذاكرة الجسد!).
مذ عاد الدكتور غازي القصيبي إلى المملكة، أضعت أخباره، لكن لا يهم، فقد أهداني ذات مناسبة قلمه الشخصي، الذي ربما كتب به إحدى مؤلفاته، وما الكاتب إلا قلمه !
الجزائر