تشكل الكتابة عن غازي القصيبي تحدياً حقيقياً إذ تأخذك المقاربة إلى عالم متعدد الآفاق وتنقلك مع صاحبها إلى دنيا من التنوع الإبداعي، يجتمع في شخص ويتشظى إلى هويات، هي في الأصل متباعدة لو شئت توصيفها ولكنها واحدة في اجتماعها. أنت أمام تجربة فريدة لإنسان عذّبه اليتم ولكنه لم يكسر فيه القدرة على اكتشاف الحقيقة والتمسك بالقيم واختيار الموقف. ولعل هذا هو السر في كل ما عاشه غازي القصيبي ويعيشه، ويجعل مقاربته محاولة صعبة إذا لم تدرك كيف يكون الكل واحداً.
في دراسته اقترب من كل ما هو بعيد عن الشعر والرواية والمقالة، ولكن دراسة الحقوق والعلاقات الدولية ظلت أبعد ما تكون عن عطائه الحياتي الأغلى: الكلمة.
من العمل سفيراً ثم وزيراً لوزارات مختصة وصعبة إلى الشعر والرواية فإذا أنت أمام الشخصية المتميزة التي تترك بصمتها حيث تضعها ليمنحك إبداعاً متنوعاً يتميز بالأصالة ويعبق بروح الطرفة التي يفتقر إليها عالمنا الأدبي، ليظل غازي القصيبي في نتاجه خلاصة لعطاء شخصية مزروعة في الحقل والمدينة والصحراء.
يأخذك إلى (العصفورية) أو إلى (شقة الحرية) لتكتشف وأنت تقترب من آخر كلماتها أنك التقيت صاحبها شاعراً في (معركة بلا راية) أو (للشهداء)، فتدرك أنك أمام سمة حملها قليلون في عالم الكلمة العربية: الموقف.
(1)
مثير للجدل في عطائه وعاصف في بيان مراده لذلك واجه غازي القصيبي الصعب وتحمل واحتمل ولكنه في نهاية المطاف كان يعود إلى موقع ما يثبت أنه كان طاهر النوايا وصادقها، وأنه رقم لا يجوز إهماله في مسار الحياة السياسية والإدارية في وطنه. ولأن الإبداع كالعجز له ثمن فإن الدكتور غازي القصيبي قد دفع هذا الثمن راضياً لقصيدة قالها فأثارت حوله العاصفة، فإذا اقتلعته العاصفة من موقع أعاده العقل إلى ما هو أفضل.
وأنت تحقق فيما تقرأ له وعنه يملكك السؤال: لماذا وهو العارف أن لكلمته ثمناً ولكنك تدرك أن للرجل إيمان يظنه قادراً على زحزحة الجبل فإذا اصطدم بحقائق العصر لم يتراجع ولم يتملكه الذعر ولا الندم. هذه هي الصلابة المستولدة من الإيمان والمتطهرة من المخادعة أو المتاجرة بما يؤمن.
في غازي القصيبي يتحد الإداري المسلح بالعلم بالشاعر المسلح بالقصيدة الغاضبة. ورغم التناقض إلى حد التنافر بين الطبعين إلا أن الشاعر غازي القصيبي استولى على مكنونات الروح العلمية وجعل كل إنجاز له، مهما بلغ من التفرد وعلا في المقياس، يغيب أمام قصيدة يطلقها أو رواية تختزن تجربة ذاتية صادقة، وهي السمة الأخرى فيه، والتي وضعته في المرتبة العالية التي يستحق. ومن غير أن يقصد يثير غازي القصيبي الغضب والرضى فيما يبدع فيكون عطاؤه، في ذروة التحدي الخلاق.
(2)
عندما تسلمت أوراقه التي حملت موقفه من الغزو العراقي الأسود لم أكن أملك إلا تحويلها إلى كتابه الموسوم (مصالحات ومغالطات وقضايا أخرى) والذي يعزز قيمته الفكرية الأساس: الموقف.
ولأنه كل هذه المواهب مجتمعة في تجربة واحدة ونادرة لذلك أحمل مع كثيرين وكثيرات باقات الورد التي تتوج اسمه وترفع اسمه عالياً في زمن نادر العطاء بكل هذا الإبداع والقيم والحلم بعالم أكثر عدلاً وجمالاً، يجسد غازي القصيبي راية فيه.
الكويت