Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
سفير المثقفين
لميعة عباس عمارة

 

أيا ابنة كلّ اخضرار المروج

أنا ابن الجفاف وما استولدا

ويا ابنة كلّ مياه الغمام

أنا طفلُ كلّ قرون الصدى

غازي القصيبي

هذه أبيات كتبتها منذ سنين في دفتري الصغير، وتلك عادة ورثتها من دفاتر والدي، ولكني حين اُنشد هذين البيتين أنسى فأقول:

أيا ابنة كلّ اخضرار الحقول

أنا ابن جميع سنين الصدى

وفي عام 1997 وصلتُ متعبة من رحلة طويلة إلى (أبو ظبي) فتحت التلفيزيون، كان المتحدّث غازي القصيبي في مقابلة طويلة لم أشعر بطولها لشدة اهتمامي واستمتاعي بكل ما قاله. هذا الرجل يحمل تجربة جيل من المثقفين، يعبّر عنها بصدق وبساطة، فكأنه يتكلم عن تجربتك أو تجربتي، لم أنتبه للوقت، كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، نسيت التعب وعناء السفر وعادة النوم المبكّر وأنا أتابعهُ باهتمام، وفي نهاية المقابلة بدأ القصيبي يقرأ من شعره، فتح كتاباً و بدأ يقرأ، وليته لم يقرأ. كان يلقي شعره مثل عبءٍ، أو مثل تلميذ في امتحان.

في مجلة (الثقافية) التي كانت تصلني، أقرأ أحياناً مقاطع من نثر القصيبي مستلاً من رواياته أو كتبه النثرية، وهذا كل ما عندي وأنا في أمريكا بلا مكتبة. ويكلمني الأخ عبد الكريم العفنان من الشام أو لندن يطلب مني أن أساهم في ملف عن القصيبي، ولأني أحببت كل ما قرأت للقصيبي قلت له فوراً: حاضر... إن شاء الله سأكتب، فأرجو إسعافي بكتبه. وحين عدد لي عبد الكريم عناوين كتب من قائمة طويلة، وذكر موعد صدور الملف، أردت أن أعتذر لضيق الوقت، قلت له: يكفي أن ترسل لي ما تيسر من شعره.

لن ألتقي بالقصيبي، ولم أحضر أمسيته الشعرية في لندن رغم أنني كنت موجودة فيها لئلا أزيد من رتل المتقربين لهذا السفير أو الوزير. وفي تلك الأثناء زرت بصحبة صديقة كويتية هي الدكتورة س. ف. سيدة هي الأستاذة د. نورة الشملان (سعودية) وكان زوجها وهو وزير سابق حاضراً، والمسجّل القريب من ابنتهما يصدح بشعر نبطي بصوت وإلقاء لا أجمل منهما، عرفت أنه للشاعر السعودي الأمير خالد... دق جرس الهاتف فتكلمت الفتاة مع المتحدث قليلاً، ثم طلبت والدها: أبي... عمو غازي القصيبي على التليفون. كان من رغبتي أن أسلّم عليهِ، وكان بإمكاني أن أطلب ذلك لو كنتُ غيري، وكان بإمكانه أن يسلّم عليّ وقد عرف أنني موجودة، ولكنه لم يفعل، وتخيلتُ أنه قد سلّم عليَّ فعلاً بطريقة ما. قلت لصاحبتي د. سهام بعد سنوات من هذه الحادثة: كان القصيبي يريد أن يسلّم عليَّ، ولكنه خجل. قالت: بل هو لا يخجل. قلت لها: بل هذا هو الخجل الذي لا يعرفه إلا ّ أجرأ الرجال.

بين يديّ الآن ثلاثة كتب أسعفني بها عبد الكريم مشكوراً هي: الأشج. واللون عن الأوراد، وقراءة في وجه لندن.

الأشج قصيدة طويلة واحدة أو مسرحية شعرية تتكلم عن الخليفة عمر بن عبد العزيز. كرمز لعدالة الحاكم، و النهاية المأساوية لكل حاكم عادل، وتصلح لكل زمان ومكان عربي. وهي عمل فني ناضج.

جميلة هذه اللوحة الفنية وهي ترسم حياة (أمير المؤمنين العادل حتى مع الغلام الذي سقاه السم وهو في الأربعين):

لا تأخذوا بدمي الغلام

أبنيّ قل

لا لا تقل

أني لأعرف كل من أعطوك، من أغروك...

القاتلون أقاربي...

.....................

أين التفت ترى الحطام

يجنّ عشقاً بالحطام

بغي الولاة الظالمين

غدر الجباة السارقين

حيل القضاة المرتشين...

وتظل وحدك

في مهب الريح تحلم بالعدالة

يا أمير البائسين.

...................

نامت عيونك

غير أن الظلم يأبى أن ينام

رباه ما أشهى الختام.

غازي القصيبي ناقد بالفطرة، في نثره المرح وفي شعره نجد المقارنة أو المقابلة أو المفارقة دائماً، إذا ذكر الغمام والمروج الخضراء، ذكر الصحارى والجفاف، وإذا قابل الحسناء ذكر شيبه، وإن جاءه حفيد تحسس هرمه، وإذا تكلم عن شقته شقة الطالب المتواضعة في كاليفورنيا ذكر شقته في لندن وشتان بين ترف البساطة في كاليفورنيا وعيوب الثانية. هذا الناقد له صفات الميزان (وربما هو من برج الميزان) لا يختلق أحداثاً تزين الموضوع ولا يرش البهارات على ما هو موجود، لأن في الحياة صوراً محملة بالمعاني لا تحتاج إلاّ إلى عين خبير ناقد.

لماذا كل هذا الاحساس بالشيخوخة؟ إحدى أخواتي قرأت ديوانه فقالت: وهل الخمسين والستين تعني الشيخوخة في الرجل؟

مرة واحدة (كبرت) المرأة معه، وهي من أجمل قصائده:

أقول له

أم تقولين أنتِ لهذا القمر

بأنا كبرنا على الحب

لا نتحمّل حتى السهر

ونحن نفضنا يدينا

من الحب، نحن انتهينا من الشوق، نحن ارتمينا على عتبات الضجر.

.........................

وجه لندن

واجمٌ تكسوه حبات المطر

وجهها وجه حبيبٍ

راعه يوم السفر

فتغضّن وهو يجتاز تعابير الكدر

حين يخلو الجفن من أدمعه

يسرقُ من دمع المطر

وجه لندن

شاحبٌ فيه كما في وجهك الشاحب

أظفار السهر.

ومن قصيدة إلى حفيده الذي سمي باسمه (غازي):

أي حفيدي

لستُ أدري علام سُميتَ غازي

هو اسمٌ فيه إباءُ السرايا

مرعداتٍ، وفيه كبر المغازي

نحن في موسم السلام فهّلا

اختير اسمٌ مسالمٌ وانتهازي؟

أنا لا أحب القصائد (العائلية) وأعتبرها سلعةً للبيت وبخاصة حين تغلب العاطفة على الفن، لكن غازي القصيبي بذكائه وخفة روحه يخرج الخاص إلى العام.

قصيدته في رثاء ابن أخيه مازن الشاب الذي راح بحادث سيارة إنذار لكل الشباب في هذا العصر:

في بزّة الضابط كان رائعاً

كان وسيماً فارعاً

وجاءني سلّم كالضابط، ثم ضمّني

عمّي، أما عرفتني؟

وقلتُ عفواً يا بنيّ

فأنتم الصغار تكبرون

في غفلة من الكبار تكبرون...

واليوم رنّ هاتف يقول لي:

مازن مات!

من لم يمت بالسيف

مات في حادثة اصطدام.

في سنة 1994 وأثناء أحداث اليمن التعيسة (الأحداث وليس اليمن) كتبتُ قصيدة نُشرت في جريدة (العرب) التي تصدر في لوس أنجلس، ونُشرت إلى جانبها قصيدة ثانية لغازي القصيبي عنوانها (برقية عاجلة إلى بلقيس) كانت أجمل من قصيدتي بحيث لم اُدخل قصيدتي في الديوان المطبوع وتناسيتها، أذكر منها بيتها الأخير:

اُعيذ الجنانَ تصير جحيماً

وصنعاءُ منها وفيها عدن

فقصيدة القصيبي أغنتني عن قصيدتي وكلّ أبياتها جميل وآخرها:

قولي لهم: يا رجالاً ضيعوا وطناً

أما من امرأة تستنقذ الوطنا؟

وفي قصيدة (بيبي) عن الغلام المدلل الذي لا يسميه وكلنا نعرفه، نجد السخرية تغلف الألم، أو الألم يُغلَّف بالسخرية:

ماذا تريد؟ فإنا كما ستأمر نفعل

تريد سلماً وأرضاً هذا من العدل أعدل

تريد نسف بيوتٍ أهلاً وسهلاً تفضّل

خذ الصغار ضحايا على مذابح هيكل

وإن أردت كباراً فكلُّ شيخ مبجّل

أو رمت نزع سلاح ٍ من شرطةٍ، فتوكل

وإن تضق بك أرضٌ فلا تضق...وتوغّل

فنحن فوق اراضيك عصبة ٌ تتطفّل

فإن رضيتَ بقينا وإن غضبتَ نُرَحّل

وإن أشرتَ أكلنا وإن نجع نتسوّل

غازي القصيبي شاعر تحبه، ظلَّ هاوياً للشعر، ينتقي منه في وقت فراغه المتشابك بشتى المسؤوليات. وظلّ معجباً معترفاً بكل جميل مما قاله غيره من الشعراء ولم يركبه غرور الشعراء (الكبار) ولا أظنه يحب أن يقال له الشاعر الكبير، ذلك اللقب الذي استُحدث بعد لقب (أمير الشعراء) العتيق حين كثر(الأمراء).

ظلَّ الإنسان الكبير الذي يحمّل ثقافة عصرٍ ومعاناة جيل مكدّر بالنكبات والأماني الخائبة حيث يموت الإنسان صمتاً أو قتلاً - هذا الإنسان هو الذي رسمته مخيلتي سفيراً للمثقفين.

كاليفورنيا

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة