Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
قدمان في زرقة البحرين
قاسم حداد

 

يكتب كأنه يعيش،

أقصد كما يحب أن يعيش،

هذا ما أشعر به كلما تذكرت غازي الشاعر منذ أشعاره الأولى التي (من جزائر اللؤلؤ). فذلك الكتاب هو من بين الكتب التي تعرفت بها باكراً على صوت جديد مختلف في كتابتنا في تلك الفترة، وأعني كتابتنا، التي كانت الجغرافيا قيداً ظالماً لها في سنوات التأسيسي الحديثة، ولعل الذين نجوا من ذلك القيد، وغازي أحد المبكرين، هم الذين تمكنوا من الكتابة في أفق أكثر حيوية من حيث الرؤية الإنسانية مضموناً، والأهم من حيث جوهر الأشكال والأساليب والأدوات الفنية، وهذا، في تقديري، هو العامل الحاسم الذي سبقنا إليه غازي القصيبي من حيث جرأة الخروج عن القالب، الذي تململ فيه بعض الوقت، بأشعاره الأولى، لكنه سرعان ما قال لنا كلمته الشعرية، فنياً بقدر مشجع على الذهاب إلى الحرية. وهذا بالضبط ما قصدته بقولي إنه كان يكتب كما يحب أن يعيش، وسوف يبدو مثل هذا الطموح للبعض، أحياناً، بمثابة الترف الفني، لكي يغمزوا إلى الترف الاجتماعي الذي اتصل به غازي عائلياً، لكن دون أن يقلل ذلك من حيوية تجربته الفنية، بل على العكس ربما ساعده ذلك على وضع موهبته الشعرية في مهب أكثر أجمل التجارب الشعرية في الثقافة العربية، التي كان الشعر فيها ضرباً من الإشهار الأول لكل من يزعم ممارسة الكتابة والأدب، ويضعها أيضا في مداميك التجربة العربية بامتياز، حيث وقتها كان الأديب، عندهم، هو الشاعر، وهذا ما سيجعل الكثيرين، من أصحاب اليسار (المالي) لاحقاً، يرون في غازي نموذجاً متميزاً يسعون للأخذ بما أخذ، من أجل نيل المكانة التي نالها في حياته العملية، ولكنهم للأسف يغفلون عن أن الأمر ليس يسيراً ولا متاحاً بالشكل الذي يتصورون، فغازي القصيبي لم يصبح أديباً بعد (كل ذلك)، بل إن (كل ذلك) جاء بعد أن أصبح غازي القصيبي وعرف شاعراً وأديباً ومثقفاً في سياق هذه المنطقة في المشهد العربي، تقوده بجدارة موهبته وثقافته، وهذا ربما سينقص العديدين من الذين اعتقدوا أن جاه السلطة والمجتمع والمكانة يأتي ويتعزز بالشعر كوسيلة.

ربما هنا سوف يظهر لنا معنى أن يكتب الشاعر كما يعيش، أعني كما يحب أن يعيش، فقد كان غازي القصيبي من بين أجمل الحالمين في تلك المرحلة الزاخرة بما لا يحصى من الرومانسيات، رومانسيات تبدأ من مروحة رومانسية اليسار السياسي، وصولاً إلى الرومانسيات القومية، ورومانسيات البدائل الدينية، مروراً بتجربة كثيفة من الرومانسيات الأدبية، والشعرية، التي كان غازي القصيبي يجسدها بمعرفة الشاعر المأخوذ بأسباب الحضارة الحديثة. وهذا بالضبط ما ميز تجربة غازي، فيما يكتب قصيدته، عن افتعال تعبيري (اضطر) إليه عدد من متأدبي مرحلة الستينيات والسبعينيات، ليس في منطقتنا فحسب، ولكن في المشهد العربي كله، هؤلاء الذين لا نكاد نسمع عنهم شيئاً الآن. غير أن غازي القصيبي راح يواصل حلمه الشخصي، بحريته الشخصية، بنصه الشخصي، بقدر واضح من المغامرات الشخصية، التي سوف تتجاوز أحياناً حدود الشأن الشعري والأدبي، دون أن تتنازل عن أدواته وملامحه وشروطه: الحرية الشخصية. وهذا ما يمكن أن يفسّر لنا هذا التنوع المباغت في مجمل ما يكتبه ويصدره من مؤلفات، وهي كتابات تشي كثيراً بأنه يذهب إلى الحياة في الكتابة، بالشكل الذي يحب أن يعيش في الحياة خارجها.

تلك هي معركة غازي القصيبي، ورايته، وتنوعه وتعدده، منذ بيته الصغير على ساحل أم الحصم في بحر كان أزرق، بما يكفي للجلوس على حافته ووضع القدمين في أحلامه الطويلة، حتى أصغر التفاصيل في علاقته الإنسانية بأحياء الكون، وعدم التأخر عن ممارسة الشعر بالأشكال التي لا تحصى، فعند غازي، الشعر ليس قصيدة في كتاب، فهو، كما قلت، يحب أن يعيش الشعر ويكتبه في آن.

رجاةَ أن تكون كلمتي عن هذا الشاعر الصديق مجروحة، مجروحة، مجروحة، وهذا أقل ما توصف به الصداقة الرصينة فيما تبقى.

البحرين

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة