بيني وبين الدكتور غازي القصيبي ملامح لا تنسى من قواسم مشتركة في رحلة العمر لكل منا، فقد توقفنا معاً في محطاتها، وأخذنا المسير ثانية في فضاءاتها، ضمن تقلبات وتغيرات في طقس هذه الحياة، كما تفاعل كل منا مع حركة العمل والنشاط فيها، في أجواء كان يسودها - أحياناً - عدم القدرة على ضبط الإيقاع الذي يرضي الناس ويكسب تضامنهم مع ما يفكر به المرء ويراه صحيحاً ومفيداً ومنسجماً مع تفكيرهم أيضاً.
كلانا - غازي وأنا - يتعامل مع الآخر بحذر محدود، ولكن دون توجس، وبلغة تتسامى دائماً عن أي هدف يجردها من قيمتها ومعدنها الأصيل، مع أن التواصل مع شاعرنا عن قرب (وهو القليل) وعن بعد (وهو الكثير) يبدو ظاهرياً كما لو أنه يفسد هذه العلاقة ويفرِّغها من مضمونها الجميل، فيما أرى - وهذه حقيقة - أنه يميزها ويغذي حالة الشوق لها بأكثر مما لو طبعت بطابع التكرار في اللقاءات والاتصالات.
تعرفت على شاعرنا الكبير الدكتور غازي القصيبي في بداية السبعينيات الميلادية، كان - آنذاك - يعمل عميداً لكلية التجارة في جامعة الملك سعود، وكنت وقتها أمارس عملي رئيساً لتحرير صحيفة الجزيرة، وحينها أقنعته بأن يكتب ل(الجزيرة) مقالاً أسبوعياً، أو أن يخصها من حين إلى آخر بقصيدة من شعره الجميل، فكان أن تجاوب معي بأكثر مما توقعت، وكانت البداية أن تولى كتابة وإعداد صفحة أسبوعية كاملة في صحيفة الجزيرة بعنوان (الحقيبة الدبلوماسية)، تضم مجموعة من المقالات ووجهات النظر والانطباعات المواكبة للأحداث الساخنة بأسلوب ساحر وكلمات أنيقة، وزاد على ذلك بأن اختار (الجزيرة) لينشر فيها كل قصائده الجديدة والمثيرة.
كان غازي القصيبي - حينذاك - في كامل حيويته وعطاءاته الثقافية ونشاطه المنبري ومشاركاته في الصحافة، يكتب للعامة والخاصة، وينتقي لهم أجمل الأفكار، يكتب خواطره ورؤاه بأسلوب سهل، وكلمات رشيقة، وفكر منفتح، دون أن يمل القارئ أو يشعر بالتشبع، ومع هذا الإعجاب من متابعيه بما يكتبه من شعر ونثر ظل غازي إلى اليوم وفياً لمن يقرأ له أو يستمع إليه دون أن تشغله الوظيفة ومسؤولياته الإدارية عن مصدر إلهامه وحيويته وعطاءاته الجميلة وهو جمهوره الكبير.
ومثلما هو في الصحافة كاتباً جماهيرياً متميزاً، فهو كذلك في المنابر والمنتديات، حيث الأمسيات الشعرية والندوات والمحاضرات، يأسر الحضور بصوته الجهوري الجميل والفصيح، وحضوره الذهني مع كل المداخلات ومع سيل الأسئلة التي لا تتوقف وتأخذ عادة منحى (مع أو ضد طروحات الشاعر الكبير) مما يجعل الحضور لمناسباته تضيق بهم الصالات والقاعات، وتتعالى فيها الأصوات، ويتسابق الحضور في التعليق وطرح الأسئلة حول ما استمعوا إليه.
غازي القصيبي إذاً مجموعة من المواهب والقدرات، فهو شاعر مجدد، وناقد متميز، وباحث متمكن في كل مجالات المعرفة، وهو الإداري الذي انتصر في كل معاركه، العنيد في حرصه وتمسكه والتزامه واهتمامه بكلمة الحق ومبادئ الخير، ما لا يمكن أن يتهمه خصومه في مبادئه وإخلاصه وأمانته في كل الأعمال التي تولى مسؤولياتها، وهذا سر نجاحه وتفوقه، وهذا سبب كل هذه الشهرة الواسعة والسمعة الطيبة، والحديث الذي لا يتوقف في كل المحافل والمناسبات عن الوزير الأشهر لعدد من الوزارات والمواقع القيادية الأخرى.
وأجمل ما في غازي القصيبي لغة التحدي التي يمارسها مع نفسه ومع غيره، وعدم الاستسلام لليأس، أو لمقولة: ليس في الإمكان أبدع مما كان، فهو في حركة دائمة من أجل أن ينزع من طريقه كل المثبطات والمعوقات، وصولاً إلى تحقيق هدفه - الحلم - الذي اعتاد أن يُفاجئ به الناس، دون أن يفكر بأصوات من هو معه أو ضده في خطواته المتسارعة، وهكذا كان الانطباع عنه في وزارات الكهرباء والصناعة والصحة والمياه والعمل وحين كان في سكة الحديد وجامعة الملك سعود وغيرها.
ولغة المفاجأة المدوية عند غازي القصيبي تكون حاضرة في شعره ومقالاته، كما هي في عمله بوزاراته، فهو لا يكرر نفسه، ولا تخونه الظروف والمناسبات من أن يبتكر لغة شاعرية جديدة، فضلاً عن أن يصطاد الفكرة والموضوع والمناسبة التي يعرف أن لها جمهورها وقراءها ومؤيديها، فتأتي كلمته وقصيدته عامرة على ألسنة الجمهور لفترات متتابعة، بعضها يتحدث الناس عنها إلى اليوم رغم مضي سنوات طويلة على كتابته لها، وهي ذات المفاجأة المدوية في قراراته وأسلوبه في العمل لدى كل الوزارات والمؤسسات التي تبوأ قيادتها.
يأخذني الإعجاب والانبهار بما يكتبه غازي القصيبي من شعر ونثر، مما يخص به صحيفة (الجزيرة) تحديداً، سواء في فترتي الأولى أو الثانية من رئاستي لتحرير صحيفة (الجزيرة)، فأجدني أمام هذا الانبهار أسير الاهتمام والعناية والإشراف بنفسي على صفها وتصحيحها وإخراجها، ضمن اهتمامي الشخصي بأن يشاركني الآخرون هذا الاحتفاء بما يكتبه الدكتور ويوجهه إلى الناس، وأزعم أن هذه العلاقة المخفية هي جزء من القيمة التي يتمتع بها فكر الرجل وسعة أفقه وتطور لغة البيان لديه، بما لا منافس له في الساحة الثقافية المحلية، فهو يكتب الشعر والرواية والقصة والمقالة الأدبية والسياسية والاقتصادية والتاريخية وحتى الدينية بتفوق كبير، ودواوينه الشعرية وكتبه ودراساته تتصدر معارض الكتب والمكتبات في مختلف دول العالم، وهي من بين أهم الكتب التي يتناوب النقاد والكتاب في سباق جميل من أجل الكتابة عنها.
ومع صدور هذا العدد الخاص من المجلة الثقافية عن الدكتور غازي القصيبي يقتضي الموقف مني أن أقول لكم: إنّ إعداده وإنجازه تطلب من الوقت أكثر من عامين، ومن الجهد الشيء الكثير، وهو عمل صحفي وفكري وثقافي مدروس عن قامة ثقافية كبيرة، ولكي نحفظ لأصحاب هذا الجهد حقهم في تسجيله للتاريخ، فإن توجيهات ولمسات مدير التحرير الزميل الدكتور إبراهيم التركي المشرف على المجلة الثقافية كان له تأثيره الكبير في إبرازه على هذا النحو، كما أن عمل الزميل المتألق دائماً عبدالكريم العفنان ومتابعته وتواصله مع الكتاب وانتقاؤه بالتشاور مع الدكتور التركي لهذه الكوكبة من المثقفين على امتداد العالم ما عزز ظهور العدد بهذا المستوى الكبير، كما أن الفنانين التشكيليين العالميين؛ جبر علوان المقيم في روما، ويوسف عبدلكي المقيم في باريس، ومخرج العدد الزميل الفنان تميم فرج قد أضافوا لمسات جميلة للمستوى المهني والفني والإبداعي الذي ظهر به هذا العدد، ولن أتحدث عن بقية الزملاء الذين شاركوا في إنجاح هذا الجهد الثقافي، ولا عن الأدوار الأخرى للزملاء في الأقسام المساندة في الصحيفة الذين انكبوا على إبرازه ليظهر بكل هذا التميز الجميل.