أتوحد في ذاتي.. أنفرد معها.. أحاول أن أحاورها.. أخلق موضوعاً (ما).. أجدني قادراً على الحديث.. بل والمجادلة.. وأحياناً الإقناع.
ولكن عند محاولة طرح فكرة إلى الخارج مهما كانت تافهة تبدأ الكلمات تمارس انسحاباً منظماً من لساني.. وتبدأ الصور بالاهتزاز في رأسي.. ويبدأ العرق يتصبب من أجزاء جسمي.
ذات يوم.. عندما كنت أشاهد التلفزيون مع (الشلة) أخذ كل واحد منهم يصدر تعليقاً على بعض المشاهد المثيرة.
- المعطي الله..
- الله لنا..
- يا غصن بان..
أردت مجاراتهم.. تُهت في داخلي.. أذكر أنني بدأت أتحسس المكان الذي أجلس فيه أكثر من مرة.. عندما ارتطمت يدي بمكان مبلول.. اتهمت يوسف بأنه من فرط حماسه سكب الشاي على السجادة بدل أن يسكبه في جوفه! أعتقد أن الجميع اقتنعوا.. لا لم يقتنعوا.. سمعتهم يضحكون وأنا أهم بالخروج.. بل قد رأى أحدهم ملابسي وقد أصابها الشاي.
* * *
أعود إلى المنزل.. أبحث هذه المسألة.. أحاول أن أجد لها حلاً.. - نعم هم شباب طائشون لذا يقومون بإطلاق مثل هذه التعليقات أما أنا فلأني أعقل من هذا.. - بل قل إنك أجبن من أن تعبر عن رأي ولكن هذا ليس رأياً إنها غريزة مكبوتة تعبر عن نفسها بسطحية تافهة.. - ولكن في النهاية تعبر.. أما أنت.. - أنا أكبر من هذا.. لو وجدت موضوعاً يستحق المشاركة فسوف أشارك..
أحاول أن أعقد هدنة مؤقتة كي أستطيع أن أنام، نعم يجب أن أكون مغروساً على مكتبي الساعة السابعة والنصف صباحاً.. بعد هذا الموعد بدقائق تحصل الكارثة.. إنه يقوم بعدنا يومياً كقطيع غنم ورثه عن والده! لا أدري هل يتخيل أن عددنا سيتكاثر يوماً بعد آخر، رغم أنه لا مجال للتناسل بين موظفين في مكتب... ولكن عدم اهتمام المدير المحترم بالإنتاج بدرجة الدقة والحرص على ممارسة العدِّ يجعل هذه الفكرة قد تكون ضمن تفكيره المتوقف منذ ألف عام. اكتمل العدد.. ولكن غاب راعي الغنم.. أخذت المواضيع تطرح بحرية، فسعادته ليست موجودة اليوم.. لذا فالحوارات تكون أكثر حرارة، وبدأت المواضيع تنساب مع قهوة الصباح.
لقد كانت الندوة التلفزيونية التي بثها التلفزيون مساء أمس موفقة إلى حد كبير، فمثل هذا الموضوع يهم الناس وحتماً يحرصون على متابعته. أراد سمير أن يغري حسين بالحديث لعلمه بأنه شغوف بمثل هذه المواضيع.. ولكن رد حسين باقتضاب: لم أكن متابعاً جيداً لهذه الندوة لانشغالي بالاستماع إلى تقارير إخبارية عبر قنوات أخرى.
أردت أن أتحدث.. أن أشارك.. لقد شاهدت الندوة.. وكونت رأياً حيالها وفي نفس الوقت استمعت إلى التقارير الإخبارية، ولدي ما يمكن أن أقوله تجاه ما سمعت.. كما أنها فرصة لأن أدلي بدلوي.. فالموضوع حي ولا يخلو من المصداقية. أردت أن أتحدث تنحنحت.. أخذت أسعل.. طال السعال.. وبدأت الكلمات تخرج من حلقي بعد أن جف.. قال أحدهم: (مالك تنبح يا خالد.. إني أعرف طبيباً ماهراً.. تعال نذهب إليه) أيد الباقون هذا الرأي، التقط آخر سماعة التلفون ليتأكد من وجود الطبيب. أخذت أحملق في وجوههم وكأني أراها للمرة الأولى.. صرخت لا أريد طبيباً.. أريد أن أذهب إلى المنزل!
لم أنتظر الإجابة.. أطلقت قدمي للريح والدموع تنساب بغزارة من عيني.. ركبت السيارة.. كدت أرتطم ببوابة المبنى.. دخلت إلى المنزل.. كان خالياً فساكنوه ما بين نائم في المنزل أو نائم على مكتبه في العمل.. دخلت غرفتي.. أطفأت الأنوار.. تجردت من ملابسي.. تخلصت منها واحدة تلو الآخر.. أصرخ بأعلى صوتي.. وألقي بكلمات غير مرتبة أشبه بوابل رصاص من بندقية جندي مستجد.. تناثرت صرخاتي في أرجاء المكان.. أضأت نور الغرفة.. رأيت وجهي بالمرآة.. إنه أنا.. أنا ذلك الذي ملأ المكان ضجيجاً.. إن صوتي سليم.. نعم أستطيع الكلام.. فلأجرب صوتي (في النور).. لقد كان قوياً والمكان مظلم كظلمة أيام حياتي.. أحاول.. لا صوت يظهر.. أعاود المحاولة.. أفشل مرة أخرى.. أعود إلى المرآة.. أنت ثانية يا أبي.. اطمئن لن أتحدث بوجود الرجال.. لن أجلس معهم.. سوف أعود لنفس المكان الذي عودتني على الجلوس فيه.. نعم سأجلس في ذيل المجلس.. نعم يا والدي.. سوف أصمت نعم سأظل جالساً بجانب النعال.. وسأكتفي بصدى الصمت.