من أوضح ما نعرفه عن العصر الجاهلي ذلك الميل الشديد إلى معاني الفروسية. والحرص الشديد على قيم البطولة.
والعنفوان في مسألة الأخذ بالثأر. وذلك التغني بما يعتلج في الضمائر حول مسألة القتال.
لم يفخر الشاعر الجاهلي بشيء فخره بشجاعته.
ولم يرفع صوته بشيء كما رفعه في ميادين الشرف الدامية.
وكلنا يعلم ما تعنيه الحرب بالنسبة له، وما تعنيه مسائل الأخذ بالثأر.
كان الجاهلي يفخر بكونه مقاتلاً، ولا يؤثر في فخره أن يكون أصاب أو أصيب، وكم من القصائد التي تغنّت بمسألة القتال بعيداً عن النصر أو الهزيمة ! وكم من الحروب جلبتها عليهم حميتهم، وحرصهم على الثناء والذكر !
فيأتي بعد ذلك الدكتور الفيفي ليفترض أن ملكاً وابن ملك وسليل مملكة قامت على بسط النفوذ بالقوة لا غير، لا يتحدث عن مقتل أبيه الملك إلا في ثياب من الهوان والمداراة والتورية والاستتار !
نجد ذلك - عند الدكتور - في جعله لألفاظ الأبيات الغزلية في معلقة امرئ القيس مجرد ستائر لفظية أراد من خلالها الشاعر أن يعبر عن موقفه من مأساة قتل أبيه، وذهاب ملكه.
دون أن يلتفت الدكتور إلى الثقافة القتالية لذلك العصر.
ودون أن يلقي بالاً لخصائص الحياة الجاهلية القائمة على القوة ممارسة وقولاً.
وعلى التفاخر المطلق بالقدرة على الدفاع والثأر وبسط النفوذ.
بل إن من الحكم الجاهلية الشهيرة أن الظلم يقي من الظلم.
وأن الاعتداء يحمي من الاعتداء.
إنها ثقافة العنفوان والفروسية.
وهاجس الذِّكْرِ والسمعة.
ألم يقل زهير - وهو المعروف باعتداله - في مقابل الشعراء الفرسان.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدَّم، ومن لا يظلم الناس يُظلم
فما بالك بما يعتقده الفتيان الفرسان.
ومن غرائب الدكتور في دراسته أنّ تلك المعلقة التي جعلها مرتعاً لحديث امرئ القيس عن قتل أبيه، جاءت خالية من كل إيحاء بالثأر، أو تلويح به.
وكما قلت لكم.. فإننا لا نجد - لدى الفيفي - المبرر الذي يدفع الشاعر الجاهلي الذي قُتِل أبوه - ونحن نعلم ما يعنيه الثأر والتصريح به، والتفاخر بالسعي في طلبه - إلى أن يفزع إلى ستائر لفظية يخفي بها حقده على القتلة، أو جزعه من الأحداث، أو حتى توصيفه لها، أو تهديده لخصومه !
لا يتناسب ما يقوله الدكتور الفيفي مع أبسط ما نعرفه عن عنفوان الجاهلي، وحميته، وفروسيته، وموته من أجل ثأره !
ثم إن الدكتور لا يحاول تبرير ما ظنه بامرئ القيس من الميل إلى الإيحاء الذي ظن أنه وجده في معلقته.
لقد كان من الأقرب إلى الموضوعية النقدية أن يقارن ما ألصقه بامرئ القيس في معلقته بتلك الأبيات الشعرية المصرحة بالحديث عن القتل والثأر والانتقام والتهديد وسواها مما يعبر به الشاعر عن أحزانه، أو يتحدث فيه عن عزمه على الانتقام، أو يصور فيه آثار وقع الأحداث عليه. وهي صور واضحة في شعر الشاعر موضع البحث في غير معلقته.
والأقرب إلى الموضوعية العلمية أن نتساءل عن أسباب إيضاح الشاعر لقصده هناك، وتعميته هنا !
وأن نسأل النقد المنهجي عن الأسباب التي جعلت الباحث يرى كل ما قاله الشعراء الجاهليون تعبيراً من وراء جدار !
ليس مقنعاً أن نفرّغ الغزل الجاهلي مثلاً من مضامينه الواضحة، ثم نجرده لمضامين أخرى لا دليل عليها من النص، ولا دليل عليها من المكتشفات.
ثم لا نتحدث عن السبب الذي قد يدفع الجاهلي إلى هذا السلوك الغريب عن بيئته.. الغريب عن أسلوب حياته.. الغريب عن (سياق ثقافته) !
لا يذكر الدكتور سبباً واحداً لما ظنّه تعبيراً من وراء ستار، ولا يسعنا أن نقبل من الدكتور افتراضه هذا دون أن يفترض له أسباباً مقنعة.
أبها