محمد خضر
126 صفحة من القطع المتوسط
بين أصالة الشعر وحداثة الشعر خيط رفيع.. في أصالته ثوابت الإيقاع.. والقافية.. والجرس الموسيقي.. وفي حداثته حرية حركة لا تقيدها تفعيلة.. ولا مقاييس هندسية.. وكلتاهما أداة طرف متى توفر لهما المضمون الشعري الفاعل والمتفاعل.. والمعبر عما يدور في خلجات النفس من مشاعر داخلية.
شاعرنا امتطى مطية الحداثة.. أي النثر الفني.. وهو - كما أسلفت - قناة طرح يُحكم لها أو عليها من خلال ذخيرتها.. وخيرتها وخبرتها.. في مقطوعته (زمن) يتحدث عن تلك البنت الجميلة التي تحمل في يدها حقيبتها الرمادية.. وهي تمشي في تؤدة إلى جانب العربات المركونة على مقربة من متجر الأحذية.. وهي تتحرك تتحرك عيناه نحوها.. مشكلتها أنها وحدها دون صديقات.. دون هواء تتنفسه:
البنت الحلوة أصبحت الآن
تصطحب رجلاً بديناً بشارب محايد
وكومة صغار خلفها يصرخون ماما.. ماما
البنت الحلوة لم تعد تحمل حقيبتها الرمادية
ولم تعد تمر من هنا..
لأنها كبرت ياعزيزي.. أصبحت أماً.. وزوجة لا مكان في حياتها غير حياتها.. قد تمر من جديد مع شريك حياة لا يحوجها إلى حقيبة.. لأنه سيفتح حقيبته من أجلها ومن أجل أطفالها.. سنة حياة..
(ما حدث بالضبط).. استرجع أيام الهواتف الثابتة.. أيام كان كل شيء ينعطف جهة اليسار دون إحساس..
المبالاة وحدها مركونة في انتظار نقلة نوعية
الملائكة صامتون.. معنيون بأمور الفضائيات!
متناسين أن عليهم إعداد ما يشبه المفضلة في كل مرة
المتغيرات تشكل نقلة الحياة من هاتف ثابت إلى محمول ينقل الصورة والصوت بلمسة أزرار.. ومن مهاتفة ثابتة إلى أخرى متحركة دون مبالاة..
كل شيء كان لجهة اليسار..
حتى محادثتي مع زكية الفاتنة
كانت تسير للتفاهم الشاطح عن العقلانية
فيما المبالاة تندب حظها..
لا أحد يملك ولا يرضى أن يكون مسمارا في حائطه الماضي.. بالعقلانية يمكن ترويض الأشياء.. وبالخروج من دائرة الانغلاق تجد العالم من حولك ومن حولها مجتمعين يتحرك دون مشكلة..
(اثنان).. وسؤال شاعرنا المطروح (ماذا عن السعادة؟) أهي..؟
كنوز الأمل المدفونة تحت الأرض..!
مرة.. حلمت لو أننا اثنان في هذه الأرض الرحبة
نملأها بالأغاني والأمنيات بالسلام بيتنا
وبخيارات أخرى كثيرة.. ومثيرة.. الدخول لحقل ذرة.. التسوق.. شراء قمصان مكتوب عليها (WANTED) أو التهام قطع ساخنة في (الماكدونالدز) أو ممارسة لعبة التنس.. أو مقهى الإنترنت..
لكننا حتما سنقرأ قصيدة واحدة
تكفينا لمدة شهر واحد.. وسيبقى الموت سؤالنا الأضخم
اصدقني يا شاعرنا خضر إذا ما قلت لك إن رأسي أصيب بالدوار.. ربما لأن الاختيار جاء بعيداً عن فهمي وإدراكي.. لقد خرجت من المولد بلا حمص كما يقول المثل المصري.. فكيف بالآخرين الذين يصطفون لهم ثيابا دون كتابة.. وطعاما دن الماكدونالدز..
(حكاية عصفورة) علها تخرجنا من بلاهة الحيرة وبلادة الإدراك
صباح الاثنين غادرت موسمها الأثير
وكالعادة السنوية رسمت تابوتا مليئا بالورود
كانت تعني أنها عصفورة
فجأة تقرفص الموت وحيدا أمام الشرفة.. حدق في الجبال وفي مقاسات الأودية.. وتركه يمضي هذه المرة دون عبارة واحدة..
عن عشر سنوات قادمة
تجعلني أستنشق قميصي الأزرق
وأمشي في الشوارع مأهولاً باسم:
(حبيبتي الغائبة)
وبالطين المسكوب في أيامي التي تشبه خندقاً لفئران مسالمة
الموت الذي مرَّ ولم يترك ملاحظة تذكر
كان حاضراً في هيئة بكاء.. يتمرن (اليوقا)
يوقا البكاء.. أو بكاء اليوقا مصطلح جديد لم أسمع به من قبل.. معذرة فأنا جاهل في رياضة (اليوقا)!
(لهفة).. فكرة موجزة:
مثل خارطة لشوارع ضيقة
يتأرجح الماء في عيني.. والتضاريس..
(دراكولا) مسعور ينهش اللهفة..
كل شيء ينتهي بكولا ابتعد عنه فهو غير صحي.. لديك البديل الذي ينعش لهفتك لا ينهشها..
(ترادف):
يشب الريح حين ترخي رأسها
في تجاعيد الغبار الحزين
تشبه الوردة المائلة
حين تسقط قطرة الندى
في نخاع غصنها المبلول
هو يشبه الريح.. وهي تشبه الوردة المائلة.. النهاية إعصار. وسوء مصير..
(تفاهم) لا يخلو من شتائم حيادية!
لماذا نعلق الأسئلة في خزانة الصمت؟
لماذا لا نجرب أن نرتديها؟
حتى لو كان قميص الإجابة ضيقاً
شاعرنا ضاق بالصمت.. اختار الصوت القوي حتى ولو جاء مؤذياً
تعالي نجرب أن نشرب من الفنجان نفسه
ونشتم بعضنا بحيادية..!
تجربة مختارة لا يزيل مرارتها طن من السكر.. ومع هذا فلهما اختيار ما يشربان.. كل حر في قدحه.. وعليه التحمل..
(هوامش الريح):
الريح اختارت عصفورة المساء
لحضور احتفالات الحزن
يزعم الغبار أنه كان حاضراً في الصف الأمامي
لا لشيء إلا للإثارة
ماذا تريد من الغبار إلا ذر التراب في العيون.. إنه هدية الريح لعصفورة مسائك.. ووجوده في الصف الأمامي لها يحتاج إلى زعم.
بينما تدرك الريح هذه السلوكيات الصبيانية
تلثم عصفورتها.. وتواصل البكاء
يا لها من ريح مكارة تذر الغبار في العيون كي يسهل عليها لثم العصفورة.. ثم تتظاهر بالبكاء كما لو كانت بريئة..!
(أرق) مشحون بالقلق:
يسقط النعاس في معركة الأخيرة
المشهد شرشف متجعد آخر السرير.. وحليب صباح متثائب يقفز إلى حلقه
بدون تبريرات واقعية أشعل سيجارة
وأراقب عصفورة تتمطى..
كمتابعين لأرقك نحتاج إلى تبريرات واقعية لهذا المشهد.. إن خشيتنا عليك من الغبار.. وخشيتنا على عصفورتك من الريح ما زالت قائمة
(نيزك) شاعرنا خضر هل يختلف شيئاً عن نيازكنا المضيئة ليلاً في كبد السماء؟!
انتهاء المساء يعني تكلس أوجاعنا
في المهب البعيد.. تدخل الآن
مثل نيزك حلم إلى الذاكرة
مثل عطر يبيح من الأنف أرنبة عاطلة
عطر.. وأنف وأرنبة عاطلة هذا ياعزيزي ليس نيزكاً.. ولا حلماً في الذاكرة.. إنه كابوس وعلى أقل تقدير أضغاث أحلام.. استعذ بالله منه.
(قناعة) من نوع آخر:
نستسهل أحياناً أن نترك الخاصرة دون ترتيب
أن ننام كقطط البر
أو نحلم بزوارق ورقية
تكفي اثنين لعبور التيار
حلم نحسدك عليه حتى ولو جاء ارتجالياً.. المهم أن تنام وأنت تمتطي زورقاً أياً كانت مكوناته لعبور التيار الجارف.. لست وحدك الذي يحلم بما يشبه المحال.. حلمت مثلك أكثر من مرة أنني أطير مرعوباً وخلفي أشباح تطاردني أستيقظ منها على وقع الصدمة..
(شيء أظنه حزناً):
منذ أن استأذنت حفنة الماء قعر الإبريق
والطحالب تسأل: (من يا ترى بللني؟)
سؤال سهل الإجابة.. رذاذ ماء تناثر من قعر الإبريق بلل الطحالب.. كان عليها أن لا تتطفل وتحشر نفسها في الضيق بين حفنة الماء وقعر الإبريق.. ثم ماذا يضيرها البلل.. كلنا نتعطش إلى رذاذ الماء عند هاجرة الظمأ..
(زرقة):
السماء الملطخة بالعشب الأبيض
يلتهما قطيع أزرق لتنمو!
الكائنات لها وظيفة.. بعضها يأكل.. وبعضها يؤكل.. حياة البعض في التهام الآخر.. لا استثناء في هذه القاعدة..
(عقارب):
أحياناً وأنت تراقب منظر الورقة
واندلاع الحبر في أرجائها
أحياناً.. وهي تخيط من غفلتنا شعارات الأمل
تمد المرايا لسانها..
وتكتب أغنية لمدن بليدة
من حق المرايا مد لسانها سافرة على مشهد مشدود إلى الماضي واحدة دون إضافة إليه.. ومن حق المداد أن يتحول إلى سائل أسود يرسم به أطلال مدن جديدة بليدة..
(رسم):
كل دائرة رسمتها داخل الغرفة المغلقة
كانت تشبه الإطار العتيق
مسنونة جوانبها.. محفورة للداخل
تبتسم من الوصايا المعلقة هناك
غير آبهين بمزاج سماء مستطيلة..
الغرف المغلقة لا ينفذ إليها ضوء.. ولا أشعة شمس.. ولا حتى هواء.. أنها سجون معلقة كل ما يدور فيها يثير الخوف والريبة.. لا مكان ولا مكانة لمدمنيهما في وهج النهار.. ولا في زرقة السماء.. الخفافيش دائماً معلقة في الغرف المعلقة..
(سلحفاة):
في الغابة الاستوائية ذات الحشائش الخشنة
والأدغال الساخنة تخرج السلحفاة
من قبعتها الفولاذية.. وبرأسها المعقوف
وببطء قاتل توسع ثقب الأوزون
بلغة سافرة ماكرة حمل شاعرنا مسؤولية حرارة الشمس وأخطار البيئة المحدقة بعالمنا جراء استهتارنا باجتثاث الغابات.. وما تضخه المصانع من أدخنة وأبخرة وعوادم.. حمل ذلك المخلوق البطيء الحركة المشغول بحاله وبأثقاله.. معك الحق في أن تسخر.. ومعي الحق في أن أعتذر للسلحفاة.. إنها مخلوقة مسالمة..
(السكين في النار):
قالت الملعقة للسكين:
(اخرجي من حياتي أيتها الفاجرة)
صدَّقت السكين الحادة ذات المسمارين الوهميين..
والأرداف الخشبية الشهية
صدَّقت الحكاية عن فجورها وخرجت..
قهقهت الملعقة في عزلتها..
هي الآن بلا وظيفة..
حياة أشبه بحياة ساطور متقاعد
طبيعة البشر.. تماماً كطبيعة الأشياء الأخرى.. تدين بعملية الإلغاء.. والإقصاء. والسيطرة على الموقف.. والتسيد.. ومن ثم الخسارة لجانب آخر له وظيفته وضرورته.. وبين (المتقاعد) و(المت قاعد) شبه كثير من المحصلة الأخيرة..
أخيراً مع (الهامش الذي لا بد منه):
أتذكر أنني كنت أنام على صوت النباح في تمام الواحدة
أتذكر أنني عقدت صفقة سرية مع النباح
أن يأتي من النافذة
بعض الشر أهون من بعض.. هذا ما عقد عليه شاعرنا العزم وأبرم صفقته؛ لأن صوت النباح أقوى من صوته وأقسى من صمته.. حسناً فعل شاعرنا الكريم محمد خضر الذي منحنا جميعاً فرصة الغوص معه في بحر نثره الفني الثري بأفكاره وأخيلته الغامضة منها والواضحة.. وأشعر أنني توصلت بعد طول متابعة إلى إدراك يقيني بأن مقدرة شاعرنا على التأمل.. وقدرته على الغوص في أعماق الفكرة جديرة بالإشادة.. والإعجاب.. وهذا لا يلغي اعترافي بالعجز عن فهم بعض المقاطع المغلفة بالرمزية الموغلة في إبهامها.. لأنني لا أملك فك رموز ما لا أعرف.. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.. وأخيراً معذرة وقد تجاوزنا معا الكثير من المحطات بعد أن أذنت شمس الرحلة بالمغيب.. وإلى لقاء متجدد بإذن الله.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338