تستفزني كثيراً المداخلات اللغوية التي يكتبها أستاذي الأستاذ الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان وردودُ الفعل التي تُثيرها هذه المداخلات لدى المتخصصين أوالمهتمين بنحو اللغة العربية، وتحرضُني كثيراً على الكتابة، وعلى الرُّغم من محاولة التريث التي أقومُ بها تجاه مقالات أستاذي لعلَّه يتيسَّرُ لي جمعها ودراستها كاملة في يومٍ ما لمحاولة الوصول إلى الأسس العامة التي يعتمدُ عليها الأستاذ أبو أوس في تفسيراته للظواهر النحوية التي يُضمِّنها مداخلاته، لم استطع التريُّثَ مع مقاله الذي عنوانه (يُنصب الفاعل كما يُجرُّ) المنشور في ثقافية الاثنين 28-10-1429هـ العدد 258.. فأستأذن أستاذي الكريم في الكتابة عن مداخلاته بفقرتين:
الأولى أوجهها إلى قراء مداخلات الأستاذ أبي أوس من المهتمين بالنحو العربيّ الذين يواجهون تفسيراته الجديدة لبعض الظواهر اللغوية بالرفض التام لمجرَّد أنَّها تخالِفُ تفسيرات بعض النحاة للظواهر اللغوية نفسها، فبعد الحفاظ على حقهم في اختيار التفسير النحوي الذي يرونه لظاهرةٍ لغويةٍ ما، أحاولُ أن ألفت نظرهم إلى أمرٍ مهمٍ هو أنَّ الظواهر اللغوية تبقى هِيَ هِيَ مهما اختلَفَ تفسيرها، وأنَّ التفسير النحويّ شيء آخر غير الظاهرة اللغوية، وأعني بالظواهر اللغوية - على سبيل المثال - رفع ما اصطُلِحَ على تسميته (المبتدأ)، ونصب ما اصطُلِحَ على تسميته (المفعول المطلق)، وجرّ الاسم بحرف الجرّ، وبناء الفعل الماضي، ونصب الفعل المضارع الذي دخلَت عليه (لَن)...، فهذه الظواهر وغيرها من الظواهر اللغوية جزءٌ أصيلٌ من اللغة نفسها لا يملكُ أحدٌ من دارسي اللغة ردَّها أو تغييرها.
أمّا محاولة تفسير تلك الظواهر والبحث في أسبابها فمتروك لكلِّ مجتهد من المتخصصين، وعمَلُ الأستاذ أبي أوس داخلٌ في الحقل الثاني وهو محاولة تفسير الظاهرة اللغوية والبحث في أسبابها، وهو عمَلٌ بوصية أحد أكبر أئمة النحاة الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - حين أجابَ مَنْ سأله عن العلل التي علَّل بها بعض الظواهر اللغوية أعَن العرب نقَلَها أم هي من اجتهاده، فأجاب بأنّها من اجتهاده هو، وطلبَ من الآخرين الذين يدرسون نحو اللغة العربية أن يأتوا بعللهم التي يرونها.
والثانية أُداخلُ بها مقال أستاذي الذي عنوانه (يُنصَبُ الفاعل كما يُجرّ)، وهذه الفقرة من شقَّين، الشقّ الأول وقفة مع أستاذي على وصفه إعراب نحاة البصرة كلمة (أحد) من قوله تعالى:وَإِنْ أَحَدٌ مِن المشْرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُب(التكلُّف غير المقبول) في قوله: (فأمّا البصريون فزَعَموا أنَّه فاعل لفعل مقدَّر يُفسِّرُه المذكورُ بعدَه، والتقدير: (وإنْ استجارك أحدٌ من المشركين استجارك فأجره)، والذي أجاءَهم إلى هذا التكلُّف غير المقبول أنَّهم ألزموا أنفسَهم بما لا يلزَم، إذ ألزموا أنفسهم بوجوب تأخُّر الفاعل عن فعله، وبأنّ (إنْ) الشرطية لا تدخل على الفعل». فأُستاذي الأستاذ الدكتور أبو أوس من أعلَم الناس بأنَّ نحاة البصرة كانوا ينطلقون في تفسيراتهم النحوية للظواهر التركيبية في اللغة العربية من مبادئ نظرية التزموها فلَم يُخلُّوا بها، حتى صار التحليل النحويّ عندهم (صناعةً) مبنية على تلك المبادئ، فإعرابهم مبنيّ على منهج علمي صرف، والحكم على ذلك الإعراب ب(التكلُّف غير المقبول) يُغفِلُ ذلك.
أما الشقُّ الثاني في مداخلتي هذه فأخص به الفقرة الأخيرة من مداخلة أستاذي تلك إذ أعرب (زيداً) فاعلاً في (إنّ زيداً انطلقَ)، ولا تحَفُّظَ لي على إعرابه هذا بناء على الاحتكام إلى المعنى وحدَه، وبناء على النظر إلى هذه الجملة وما شاكَلَها في صورتها التركيبية والعناصر المستعملة فيها؛ لكنَّ النظر إلى جملٍ أخرى استُعمِلَت فيها إنَّ وخبرُها جملةٌ فعليةٌ ورد فيها الفاعلُ ظاهراً بعد الفعل ومعَ ذلك يرِدُ في تلك الجملة اسمٌ لإنّ نحو قوله تعالى: فَإنَّهَا لا تَعْمى الأبصارُ(الحج : 46)، وقوله تعالى: إنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ (المؤمنون: 117) فإنّ هذه الجمل تُشيرُ إلى أنَّ اسمَ إنَّ وظيفة اسمية خاصة في تركيب جملتها تُملأُ بما يؤدي هذه الوظيفة وقد تبيَّنَ من نصوص العربية أنَّ هذه الوظيفة حكمها النصب، وأنَّ الفاعل كذلك وظيفة اسمية خاصة في تركيب جملته تُملأ بما يؤدي تلك الوظيفة وقد تبيّنَ من نصوص العربية أنّ هذه الوظيفة حكمها الرفع، وهاتان الوظيفتان تستويان في كون كل منهما وظيفة تركيبية في بناء جملتها تستدعي الملء، وتختلفان في الحكم الإعرابيّ. ويصعبُ الاعتمادُ على المعنى وحدَه في تحديد الوظيفة المشغولة في تركيب الجملة؛ فالاسمُ الذي يؤدي وظيفة الفاعل في تركيب الجملة الفعلية قد لا يكونُ فاعلاً في الحقيقة في جملٍ منها: انكسرَ الزجاجُ، ومات الرجلُ، ومع ذلك يُنظَرُ إلى الزجاج والرجل على أنهما فاعلان مع انَّه ما في المعنى لم يفعلا شيئًا، بل وقعَ الفعلُ بهما، لكنهما فاعلان من حيثُ الوظيفة التركيبية التي يؤديانها في تركيب جملتيهما.
ومهما سُمي الضميرُ الواقعُ اسماً لإنّ في الآيتين الكريمتين السابقتين (ضمير القصة أو الشأن أو غير ذلك) فإنّ التسمية لا تُخرِجه عن كونه وقع اسماً لإنَّ (أي أدى هذه الوظيفة التركيبية في جملتها)؛ وبناء على ذلك فإنّ مناقشة كون (زيداً) في (إنَّ زيداً انطلقَ) اسماً لإنّ أو فاعلاً ل(انطلق) يُرجَعُ به (في نظري) إلى أمورٍ أخرى في الصناعة النحوية، وعلى الرغم من أهمية المعنى في ذلك فإنه ليس المبدأ الوحيد الذي يُحتكَمُ إليه في مثل هذه الجمل عند نحاة البصرة على الأقل، وباب التنازع يُضيءُ لنا تعاملَ نحاة البصرة مع مثل الجملة التي يُناقشها أستاذي أبو أوس: (إنَّ زيداً انطلق)، وبه يتّضحُ أنَّ عمل نحاة البصرة في إعراب مثل هذه الجملة كان صناعةً نحويةً ذات منهجٍ لم يُخِلُّوا به على الرغم من إلمامهم بالمعنى المراد، إذ يقول سيبويه في صدر ما سُمّي بعده (باب التنازع): (قولك: ضربتُ وضَرَبَني زيدٌ، وضَرَبَني وضَرَبتُ زيدًا، تحمِلُ الاسمَ على الفعل الذي يليه. فالعامِلُ في اللفظ أحدُ الفعلين، وأمَّا في المعنى فقد يُعلَمُ أنّ الأوّلَ وقَعَ إلا أنّه لا يُعمَلُ في اسمٍ واحدٍ نصبٌ ورفعٌ).
(سيبويه، الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، 1: 73-74).
وبعدُ فإنّي أداخلُ أُستاذي لأجل العلم والنحو والمتابعين من المهتمين بهذا العلم، أما أستاذي أبو أوس فأنا على يقينٍ أنه أعلمُ منّي بكل ما قلتُه، وتبقى مداخلاته اللغوية دروساً أتعلمها منه بالإضافة إلى الدروس الكثيرة التي تعلمتها منه طالباً في الماجستير، ثمّ عملي معه في أطروحتي للدكتوراه.