لم يدر بخلدي يوما أن أجلس هكذا لأخط بقلمي ردا على مثل هذه النوعية من الموضوعات؛ لأن الرد عليها لا يكون إلا بعدم الرد، وعلاجها لا يكون إلا بالتجاهل والنسيان وطي صفحتها، والزمان كفيل بها، ولن يبقى منها - إن حدث - سوى ما سيأتي عرضا في موضع استشهاد لذكر غير حسن.

أقول: لم يكن ذلك ديدني ولن يكون, ولكن دفعني إلى ذلك أمران، أولهما: ما نُشر في فضاءات المجلة الثقافية، ملحق جريدة الجزيرة، بتاريخ (الأول من المحرم 1430) في صفحتها الخامسة، وما يحويه من عدم الموضوعية في العرض والنقاش وتدنيه في الطرح. والآخر: معرفتي اللصيقة القوية، وصلتي بالمقدوح فيه الدكتور عبد المحسن القحطاني.

وسأبدأ بالدكتور القحطاني - مع أن شهادتي فيه مجروحة، ولكننا لسنا في موضع شهادة، وإنما هي - يشهد الله - حقائق أنقلها كما عرفتها - فقد عرفته منذ أكثر من خمسة عشر عاما.. أبا وأستاذا وصديقا وناصحا فاضلا، ولم أجده يوما يقدح في أحد، أو يفتئت على آخر، أو يسلب ثالثا شيئا، أو يدعي ما ليس له. ولا يتعبني منه إلا أناته وصبره اللا محدودين، حتى مع أشد الناس غلظة في الحوار أو المعاملة، ولكنني بعد كل موقف أجده على صواب، وأجد أن خبرته وحنكته حتمتا عليه ألا يكون إلا ذلك الرجل في حكمته وصبره وأناته، ووزنه للأمور؛ ليخرج من أشدها صعوبة فارسا نبيلا، في ظروف عزَّت فيها الفروسية، وندر فيها نبل الفرسان.

وقد عملت مع الرجل، وحضرنا الاجتماعات والمجالس والندوات والمؤتمرات والمحاضرات، وجلسات العمل الطويلة، فكان لا يقاطع محدثه حتى ينتهي من كلامه، ولا يرفض أمرا، أو يعترض عليه إلا بالحجة الهادئة والمنطق المقبول، ويوافق الجماعة، وإن كان رأيهم يخالف رأيه. وهو صاحب رؤى وفكر رصين، ويجمع بين الكلاسيكية والحداثة، ولم يقف يوما عند حد، بل أراه يطور نفسه، ولا يستنكف السؤال عما لا يعرف حتى يجد الإجابة الشافية، وإن أتت ممن هم دونه سنا وعلما ومعرفة.

وما بين غدواتي وروحاتي بين مصر والسعودية، أرى الرجل مؤثرا في داخل بلاده وخارجها، وهو ناقد ومفكر من الوزن الثقيل، ولا ينكر ذلك إلا قادح أو حاقد أو باحثٍ عن شهرة يراها مرفرفة بجناحيها فوق منكبي الرجل.

ولا يحتاج الأمر للمزايدة بين طرفين من بلد واحد، وقبيلة واحدة، وصرح ثقافي واحد، ولكن هناك بعض الأمور العامة البديهية المتفق عليها، التي ربما تغيب عن بعض من شذ عن السرب، ويحتاج من وقت لآخر لمن يذكره بها، أو يضرب على يديه ليتعلمها؛ ليعود إلى جادة الصواب، أو يبحث لنفسه عن مكان آخر، حتى لا يشق وحدة صف السرب، والتفريط والتهاون في مثل هذه الأمور حتما سيؤدي إلى التدني والدونية.

وأعود من حيث بدأت، أي ثقافة متفسخة وأي تميز منحل تتحدث عنهما كاتبة مقال (لا للتميز ضد المرأة)، إذا لم يتوافر لديها الحد الأدنى من أبجديات الحوار وأخلاقياته، وتتمة عنوان مقالها شاهد عليها. فإذا كانت بداوة الدكتور القحطاني - وهي رديفة التخلف من وجهة نظرها القاصرة - فإني أسألها: ألست بدوية ومن القبيلة نفسها وتحملين اللقب نفسه؟، وإذا كنت تتنصلين من بدويتك - هذه السُّبَّة - فلماذا تحتفظين باسمك، ولم تهجريه إلى اسم آخر حتى تنتفي عنك البداوة رمز التخلف؟ وأليس من العيب يا من تدعين يوما أنك كنت مربية - وأشك في ذلك - أن تحدثي رجلا في مكانة الدكتور وحجمه وقيمته العلمية، وكأنكما صنوان على مقهى؟

وأعلن إليك أن الرجل يعتز ببدويته ويعلنها دائما، فهي عنده تعني الفطرة والصفاء والصدق والكرامة والأريحية، على عكس معرفتك لها ومفهومك عنها.......

فاصلة وأعود......

كنت قد عقدت العزم للرد على ما كتبته قارئة الفنجان - ضاربة الودع في عدد المدينة الصادر يوم السبت (29من ذي الحجة)، ولكن الدكتور القحطاني نفسه من منعني من الكتابة، وقال: يا أخي اترك من يشاء ليكتب ما يشاء، ودع عنك ذلك، فالقافلة لازالت تسير، فسألته: ألم تقرأ ما نشرته الصحف مؤخرا بأقلام بعض المثقفات؟، فقال: لم أعتد على قراءة القدح حتى لا يتغير شيء بداخلي، فقلت: وهل إذا قرأت كنت سترد؟، فأجاب: مع كل ذلك إلى الآن لم تعرفني؟!!... وماذا عساها تفعل الكلمات؟!!، دع الأفعال تكون هي الرد، وقد بدأنا عملا وعلينا أن ننجزه، وقد جئت إلى هذا المكان منتخبا من مجلس الإدارة، وهذه الثقة تضع على كاهليَّ عبئا ثقيلا. ومن ثمَّ لم أعد إليه في هذه المرة حين قرأت ما كُتب عنه.

أعود من حيث بدأت، وأقول: أنا الذي لم أصب شخصيا بالدهشة مما كتبته المتنصلة من بدويتها وأبناء جلدتها، ولكنني اعتقدت خطأ أنها ربما لن تصل إلى هذا المستوى المتدني من الجهل ب(الإتيكيت) حتى ولو على افتراض ادعاء الأنوثة، فتجريدها للدكتور من لقبه العلمي، وكأنه متساوٍ معها مكانة وفكرا وثقافة وأدبا، وعدم إكباره لسنِّه، لهو دليل على انعدام اللياقة، وكأن تقدمية الفكر لا تكون إلا بسوقية الحوار والانفساخ والاختلاط والفرفشة والانبساط في جلسات الجراك وتبادل مباسم الشيشة وضرب الكف على الكف استحسانا لنكتة ولا مانع من قفشة تكون بعض ألفاظها بذيئة أو فكرتها إباحية... هل تطمحين أن تكون لغة حوارك مع الدكتور هي نفسها اللغة التي ألجمك بها (حامد بن عقيل) ردا على مقالك عن الفصاميين - وتقصدين بهم الرجال السعوديين في نظراتهم الشهوانية للمرأة - لتقفي عند حدك وتلتقمي لسانك؟!! (راجعي موقع جدار).

فإذا ظننت أن تعمدك تجريد الرجل من لقبه فيه انتقاص من قيمته فأنت واهمة وضيقة آفاق، لأنه هو الذي يضيف إلى اللقب والمنصب ولا يضيفان إليه، والقاصي والداني يشهد لعبد المحسن القحطاني، القيمة والقامة، بحراكه وفكره.

في الحقيقة أنا في حيرة بينك وبين ملهمتك ومثلك الأعلى الدكتورة لمياء باعشن، ففي الوقت الذي كتبت فيه الدكتورة تشكو مر الشكوى من تهميش القائمين على النادي للمرأة في صالة بعيدة نائية - وأظنها تقصد الأستاذ أبا مدين، لأن القاعة النسائية هُدِّمت قبل نحو عام لإقامة قاعة كبيرة تسع أكثر من ألف شخص - أجدك حولت هذه الشكوى إلى واحدة من إنجازات الأستاذ أبي مدين، فأيكما أصدق: المثل أم المتمثلة، القدوة أم المقتدية، المتبوعة أم التابعة؟!!... لا أدري!.

وعلى ذكر أستاذنا أبي مدين، لا تزايدي على ما بين الدكتور والأستاذ، فقد جمعتهما علاقة راقية حميدة، دامت أكثر من ربع قرن بنادي جدة - أي تقترب من نصف عمرك تقريبا - وهما هما لم يتغيرا، والعلاقة بينهما طيبة قائمة، وستظل، فاتركي عنك هذا الأمر ولا تتدخلي بين الكبار فالبون لا يزال بينك وبينهما شاسعا.

قلت في وصفك لربط الدكتور شخصية المرأة بضيق الأفق: (وهذه سطحية في التفكير، تحمل خلفية عبارة رجل الشارع المتخلف).. هذه واحدة، وقلت: (فرؤساء الأندية الآن أغلبهم من مثقفي الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، وأغلبهم لا يملك أي مشروع ثقافي تنويري، ويعرف الجميع الأسباب الحقيقية وراء فرضهم على الأندية الأدبية).. وتلك أخرى، وقلت: (رئاسة الأندية ليست قناة لصناعة القرار الثقافي)، (ولن تصبح كذلك في زيها المحكوم).. وتلك ثالثة.

فهل رجل الشارع السعودي يا سعودية متخلف في نظرك إلى هذا الحد، وهو - أي رجلِ شارعٍ - يمثل القاسم الأعظم من نسبة تمثيل الشعوب لأي قطر؟, وإذا كان رؤساء الأندية بهذا الوصف من وجهة نظرك، وهم جاؤوا منتخبين من بين الصفوة التي اختارتها بعناية وزارة الثقافة لعضوية مجالس إدارات الأندية الثقافية، وأنهم جاؤوا محكومين مسيرين لينفذوا سياسة ما، حسبما صرحتِ، وحسبما اختصتك المصادر العليا المطلعة على بواطن الأمور يا صاحبة اليد الطولى ومحركة القرار... فالشعب في أغلبه متخلف، والقائمون على الثقافة متخلفون، ورؤساء الأندية متخلفون رجعيون، وكذا مجالس الإدارة بالتبعية.. فمن إذن يا ترى في نظرك جانبه هذا التخلف؟!.. أعتقد أنه لم يبق إلا أنت... أنت يا علامة الاستفهام الحائرة المتخبطة الباحثة لنفسها عن إجابة ولم تجد، ولن تجد، فأي إجابة يمكن أن تكون عن نكرة غير معلوم؟؟!!.

وأشهد أنك تفوقت على مُثُلك العليا، فلم أجد شيخك الأستاذ أبا مدين، ولا أستاذك الدكتور الغذامي، ولا ملهمتك الدكتورة باعشن، قد نزلوا - في أشد خصوماتهم - وهي كثيرة - إلى هذا المستوى المتدني من شخصنة الأمور، أو استقر أحدهم في قاع مستنقع العيب، أو بركة الحقد الآسنة، مع أن الدكتورة لمياء قد تجاوزت الأمر شيئا ما، ومست الدكتور القحطاني في بعض الأمور، دون أن ترجع إليه لتتأكد منه، وأعتقد أنها نادمة على ذلك، فهي أستاذة أكاديمية تحادث أستاذا، وقد عملا سويا تحت إدارة واحدة بالجامعة، وبينهما لغة حوار وقاسم فكري مشترك، وأنت بعيدة كل البعد عن ذلك. واسمعي مني كلمة أخيرة.. دعك من التزلف لمثقفات جدة، فخير للمرء أن يطعم طعاما بسيطا في طبق صغير نظيف من أن يتناول بقايا الموائد، وإن كانت عامرة بأطعمة فاخرة.. لملمي شتات نفسك ولا تلقي باللوم في فشل في حياتك على الآخرين، فإصرارك على الكتابة، وتعمدك التلفظ بفحش القول في حق الدكتور، على الرغم مما نُشر على لسانه من كلام واعٍ وعاقل - في الحياة وعكاظ وفي أكثر من موضع - ينم عما بداخلك.. هذا للتنويه والعلم والإحاطة، وصدقيني إن عدتم عدنا بما هو أشد، فالعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.

ولك قول الشاعر:

وعينُك إن أبدت إليك معايبا

فدعها، وقل يا عين للناس أعيُنُ