صدرت للكاتب العراقي سليم مطر المقيم في سويسرا رواية ذات طابع تسجيلي مبني على أساس المذكرات الشخصية مكتوبة بصيغة روائية بعنوان (اعترافات رجل لا يستحي). وكلمة لا يستحي ليست كلمة حادة ولا مشينة، بمعنى أنه أدلى بمذكراته صراحة كما هي دون أن يخجل من تدوينها وهو من خلال هذه الصراحة وهذا الوضوح يكشف طبيعة الواقع الاجتماعي. والعنوان بحد ذاته مثير للقراءة. هي ليست رواية بالمعنى المألوف للرواية مع أن كاتبها روائي متمكن، وكانت روايته الأولى في تصوري نموذجا للرواية المعاصرة التي عرفها كيف يبنيها بطريقة حديثة للتعبير عن فكرة شفافة وإنسانية وهي رواية امرأة القارورة تبعتها رواية التوأم المفقود اللتين عبرتا عن إمكانية متميزة في مضمون وشكل الكتابة الروائية.
الرواية صادرة عن داري نشر، الأولى مركز دراسات الأمة العراقية - ميزوبوتاميا، والدار الثانية هي دار الكلمة في بيروت التي جاء في موقفها من الرواية القول (.. انها جديدة حقا بعدم استخدامها السرد الزمني المتسلسل الذي تعودنا عليه في السير الشخصية، بل تلجأ إلى تقنية إبداعية غير معروفة حتى في الأدب العالمي، إذ اختار الكاتب أن يكشف عن حياته من خلال تناوله لموضوعات، ثيمات، متميزة خصص لكل منها فصلا خاصا، الوطن، الحارة، الأب، الأم، السينما، الدين، الهجرة، المرض، الابن، المحبة.. وتم ربط هذه الموضوعات بتسلسل زمني خفي أشبه بموسيقى تصاحب فيلما). الكاتب في مقدمة الرواية يقول انه في حياته يستحي أكثر من المعتاد ولكنه في هذه الرواية يكشف المسكوت عنه ويتعمد الصراحة مع الذات. ومن هذا المنطلق يسرد سيرته الذاتية ولكن بطريقة روائية تعتمد مبدأ الفصول والتقسيمات الكلاسيكية في البناء. ويمكن أن نطلق على هذه الصنف من الرواية (الرواية التسجيلية) مثل ما ظهر في تأريخ المسرح ما أطلق عليه (المسرح التسجيلي) وفي السينما (السينما التسجيلية) وهذه التقسيمات الكلاسيكية لا تتقاطع مع شكل المعاصرة والجدة في الكتابة فهي أشبه برسام يعرف التشريح معرفة الطبيب ويرسم التجريد المبني على قواعد وأسس علمية في الحركة والتشكيل وبدون معرفة تفاصيل الجسم الإنساني يصبح من العسير رسم الشخوص وحركتها المجردة من الشكل. الذات في هذه الرواية هي محور الفكرة والبناء وهذه الذات تتحدث عن نفسها تارة وتتحول إلى شخصية ترى الواقع والشخصيات المحيطة بها التي لها تأريخ وتنمو وتكبر وتموت أو تتعذب أحيانا في واقع صعب وملتبس. ولأنها رواية وليست موقفا انطباعيا فإن ثمة شخصيات تحيط بهذه الذات من الأهل وطلاب المدرسة والمعلمين والكسبة والشرطة ورجال الأمن، جميعهم يشكلون ما يشبه الملحمية في شكل الرواية والفرد هنا ليس محورا وحيدا في الرواية بل يكاد أن يكون راوية وشاهدا على حقبة زمنية تقود البطل الذات إلى تطورات في شخصه في موقفه من الآخر في اكتشاف الخلل ومن ثم الركون إلى الإيمان وإلى المطلق ليتخلص من كل الشرور والمخاوف التي اكتنفت حياته.
وسليم مطر لا بد من أن نلقي بعض الضوء على شخصه فهو مشاكس كما يبدو للوهلة الأولى من خلال كتاباته السياسية المتعلقة بالأمة العراقية كما يسميها، مع أن شخصه خجول ولا تبدو عليه المشاكسة في حياته لكن مشاكسته تبدو لدى البعض من خلال نظرته المعاندة إلى العراق كقطعة أرض واحدة مثل القلب الذي لا تجوز تجزئته سوى بأسماء حدود البطينين لكنه ينبض مرة واحدة ويموت مرة واحدة. وتنعكس هذه الرؤية على كتاباته فيكتب في السياسة من هذا المنطلق ويعلن عن موقفه هذا في مجلته التي يصدرها التي تحمل عنوان (ميزوبوتاميا) وهي مجلة دورية موسوعية خاصة بالهوية العراقية. وفي ظروف ثقافية صعبة دخل سوق السراي وسوق المتنبي في بغداد ليؤسس دار نشر ويطبع كتبا صارت تنتشر وينتظرها هواة القراءة والثقافة، حيث الصراع يدور اليوم بين ثقافات قسم منها سلفية وقسم يدعو للتحضر ومواكبة العصر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ورؤيته في ثقافة معاصرة لا تنفصل عن التراث وهو يتمسك بالعراق القلب النابض الواحد ويسميه الأمة العراقية.
هاجس الوطن عند سليم مطر في روايته (اعترافات رجل لا يستحي) مخزون بين سطور الرواية أكثر منه ظاهرا . شعور مستتر ينبض بالحنان والخوف والتململ والاستشراف. فهو لا يعلن الموقف سوى نادرا، يترك الأحداث تتوالى وتؤثر في البطل الذي يشكل عينة المواطن الواعي الذي يحتفظ بمزاياه الشخصية ويعبر بالضرورة عن المجتمع بكل مفرداته وتنوع أفراده.
الاستحياء وعدم الاستحياء هي مفردة في المتداول تعني شيئا وفي اللغة ليس فيها ما يدعو للرفض والخجل. جاء في هذه الرواية التسجيلية (.. كانت شخصية أبي مثل حانوته، تحوي كل النقائض والغرائب. فهو الحكواتي العارف الحكيم الناصح الذي يسأله الزبائن بمن فيهم حتى الضباط والمديري، رأيه ونصيحته في كل الأمور، من الدين والمجتمع إلى الطب وأسرار الحياة الجنسية، لكنه كان أيضاً ذلك الرجل الحيال والممثل الهزلي والمنكت الفاجر والغضوب المجنون الذي لا يتوانى عن الضرب المبرح والجرح بالسكين). بهذا الوضوح وبدون الاستحياء يتحدث الكاتب سليم مطر عن أبيه مثل ما يتحدث عن نساء أبيه وعن أهله وجيرانه وعن نفسه وعن الشرطة ورجال الأمن وعن عمله في حانوت أبيه وبيع السندويج والمرطبات للسجناء حيث حانوت أبيه قريب من الدائرة الأمنية وهو يذهب في بعض مقاطع الرواية إلى أبعد مما جاء في هذا المقطع عن شخص أبيه.
وبنفس الحس والصراحة يتحدث بلغة ثانية عن مشاعره في عالم السينما الذي عشقه ولا يزال بعشق وينظر إليه بقدسية وهو يعيش مع أبطال الفيلم وسط الظلام الذي يفصله عن عالم النذالات في حياة المجتمع العراقي الذي كونه ودفعه إلى يعيش في روما وسط التائهين وشذاد الآفاق حتى يتمكن من الوصول إلى سويسرا ويكمل حلمه ويقرأ التأريخ والماضي والمعاصرة في اكتمال الوعي. وهو إذ يطلق على روايته اسم (اعترافات) وليس (مذكرات).. فإنما يضع نفسه أمام محكمة القدر الافتراضية وأمام الضمير وأمام المرآة فيقول كل شيء ولا يخفي شيئا لا في الحدث ولا في مشاعره ومخاوفه ورعبه وتأملاته. وهي جرأة يحسد عليها دون شك ولا يملكها سوى القليل من كتاب المذكرات والسير الذاتية وبشكل خاص في شرقنا العربي المحافظ، يتحدث عن مراقبته لشابة كردية تحمل اسم خانزاد ويصف نضجها وصفا دقيقا وهو يرصدها ويرصد شخصيتها في الشارع،
وفي تلك الفترة تبدأ علاقته بالأدب والروايات مثل بائعة الخبز وقصة مدينتين والبؤساء والشك ورد قلبي، بداية تكوينه الأدبي. وهو بين الأدب والسينما والواقع المر الصعب تضطرب شخصيته في رغبة الهجرة فيروي لنا حكايته في المنافي الصعبة، لكن المهم في الأمر أن تنامي الأحداث ووصف الشخصيات والصراعات الداخلية للبطل في خضم واقعه الاجتماعي، يقوده في النهاية إلى موقف هادئ مستريح ويبدو مثل كاهن بوذي أو هندي يجلس في معبد أمام دخان البخور ويقدم شهادته ويدعو الناس للخير بعد أن يكشف كل دهاليز الشر والمخاتلات والتآمر التي تقود الإنسان إلى مكامن الرذيلة (لهذا فإني في الأعوام الأخيرة تعودت في كل بحوثي وتحليلاتي، بعد إدانتي للجلاد سواء كان مسؤولا فاسدا أو إرهابيا أو جيشا مستعمرا، أفضح كذلك تواطؤ الشعب نفسه وفساد النخب الوطنية فكريا وضميريا.
إن الشعب الذي لا يتضامن مع نفسه، لن يتضامن معه أحد. إن طاقة المحبة في كياني ما دمت حيا هي غصن متفرع من شجرة الله).
رواية سليم مطر (اعترافات رجل لا يستحي) هي اعترافات ممتعة تكشف وتحلل وترسم بوضوح ملامح شخصيات وأمكنة ومدن وحارات في العراق وتسجل حقبة من تأريخه وتعوض عما فات الكاميرا من التقاط الأحداث أو ما لم يغب عنها ولكنه تلف واحترق فتأتي الرواية لتسجل ليس فقط الأحداث كما هي بل من خلال عين واعية.. ليس هذا فحسب بل ببناء ممتع ومشوق يضع القارئ في موقف عدم الاستغناء عن الثقافة والأدب حتى في أكثر الأوقات سوادا وعتمة.
يشعر القارئ في اعترافات رجل لا يستحي بأنه يسافر مع المؤلف منذ طفولته في رحلة صعبة وقاسية ويستريح معه في النهاية حيث يقيم في سويسرا وحيث يركن سليم مطر إلى الخالق العظيم في نهاية رحلته. يقف خاشعا ويدعو للمحبة وينهي روايته التسجيلية بعد الركون للسكينة والإيمان بالقول (وإذا كانت محبة الله هي درب الإنسان من أجل بلوغ جنان السماء، فإن محبة الذات والناس والحياة هي درب الإنسان من أجل بلوغ جنان الأرض).
أدب الرواية والقصة والبحوث العراقية في الآونة الأخيرة مزدهر بالكثرة وبالنوع والتنوع وهي ظاهرة تنم عن نهضة مستديمة في تأريخ العراق بعد كل كبوة مثل كبوة السنوات الماضيات العجاف.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
هولندا
sununu@ziggo.nl