Culture Magazine Monday  05/01/2009 G Issue 265
فضاءات
الأثنين 8 ,محرم 1430   العدد  265
مواقيت خاصة
شهلا العجيلي

 

الحدود خيال، ولطالما أرهبتني النقاط الحديّة، سواء أكان ذلك في المكان أم في الزمان!

لم أعتد الاحتفال الجوّانيّ بالزمان العام، فالماضي انتهى، والحاضر سيّال، والمستقبل مجهول بالنسبة للإنسان، وتلك ليست سوى مفاهيم وضعها الفكر البشريّ ليحكم سيطرته على الحياة.

يودّع الناس عاماً ويستقبلون آخر، ويحتفلون بذكرى ميلادهم، أو حبهم، أو ارتباطاتهم، وكذلك تحتفل الأمم بمناسبات تاريخيّة محدّدة، من غير أن يفكّر أفرادها في أنّ المواقيت خيال أيضاً، وأنّه لا حدود حقيقيّة بين الساعات، ولا الفصول، ولا التواريخ.

إنّ الخيال الذي حدّد نهاية عام، وبداية عام جديد لم يصل بمداه إلى رسم الحدث، فلم يضع في اعتباره مذابح غزّة، كما لم يضع فيما مضى في اعتباراته: صبرا وشاتيلا، وتلّ الزعتر، وقانا الأولى والثانية...

الحدث وحده الحقيقة، وليس الحدث اليوم سوى الدمار. إنّ مشاهد سقوط الحجر على البشر، يعيدني في صور أخرى إلى القصور الفارهة المحيطة بنا في العالم العربي، لأجد أنّه كلّما ثقل المعمار كان الدمار أشدّ!

لو فكّر الإنسان وهو يبني ويسرف أن ثمّة آخر يسكن خيمة تبرع بها هلال أحمر، أو أنّ آخر يقضي حياته في مخيم اللجوء، أو النزوح، أو لو تخيّل مرّة أنّ صاروخاً إسرائيليّاً أخطأ مساره، فوقع على بيته بدل أن يقع على بيوت غزّة، لخرجت الدنيا من ثقب بابه! ولعلّ حادثة المنذر بن سعيد البلوطيّ مع الخليفة الناصر تدخل في هذا السياق، إذ كان الخليفة عبد الرحمن الناصر كلفاً بالعمارة، وإقامة المعالم، وتشييد الدور، ومن ذلك أنه بنى مدينة الزهراء، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها، حتى لقد ترتّب على اهتمامه بذلك الأمر، وإشرافه عليه بنفسه أن تأخر عن صلاة الجمعة ثلاثةٍ أسابيع متوالية، فلم يصلها مع المنذر بن سعيد- وكان يتولى الخطابة والقضاء- فأراد المنذر أن يعظ الخليفة، ويكسر من غروره ، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة، وعلى انشغاله بذلك عن الصلاة. فلمّا كان يوم الجمعة، وحضر الخليفة، صعد المنذر المنبر، فبدأ الخطبة بقول الله تعالى ((أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين. وجناتٍ وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ )) ( سورة الشعراء 128- 135 ). ومضى يذمّ الإسراف في تشييد البناء، والعناية بالزخرف، بلهجة شديدة ثم تلا قول الله عز وجل: ((أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين. لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم )) ( سورة التوبة 109- 110 ).

وأتى بما يشاكل هذا المعنى من التخويف بالموت وفجاءته، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، وأسهب في ذلك وأضاف إليه ما حضره من الآيات القرآنية، والأحاديث، وآثار السلف، وأقول الحكماء والشعراء وغير ذلك، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه، وضجوا بالبكاء وكان للخليفة من ذلك نصيب كبير...

أعرف أحد الفلسطينيين الذي عمل أربعين سنة في إحدى الدول العربيّة، من أجل أن يبني داراً تأوي أسرته في غزّة، هدمت داره خمس مرات، جرّاء القصف والاجتياح المتعدّد، وكان يعيد بناءها إثر كلّ مرّة، ولا أدري ماذا حلّ بها في هذه الأيام!

تذكّرت في سياق الكلام على الهدم والبناء، كاتبة عربية مترفة، كانت تتحدّث في ندوة دوليّة عن معاناتها جرّاء عدوان عسكريّ ما طال بلدها، كانت تتفجّع وهي تقول: أغلقنا حمّامات الطابق العلوي، وأبقينا على حمامات الطابق السفلي لنستعملها أثناء العدوان، ونشرنا البسكويت لنستهلكه طعاماً في كل أرجاء المنزل...

كنت صغيرة يومئذ، ومع ذلك أثارت المفارقة استهجاني.

يحزنني أنّ كثيراً من المثقفين العرب، ومن الاتجاهات كلّها، ينظّرون في ثقافة المقاومة، من غير تماس مباشر مع فكرة الانتماء، والهويّة، والعدوان، ومن غير قدرة على التنازل عن مكسب ما، ولو كان حمّاماً، فما بالك بأنهم لا يتنازلون عن الزمن العامّ، ولا عن مناسباته.

الأبطال وحدهم يتمكّنون من صنع مناسباتهم الخاصّة، ومواقيتهم الخاصّة، التي ينقذون فيها حياة شخص، أو يحيكون فيها الفرح، أو يصنّعون فيها الأمل من مواد أوليّة كاليأس والموت.

لم تكن مثل هذه الصناعة ببعيدة عن العربيّ القديم، الذي وعى قضيّة الزمن، ففرّق بين زمن الناس العام، والزمن الخاصّ، وليس قول الراجز:-(اشتدي أزمةُ تنفرجي قد آذن صبحُك بالبَلجِ-) سوى عمليّة تخلٍّ عن مواقيت الناس العامة، وابتداع مواقيت لا يدركها سوى المنكوبين، والمحزونين، والمقهورين.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5064» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة