ألزمتُ نفسي عدمَ الدخول في أيّ تماسّ مع الجهات الثقافية (الرسمية) منذ مقال كان لي في إحدى الصحف المحلية، قبل خمسة عشر عاماً، لم أجن من ورائه إلاّ عداواتِ لم أكن أقصدها أبداً..
غير أن مقالي الأخير (صدمة في الجناح) المنشور في العدد 263 من (الثقافية) كان عملاً طارئاً واستثنائياً بالنسبة لاهتماماتي.. وقد أقدمتُ عليه وأنا أضع في حسباني إحدى النتيجتين: إمّا أن تترسّخ الصورة النمطية القديمة التي كنتُ التقطتها للجهات الرسمية المعنية بالشأن الثقافيّ، وإمّا أن تتلاشى فتحلّ محلها صورةٌ جديدة مشرقة تتماشى مع روح العصر وتطوّراته. وبحمد الله؛ فقد تم هذا الاستبدال الذي لمسته من سعادة الدكتور عبدالعزيز السبيل (وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية).. ولا أريد أن أسترسل في ذلك؛ لأن استرسالي سيكون مديحاً - وقد عرفتُ منه تململه من المديح وحرصه على كلّ ما هو أجدى -، ويكفي فقط أن أشير إلى أنني زرته في مكتبه (دون معرفة شخصية مسبقة) من أجل موضوع آخر، وكنتُ أحمل معي نسخة من عدد (الثقافية) المذكور (ظنّاً مني - وبعض الظن إثم - أنه لم يطّلع على المقال)، ولكنني فوجئتُ بأنه كان قد أشبع (الصدمة) قراءةً واهتماماً، واتخذ كلّ ما يمكن اتخاذه من أجل دراسة السلبيات المطروحة في المقال حتى تتم معالجتها على أكمل وجه، بإذن الله، وهذا ما جعلني متفائلاً حدّ الانتشاء والزهو! لقد غمرني هذا الرجل بكرم أخلاقه وأدهشني بإخلاصه في إنجاز مهام منصبه الرفيع بأسلوب رفيع.. وما سردتُ هذه المقدمة الموجزة إلاّ لكي أتمنى - ومن حقي التمني - أن يكون هذا المسؤول مثالاً يقتدي به مسؤولون كثرٌ في جهاتنا الثقافية (الرسمية). أدخل الآن إلى موضوع العنوان (قاموس الأدب والأدباء).. ففي مساء الثلاثاء 23-12-2008 أتتني دعوة - بالجوال - من النادي الأدبي بالرياض لحضور ندوة عن (قاموس الأدب والأدباء) وكذلك كان الصديق د.عبدالله الحيدري قد اقترح عليّ أن نلتقي في موعدها؛ لأنه مشاركٌ فيها.. وهكذا كان، فحضرتُ واستمعتُ إلى شرح مفصّل قدمه الدكتور محمد الربيع، وشرح مماثل قدمه الدكتور الحيدري، وكانت الندوة بإدارة د.عبدالله الرشيد.. وتم توزيع نشرة (مطوية) تعرّف ب(قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية) المزمع إعداده ونشره عن دارة الملك عبدالعزيز..
كرر الدكتور الربيّع تميّز هذا (القاموس) عن غيره بأنه يشتمل على تعريفات بالأدب والأدباء في المملكة، وأنّه يشترط على كلّ أديب أن يكون له إصدار واحد على الأقل (وقال ساخراً: وربما ذلك سيدفع الأدباء الشباب إلى الاستعجال في نشر كتابهم الأول حتى يتم إدراجهم ضمن القاموس)!
لن أعلّق على هذه العبارة بأكثر من الأسف.. نعم الأسف على حال ثقافيّ يصبح فيه التوثيقُ للأدب والأدباء مشابهاً للمسابقات الأدبية (الشعرية) التي تملأ الفضائيات!
ثم كانت مداخلات الحضور؛ فمن القسم النسائي ثمة من تسأل عن ترتيب الأسماء، ولماذا بالاسم الأول وليس الأخير، ومن الحضور الرجال كانت الأسئلة متشابهة في أهميتها.. عدا سؤال الأستاذ عبدالرحيم الأحمدي (صاحب دار المفردات الناشرة لموسوعة الأدب العربي السعودي الحديث ومختارات منها باللغتين العربية والإنجليزية)؛ فقد كان سؤاله عن افتقاد بابين مهمين في تجنيس الأدب ضمن القاموس، وهما: المسرحية، والسيرة الذاتية.. فكان جواب د. الربيّع غير مقنع أبداً؛ إذ قال ما معناه: إذا جاء شيء من ذلك شعراً فهو مع الشعر، وإن جاء روايةً فهو مع الرواية!
إذاً، لا يوجد (برأي اللجنة المنفذة للقاموس) ما يسمّى بالأدب المسرحي، ولا أدب السيرة، ولا - أيضاً - أدب الرحلات!
أقول: كلّ ذلك لا يهمني، ولستُ معنياً به، ولكنني طرحته ليطّلع عليه ذوو الاهتمام بهذه الأجناس.. ولكن.. حين تفحّصتُ النشرة (المطوية) استوقفتني البنود التي أقرتها اللجنة لتكون (مواصفات كتابة المداخل) - والتي سيعتمد عليها محررو القاموس كمنهج مقنن -؛ فالبند الأول يقول: الالتزام التام بالموضوعية والحيادية. إنني أسأل: هل من الممكن - حقاً - تطبيق هذا البند في التعريف بإنجازات الأدباء و(تقديرها)؟!
ومن هم أولئك الناس الذين سيستطيعون تحقيق هذه المعادلة التي تتطلب إلغاء النوازع الذاتية والشخصية كليّاً في مجتمع تحكمه (أدبياً) هذه النوازع؟!
لا علينا، ونقول: (إن شاء الله يتم ذلك) ولكن، بصراحة، استوقفني أيّما استيقاف بندٌ آخر في مواصفات كتابة المداخل يقول: (المواد الخاصة بالتراجم للأدباء يراعى فيها: عرض مركّز لتوجهات الأديب وأفكاره الأدبية..)!
هذا غير أن شرح الدكتور الربيّع كان يركّز على أن هذا القاموس سيضع كل أديب في المكانة التي يستحقها.. من حيث (الجودة!).. ومن حيث.. إلخ.. وربّ الكعبة إنني، وأنا أستمع إلى شرح الربيّع وأطالع بنود النشرة، تخيّلتُ أن الخطوات قد ركضت بنا حتى أصبح لدينا كثيرٌ من مراكز البحوث والدراسات المتخصصة (التي تعمل ليل نهار على المتابعة للأعمال من دون احتكاك بالشخوص) كما في دول متقدّمة أخرى..!
وبعد انفضاض الندوة، علمتُ أن النهج الذي انتهجته (لجنة القاموس) هو أن تعطي لعدد من أساتذة الجامعات عدداً من الأسماء لأدباء.. حتى يملأ كلّ أستاذ (المدخل) الوافي عن كلّ أديب كان من نصيب قائمته..!
سأقول، وأمري لله: أهلاً بهذا (القاموس)، ولكن.. مهلاً يا أعضاء اللجنة؛ فأنتم هنا تكررون الأخطاء المنهجية التي شاعت لدينا في مثل هذه الأعمال؛ إذْ إنكم ستعمدون إلى تكليف أفراد - مع احترامي لهم جميعاً - بما هو فوق طاقاتهم.. وكلنا قرأنا العراك (المؤسف) الذي نُشر على صفحات (الثقافية) بين الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين والأستاذ عثمان الغامدي، وكان السبب الأساسيّ في ذلك العراك هو أن الأخير كتب عن الأول بتكليف - أو كما قال (وما جعل رسالتي تتحدد في هذا الموضوع قراراتُ اللجان العلمية في الجامعة) - فكانت دراسته العلمية غير مقبولة بالنسبة للطرف الثاني.. ألا يعني هذا أن أيّ كتابة عن شخصية أدبية لن تكون في صالح المدروس ما لم تكن بدافع الرغبة من الباحث نفسه؟!
ويُفترض في (القاموس) أن يكون مادة للتاريخ، وليست للأخذ والرد (أو لاختبار قدرات الدارسين)؛ فانتبهوا أن تحفظوا لتاريخ الأدب والأدباء في عصرنا ما يحجّمه بآراء أحادية.. ولا تنسوا أنّ الفرق شاسعٌ (أيضاً) بين كتب من تأليف أفراد - مثل (شعراء نجد المعاصرون) أو (أدباء من الحجاز) وغيرهما - وبين (قاموس) يصدر عن جهة رسمية معنية بالتوثيق لتاريخ بلادنا؛ ف.. كيف سيكون بإمكان أستاذ جامعيّ - أياً كان - أن يقيّم إنجازات عشرة أدباء - أو أكثر - في سطور محددة (أو كما قالت اللجنة: ألف كلمة) عن كلّ أديب؟!
أجزم بأننا سنشهد مصادمات وخلافات ومعارك لا تفيد أحداً والكلّ في غنىً عنها، ولكي نتفادى ذلك اسمحوا لي باقتراح موجز:
أقترح أن تُحذف الفقرة المخصصة ل(عرض مركّز عن توجهات الأديب وأفكاره) ويتم الاكتفاء بالتعريف المقنن (الاسم، وتاريخ الميلاد والوفاة، وعناوين المؤلفات والجوائز والمناصب وما إلى ذلك)، من دون (تقييم) لن يكون منصفاً بهذه الطريقة.. أبداً.. ولعلي هنا سأتجاوز - مضطراً - فأقول: لو كان بوسع القاموس أن يقدّم مقتطفات من أعمال كلّ أديب؛ إذاً لأصبح العملُ مكتملاً.. ولكنه سيكون مشابهاً تماماً ل(موسوعة الأدب السعودي).. وأعرف أنكم تصرّون على التميّز، مع أني أرى ضرورة عرض النماذج (وهذا القاموس المحيط - للفيروزآبادي - لا يخلو من نماذج قرآنية وأخرى قدسية وغيرها شعرية - مع أنه قاموس للكلمات فقط!)؛ فأرجوكم ابحثوا عن طريقة أخرى تمثّل الأدباء ولا تفتح مجالاً لتصفية حسابات بين البشر (فكلنا بشرٌ ونعرف بعضنا، ولكلّ منا قلبه وشعوره الشخصيّ)، فهل أنتم تضمنون أن السادة الأساتذة الذين اخترتموهم من الجامعات سيكونون بمنأىً عن هذه الطباع البشرية، ولن يؤثر في (حياديتهم وموضوعيتهم) منها شيء؟!
كما أفهمُ - وأنا المشتغل كلَّ عمري على الأدب دون سواه - أنّ الموضوعية والحيادية يجب توافرهما في كلّ عمل عدا التقييم (أو التوصيف) الأدبيّ؛ فالأدب ذائقة تنأى عن كلّ موضوعية وحياد..! وكما أفهم - كذلك - أنّ (التوجهات والأفكار) في قصيدة واحدة - مثلاً - تستحيل على جهابذة النقد والبحث والتذوّق الأدبي محاصرتها - بموضوعية وحيادية - وإيجازها في بضع كلمات؛ فكيف إذا كانت عن مجمل أعمال شاعر له قضاياه المتأصلة والمتفرّعة، ومنعطفاته وتحولاته وعوالمه التي لا تكفيها مجلدات.. هل ترون من السهل عرض توجهاته وأفكاره (مركّزة) في سطور؟!
أستميحكم عذراً لأقول: إذا كنتم ترون ذلك ممكناً، وبما أن البند الذي يليه يقول (ذكر أهم مؤلفات الأديب - لا تزيد على عشرة مؤلفات - مع التركيز على تاريخ الطبعة الأولى لكل كتاب)؛ فأرجو أن تأخذوا طلبي بحسن نية وطيب خاطر: إنني أطلب (للمدخل المخصص عني) أن تُذكر أسماء كتبي (العشرة - حتى الآن!) ويُترك مكان (عرض توجهاتي وأفكاري) خالياً.. وسأضربُ عن نفسِيَ الذكرَ صفحاً فأقول: إنني، لو كنتُ أعرفُ أنّ عرض التوجهات والأفكار (لشاعر حقيقيّ) أمرٌ ممكنٌ - بهذه الآلية - لما تجرّأتُ أن أطرح أمامكم مطلبي هذا.. ولكم أن تدخلوا إلى أرشيف أيّ أديب أو شاعر حقيقيّ للنظر في الكمّ الهائل من الدراسات والبحوث المكتوبة عنه، وأتحدى من يستطيع استخلاص (التوجهات والأفكار) بعرض مختصر مركّز..!
أكرر: إنكم تصنعون مادة للتاريخ، وليست للأخذ والرد (أو لاختبار قدرات الدارسين)؛ فانتبهوا - يا رعاكم الله - أن تحفظوا لتاريخ الأدب والأدباء في عصرنا ما يحجّمه بآراء أحادية.
ولن أنسى في ختام كلامي - الذي أرجو أن يؤخذ بالمحبة نفسها التي دفعتني إلى طرحه - أن أشيد بالجهد الذي سيتكبده القائمون على هذا القاموس المهمّ جداً (كما نتطلّع).. وإن كان لي من اقتراح أخير، فهو (ربما يكون الطامة!): أن يعاد النظر في الاسم؛ ففي تصوّري أنّ (فهرس الأدب والأدباء) سيكون أكثر دقة - وحيادية وموضوعية - من (قاموس..)، وكان الله في عون الجميع.
الرياض
f-a-akram@maktoob.com