Culture Magazine Monday  27/10/2008 G Issue 258
فضاءات
الأثنين 28 ,شوال 1429   العدد  258
 

قيس بن الملوح
قاسم حول

 

 

في حي الحسين في القاهرة كنت أتجول في السوق فشاهدت على الرصيف بائعا وقد فرش قطعة من البلاستيك وعليها منوعات من قناني قديمة وصبغ أحذية وفرشاة أسنان وفلفل أسود مطحون في كيس شفاف ومملحة من السيراميك ومصباح فيليبس وقد جلس هذا البائع المصري الطيب المتعب وإلى جانبه صاحبه يدخن الأركيلة والضحكة لا تفارقهما. وشاهدت على البساط كتابا أزرق اللون وعليه نقوش حمراء مثل الخلايا وحاشيته من القماش الخفيف الأحمر المهترئ. أخذت الكتاب وفتحت صفحته الأولى وكادت الورقة أن تتكسر بين أصابعي فعاملتها بحذر شديد وقد كتب في الصفحة الأولى وداخل زخرفة (ديوان العاشق المحب الوامق قيس بن الملوح الشهير بمجنون ليلى العامرية جمع الأديب أبي بكر الوالبي رحمه الله تعالى).

تصفحت أوراق الكتاب بتأن بالغ وقرأت في الصفحة الأخيرة منه (قال أبو بكر الوالي رحمه الله تعالى هذا جملة ما تناهى إلينا من أخبار المجنون وأشعاره وما كان منحولا من قصيدة أو خبر أعرضنا عن كتبه والله سبحانه وتعالى أعلم. تم بعون من هو أحق بالثناء وأولى. طبع ديوان مجنون ليلى بالمطبعة البهية المجاورة للقطب الدردير بمصر المحمية تعلق الراجي من الله كمال الوفا حضرة محمد أفندي مصطفى في أواخر أخرى الجماديين من سنة ألف وثلاثمائة وستة من هجرة سيد الكونين صلى الله عليه وسلم).

شممت ورق الكتاب. تطلع نحوي البائع وضحك وقال لي بالمصرية العذبة (أنت عاوز تشتري عطر وإلا كتاب. ده كتاب يا أخي. تشمه ليه؟).

كم تبيع الكتاب؟

إذا مش عاجبك العطر ده بأربعة جنيه وإذا عجبك بخمسة جنيه.

أعطيته خمسة جنيهات وقبل أن أغادر سألني:

والنبي تقولي شميته ليه؟

لم يكن عندي جواب يقنع هذا الرجل فقلت له كنت عامل مطبعة وأحب رائحة الورق والحبر.

ربنا يكون في عونك، قال لي وأضاف أنت من فين؟

من العراق.

كمان ربنا يكون في عونك!

تجولت في الحي وعدت من نفس الطريق وعندما شاهدني البائع حدث صاحبه وضحكا وعرفت بأن قصتي مع شم الكتاب سوف يتداولونها في الحي وفي بيت البائع وجيرانهم. وأنا أتطلع إليهما قال لي صاحبه.

عندنا كمان عطر كرستيان ديور!

عندما عدت إلى الفندق شعرت بأنني أحمل معي كنزا ثمينا. كتاب بورق أصفر قديم تحول من ورق مرن إلى ورق يابس لا يمكن طي الورقة. وبدأت أتمعن في شكل الحروف العربية الطباعية وتذكرت عامل المطبعة في البصرة الذي يطبع جريدة الخبر لصاحبها كامل العبايجي في الخمسينات وكيف كنت أندهش أن يجمع العامل الكلمات حرفا حرفا ثم يرتب السطور ثم الأعمدة وكلها تتم بالملقط ثم يشد المقالات بالخيوط وعندما تنتهي طباعة الصفحة يغسل الصفحة بالنفط حتى يزيل عنها الحبر ويتمكن من قراءة الحروف ليعيدها إلى خاناتها في صناديق من الخشب. كان عامل المطبعة رجلا كبيرا يلبس نظارات سميكة لكي يتمكن من قراءة الحروف وكل حرف بثلاثة أشكال وبعدة أحجام. بدأت أتصفح ديوان مجنون ليلى المطبوع في المطبعة البهية قبل ما يقرب من مائة وسبعين عاما.

الكتاب يمضي به العمر ويشيخ ثم يتلف ويصبح هيكلا. لكن ما جلب انتباهي في ديوان قيس بن الملوح أن كثافة الحبر واحدة في جميع الصفحات. فيما الكتب (العربية) الحديثة التي تبدو للوهلة الأولى أنيقة لا توجد وحدة لون في كثافة الحبر حتى بالنسبة لأكبر دور النشر العربية فأنها تطبع الكتب ولا تجد وحدة اللون في كثافة الحبر فقد تجد صفحة باهتة الطباعة وصفحة أخرى غامقة وثالثة بينهما. والسبب يكمن في لا أبالية عامل المطبعة أو بخل صاحب المطبعة حيث تظل المطبعة تدور بعد نهاية آخر صفحة تسمح بها قنينة الحبر وتطبع النسخ الباهتة الألوان.

ديوان قيس بن الملوح (مجنون ليلى) الذي طبع قبل مائة وتسعة وستين عاما، صفحاته مؤطرة وتحت الإطار في نهاية كل صفحة من جهة اليمين توجد كلمة مطبوعة تحت الإطار. وهذه الكلمة هي أول كلمة في بداية صفحة اليسار من الكتاب ما يعني بأن أرقام الصفحات موجودة خارج صفحة الطباعة المرصوفة حروفها ووجود هذه الكلمة تعني الإشارة للمصمم كي لا يخطأ في وضع الصفحة في غير مكانها فترصف له أول كلمة في الصفحة التالية لعدم وجود أرقام في الكتاب في رصف صفحاته بل أن التأريخ خارج الكتلة المرصوفة.

ديوان قيس بن الملوح الذي طبع قبل مائة وتسعة وستين عاما قرأته بدقة كان خاليا من الأخطاء الطباعية. فيما الكتب التي طبعت بعد عشرات السنين من بداية الطباعة العربية باللاينو تيب نجد في نهاية كل كتاب جدولا بالإخطاء حيث يكتشف المؤلف أخطاء الطباعة بعد طبع الكتاب فيطبع صفحة فيها أخطاء الكتاب الطباعية بعنوان (الخطأ والصواب) مذيلة بتعبير (وقد تركنا بعض الأخطاء بدون تصحيح والتي لأنها لا تفوت على القارئ اللبيب).. هذا اعتراف جميل بالخطأ والذي كان يمكن تلافيه قبل الطباعة، ومع ذلك فالاعتراف بالخطأ فضيلة.

في كتب اليوم وفي طباعة الحاسوب أخطاء لا حصر لها وهي تعني أن الكاتب ودار النشر لا تعير اهتماما فلا الكتاب كما ديوان قيس بن الملوح خال من الأخطاء ولا هو مذيل بالخطأ والصواب وترك الأخطاء التي لا تفوت على القارئ اللبيب، ولكن هي إستغفال للقارئ اللبيب وتجاوز لمشاعره.. وفوق ذاك وهذا، يصار إلى دخول الكتاب في مسابقات الأدب والروايات والقصص القصيرة.. لا أحد يقرأ ولا أحد يدرك ماذا تعني مسؤولية الثقافة وجمال الرواية والشعر والبحث بدون خطأ.

تذكرت المطابع في سوق المغايز في البصرة وفي أزقة الحيدرخانة في بغداد والعمال الذين يأتون في أول الصباح ويحبون مهنتهم وينسون أهلهم وأبناءهم في المدارس وهمهم أن تخرج الصحيفة والكتاب خالية من الأخطاء، وأقسم أنني كنت أقرأ صفحاتي الثقافية على (البروفة (التي يقدمها لي عامل المطبعة كل أسبوع في صحيفة المواطن. ولا أظن أن صفحاتي الثقافية كانت تحتوي على أخطاء إلا ما ندر وسبحان من لا يخطئ.

قرأت ديوان قيس بن الملوح مستوفيا لشروط الطباعة قبل مائة وتسعة وستين عاما وفيه يقول:

لقد لامني في حب ليلى أقاربي

أبي وإبن عمي وإبن خالي وخاليا

يقولون ليلى أهل بيت عداوة

بنفسي ليلى من عدو وماليا

أرى أهل ليلى لا يريدون بيعها

بشيء ولا أهلي يريدونها ليا

قضى الله بالمعروف منها لغيرنا

وبالشوق والإبعاد مهما قضى ليا

قسمت الهوى نصفين بيني وبينها

فنصف لها هذا لهذا وذا ليا

ألا يا حمامات العراق أعنني

على شجني وأبكين مثل بكائيا

يقولون ليلى في العراق مريضة

فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة