Culture Magazine Monday  27/10/2008 G Issue 258
فضاءات
الأثنين 28 ,شوال 1429   العدد  258
 

أبو مدين وحكاية الفسيخ
عثمان جمعان الغامدي

 

 

جاء ردّ الأستاذ عبد الفتاح أبي مدين على ما ورد في بحثي (الممارسة النقدية عند عبد الفتاح أبي مدين) في وقت مبكر، حينما نشره في ملحق صحيفة الجزيرة الثقافي. ففترة ست سنوات - منذ أن أرسلت إليه نسخته من الرسالة إلى أن كتب رده هذا - يبدو أنها لم تكف أبا مدين حتى يفهم ما جاء في البحث، ومن غير المقنع ما ذكره عن عدم تفرّغه - لقراءة بحثٍ كُتب عنه - كل هذه المدة الزمنية الطويلة. وليته بعد قضاء كل هذه السنين فهم ما ورد فيه، بل اتضح من المقالة الأولى التي قرأتها، أنه بحاجة إلى فترة أطول أيضا، ومن يعرف مستوى أبي مدين في اللغة يجد له متسعا من العذر.

ومنذ البدء أود أن أوضح أني لن أكتب كثيرا في هذا الموضوع، فكتابتي عن أبي مدين من أسوأ ما مرّ علي من تجارب. وما جعل رسالتي تتحدد في هذا الموضوع قراراتُ اللجان العلمية في الجامعة، فكان الخيار يقع أمامي بين أن أدرس أبا مدين أديبا أو أن أدرسه ناقدا، وأبو مدين ليس أديبا ولم يقدم أدبا، بل هو من المتأدبين الظانّين بأدبهم ظن الخير، كما أنه ليس ناقدا بل ملخصا وقارئا سيئا. ولعل دراسة الأدب الرديء مشروعة كدراسة الأدب الرفيع، ولا تختلف دراسة النقد عن دراسة الأدب. وهذا ما درج عليه كبار النقاد العربي، وتراثنا يزخر بالأمثلة الكثيرة على مثل ذلك.

والدراسة التي قمت بها في بحثي تقويضية، هدفت إلى تفكيك وتقويض الخطاب النقديّ عند أبي مدين وبناء خطاب آخر عليه، وهذا ما لم - ولن - يفهمه أبو مدين، وهذا ما أغضبه. وأنا حينما كتبت أطروحتي لم أرد أن أرضيَ أبا مدين، ولم أرد أن أغضبه أيضا. وفي الحقيقة فإن مقالات أبي مدين في أحسن أحوالها تلخيص لما يقرأ، بل تلخيص يسيء إلى معظم ما يقرأه. وأنا في غاية العجب!! هل كان يتوقع دراسة مناقبية في بحث علميّ، يشرف عليه أستاذ أكاديميّ معروف، وتناقشه لجنة علمية، مشهود لأعضائها جميعا بالجدية، والصرامة العلمية، ولكل فرد منهم باع طويل في مضمار البحث العلمي والأكاديمي.

في بحثي عن أبي مدين تناولته بوصفه ظاهرة تستحق التأمل (ظاهرة بعض الكتاب والمثقفين) الذين يرتبطون بمناصب، ولهم قامات اجتماعية بظروف خاصة، ويضفي موقعهم الاجتماعي على أدبهم هالة معينة، وخداعا قد ينطلي على بعض المتلقين لهذا الأدب. والواقع أن أبا مدين لم يحظ بالشهرة إلا في محطتين في حياته: الأولى إبان إصداره لصحيفة الرائد، نظرا لكتابة بعض الصحفيين فيها، والأخرى حينما ترأس نادي جدة الأدبيّ. والخلط بين المركز الاجتماعي، والوجاهة الاجتماعية والإنتاج الأدبي والعلمي للشخص منتشر كثيرا في مجتمعاتنا، وهو ما أسدى لأبي مدين خدمة كبيرة. ولعل التصاقه بكثير من الأدباء، وما يتلقاه من مجاملات، ألقى بظلال نفسية عليه فصدّق أنه أديب دون أن تكون له المقدرة الأدبية.

إن مكث أبي مدين في النادي الأدبي بجدة جعله يحظى بالعديد من الدراسات التي كتبت عنه، واستطاع - وهذا واضح للعيان - استغلال وجوده في النادي في طباعة كتبٍ لا تمت للأدب بصلة، وجلّ ما كتبه من مقالات كانت في الإسفلت وأعمدة النور، والمطبات وحُفر الشوارع، والصرف الصحي. وليته أخذ بنصيحة إسماعيل حمدي حينما نصحه في وقت مبكر بأن يبتعد عن هذا النوع من المقالات، ومما قاله: (ما أصبرك يا رجل على الكتابة في المرافق، والخدمات وأشباهها. ما بقي إن شاء الله إلا أن تدخل معسكرا، أو مخيما لإحدى شركات المقاولات، وتظل فيه أياما لتكتب عن الجسور وأعمدة النور، والآلات الرافعة والإسفلت والزفت) (في معترك الحياة: 280). ويبدو أن أبا مدين كانت لديه قناعة قوية بأن الأدب الخالد هو ما يلامس حاجات الناس ومعاناتهم، وكان يبحث عن العالمية فوسع من دائرة اهتماماته إلى محطات الحافلات في سويسرا، ومحطات إيطاليا أيضا. ولكنه أدرك (بثاقب بصيرته) أن الأدب - كما هو معروف وكما ردد الروائي عبد الرحمن منيف - يكون عالميا أكثر إذا كان محليا أكثر، فاستأنف ذلك بأن كتب عن بلدية مكة، وعن أمانة مدينة الرياض، وهلم جرا.

وليت القضية تتوقف عند أبي مدين في الكتابة وحسب، بل الأمر عنده شكل مما يظنه (حصار الثقافة)، وخوفا منه على الأدب الرفيع من الاندثار في أوراق الصحف، فطبع مقالاته تلك في كتب، أنصح رؤساء البلديات ومديري مصالح المياه باقتنائها لأنها تؤرخ لمراحل الإنشاءات والبنية التحتية، ومشاكل الأنابيب بشكل دقيق جدا. وهيأ له منصبه في النادي الأدبي أن يطبع من تلك الكتب ما شاء، حتى حينما يجمع تلك المقالات، لا يصنّف موضوعاتها بل كلما رأى أنها تزن (بالكيلو جرام) مقدارا معينا ألقى بها في سلسلة النادي لطباعتها. وقد وجهتُ إليه سؤالا ضمن تسعة عشر سؤالا حينما كنت في مرحلة البحث عن سبب عدم تصنيفه لموضوعات كتبه، فقال - وهو قول عجيب مسجل لدي في رسالته الفاكسية -: (بعض من سبقني صنعوا مثل ما صنعت، ولو جنحت إلى ما ألمحتَ إليه (يقصد رأيي في التصنيف) لما استطعتُ إصدار ثمانية كتب في أوقات قريبة إذا استثنينا أمواج وأثباج، لأن الكتابات متنوعة، وليست وفق منهج محدد، ولعل الزمن هو الذي يتحكم في هذا التنوع، والجنوح إلى نهج الزمن أيسر من مسألة التنوع). قلتُ: ولأن الزمن غير مأمون، وتصنيفه في التوليف زمني بحت فإن الفترة الزمنية الفاصلة بين كتابيه الصخر والأظافر، وحمزة شحاتة ظلمه عصره كانت ثلاثة أسابيع فقط، فأخذ الأول رقم (105) في إصدارات النادي الأدبي بجدة، بتاريخ 25شعبان 1418هـ، والآخر (106) بتاريخ 15 رمضان 1418 هـ، في حين ترك كثيرا من المؤلفات الجادّة رهينة انتظار إمكان طبعها، ورهينة العامل الزمني الذي يحدده هو. فانطبق عليه قول العرب (ما يُحسَنُ القُلبان في يدي حالبةِ الضأن)، وهذا ما كان من حال أبي مدين في ترأسه للنادي الأدبي.

وإني أشفق - فعلا - على هذا الرجل الذي رغم تقدم سنّه لايزال في قلمه أثر عثرة من درس التعبير الذي لم ينجح فيه، وكنت أتمنى أن أقرأ له ما يغاير ذلك الدرس الذي أنهكه فمنذ أن تتلمذ على يد الشاعر محمود عارف، إلى يومنا هذا لم يحدث أي تطور عنده، وإذا أراد القارئ التأكد فليرجع إلى كتبه الأخيرة، فسوف يجد إبداعا جديدا (!!) في المطبات وأنواع الإسفلت، خاصة بعد انتشار عيون القطط، وتخصيص الاتصالات.

إن أبا مدين لا يمكن أن يصنَّف من جيل الرواد، ومن يرجع إلى تلك الفترة، والمراجع متاحة، يجد أن أدباءها لم يكونوا يعيرون له وزنا أدبيا، وكان كل ما يفعله أن يتتبع مجالس الأدباء للبحث عن معلومة جديدة. أما في الصحافة فعرفه القراء كاتبا مبتدئا، ولكن والحق يقال إذا سيبقى له شيء من كتاباته فإنه أدب المطبات والصرف الصحي.

وخلال الفترة المنصرمة بعد أن فرغ الأستاذ أبو مدين من إدارة النادي التي أشغلته ست سنوات عن قراءة بحثي، وحاول أن يكتب في الأدب الرفيع، انكبّ على بحثٍ للأستاذة فائزة الحربي الذي عملته عن مجلة البيان لعبد الرحمن البرقوقي، وسطا على ما فيه دون أن يشير إليها، بل فعل كما يقول المثل العربي (رمتني بدائها وانسلّت) فألحق بها المثالب وألصق بها التهم، وهل هناك أسهل من الادّعاء عند أمثاله. وهذا ليس غريبا ولا مستعجب فعقدة رسوبه مازالت إفرازاتها واضحة بيّنة كلما كتب، وكلما نطق، وهذا ما لا يستطيع الفكاك منه، وسيلاحظ القارئ حينما يقرأ مقالاته أنها تضمر خطابا غريبا، لا يمكن إلا أن يفسر برسوبه، وسبق زملائه له.

وكما أعلنت في بداية ردي، لن أكتب كثيرا، ولو كنت أريد أن أترصد عثراته لكفتني تلك (الأسفار!!) التي قرأتها مرارا، بل لعدت إلى كل مقالة يكتبها عني وسأجد في كل مرة ما يملأ صفحات هذه المجلة، ولكن الأصمعيّ قال: (من عرف كلام العرب لم يخطّئ أحدا). ولن أدخل في سجال معه لأني أحترم سنّه العالية، وبلوغه من العمر عتيا، وإنما سأكتفي بالقليل إن شاء الله.

وأنا حينما أعود بالذاكرة إلى ما كان بين يديّ من كتابات أبي مدين التي أسلفت وصفي لها، وما انتهى إليه البحث من نتائج أنا راضٍ عنها تمام الرضا، أدرك أنني كما يقول المثل الشعبي (عملت من الفسيخ شربات). فأيّنا يرجح كلامه على كلام الآخر يا أبا مدين، من رسب في مادة التعبير أم من حاز درجة الماجستير؟! ولولا التاريخ وإظهار الحق لما كتبت ردا عليه، لأنه ليس ندا، ويكفيني أن أقول (لو ذات سوارٍ لطمتني).

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة