Culture Magazine Monday  27/10/2008 G Issue 258
أفق
الأثنين 28 ,شوال 1429   العدد  258
 

 

مدائن
مريد البرغوثي يرى رام الله من بعيد


 

 

إعداد - عبدالحفيظ الشمري:

فاصلة أولى:

للمدن وهجها اللامع، وبريقها الآسر في مخيال أهلها أنّى كانوا، أو حيثما مضوا إلى عوالمهم .. إلاّ أنّ للمبدع شاعراً شاء أو سارداً، كاتباً أم فناناً .. لهؤلاء جنون خاص يصطبغ بتجربته الكتابية عن مدن ألفها .. أو هجرها .. أو هُجِّر عنها، أو بقيت ومض طيف حينما مروا بها مروراً عابراً إلى منافٍ بعيدة.

ففي هذه الالماحة التي نسميها بـ (مدائن) سنطوَّف في أرجاء مدن أوحت للشعراء بشعر فاتن، وللأدباء بصور زاهية وإن لم تكن الصورة دائماً على هذا الحال إنما هناك من رثى المدن وبكاها، وهناك من ناصبها العداء ولم يفلح في هجره وهجرته ونأيه عنها.

نحن هنا من خلال (مدائن) سنقف على حدود المدن حيناً لدى شاعر، وفي حين آخر سنجوس مع روائي أزقة مهجورة، وأحياء وُصِمَتْ بالموت، ووُسمت بمهماز رق العصر المتَّقد.

في أولى المدن (رام الله) عمق فلسطين المحتلة .. تلك التي حملت للأديب الكاتب مريد البرغوثي الكثير من الصور والإيحاءات التي حملتها روايته الشهيرة (رأيت رام الله)، فالإيحاء الاستهلالي للعنوان يأتي ماضوياً وكأنّ (البطل - الكاتب) مريد عابر مرَّ برام الله، أو كأنّ المدينة في رواية البرغوثي تأتي على هيئة شهادة استقصائية عمّا حل بالبلاد من بلاء، فمنذ أن صعد البطل جسر الحسين، أو المنطار لم يكف عن استحضار ماضي مدينته التي أضحت للغرباء وطناً، فيما يرى أنّ أهلها وإن استبسلوا في مقاومة التغريب، فإنهم في نأي عن قضية (البطل) في الرواية .. ذلك الذي عني في استدرار الذاكرة أن تفصح عن مكنونها.

المدينة (رام الله) في سيرة الكاتب مريد البرغوثي قبر للحكايات القديمة، بل إنها نكء للجراح الغائرة في عمق بلاد محتلة .. فما الذي سيبقي عليه الغزاة إن هم حكموا، أو صاغوا بمدادهم الأسود دستوراً يصف الغدر وفاء، ولا يمانع من أن تتوسل الضحية للجلاد من أجل مزيد من العذاب .. فهذه حال (رام الله) التي وقف عليها مريد، لكنه لم يكن وصفاً لعالم سيستقر فيه، إنما هو محاولة لتسجيل لحظة لقاء عابر في زمن وامض، وتاريخ مختل حتى بدت المدينة وكأنه لوحة، أو دفينة أثرية يدور عليها البطل:

(الزيتونة لمن..؟ لعمي!

هذا قبر من..؟ قبر من!

أظنه لجدي من أمي

وذاك بيت من .. بيت من؟!

أظنه مهد طفولتي ..)

وعلى هذه الحال تسير الشهادة على أقدامها بعكاز (كان) ذلك الذي رمز إليه الكاتب في البداية، حينما أومأ إلى أنّ رؤيته لرام الله ماضٍ لا نمسك منه شيئاً .. فالبطل محكوم عليه بالرحيل .. فساعات لن تكفي لأن يتأمل الكهل مراتع الصباء، وينصت لصوت أجش ظل عالقاً في ذاكرته المتخمة بقصص الوعود.

الزائفة:

(عائدون ..

عائدون .. عائدون..)

ولا أمل يلوح في أزقة المدينة، أو على شرفاتها بأنّ أياً من الوعود وإن قل قد يتحقق فهو في عداد (كان) التي ظل البطل يتوكأ عليها لعلها تقيله من عثار ممكن، بعد أن لمح الصغير وقد أمسى كهلاً، والوغد وقد بات محاطاً بجلال زيف مغانم التاريخ البائس، حينما صوّر (رام الله) لقمة أولى لجياع المحتلين القادمين بشقراواتهم من (بولونيا) مدينة تلبس السواد، وتحاصرهم نشوة نصر اللئام .. وليس بوسع مريد البرغوثي إلاّ أن يقول: كانت هنا رام الله، وهناك أحزاني في (الناصرة) وما جاورها .. لكنه الآن في الرواية بات بطلاً مهزوماً، لم تستطع (المدن المحتلة) أن ترسل له أي إشارة فأل بقرب الشفاء من أسقام الغربة.

في الرواية تأصيل لفكرة حث الذاكرة على تسجيل مشاهد جديدة عن مدينة البطل التي نأت السبل فيه عنها، لكنه ظل وفياً للحكايات القديمة تلك التي يسترشد فيها ألق البقاء حالماً بالعودة إليها، حتى وإن صدمه الواقع وألقى به أرضاً بين الحياة والموت .. ففي النهاية سيلقى بالبطل حياً أو ميتاً خارج حدود مدينته التي أعياها البكاء ورقدت في انتظار وعد ما بقرب رحيل الغرباء، وعودة أهلها الذي يتدثّرون بمعاطف المنافي بعيداً عن مدائن تسكن الروح وكأنها حب خالص للمنابت الأولى حيث تظل الأمنية محصورة بقبر تحت ترابها العزيز المنال في زمن كهذا الذي ذكره مريد البرغوثي في روايته (رأيت رام الله).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة