Culture Magazine Monday  24/11/2008 G Issue 262
فضاءات
الأثنين 26 ,ذو القعدة 1429   العدد  262
 
هل لدينا فلسفة للسؤال الثقافي؟!
سهام القحطاني

 

 

(السؤال الثقافي الرديء هو الذي يصنع الثورة الثقافية)!..

في بداية التسعينيات الميلادية أصدر أستاذنا الغذامي كتاب (ثقافة الأسئلة) نسبة إلى مقال بنفس العنوان داخل الكتاب، وعندما فكرت في كتابة هذا الموضوع كان لا بد من الرجوع لهذا الكتاب الذي يعتبر من الكتب التي تربى عليها وعينا الثقافي، رغم اختلاف زاوية النظر لكلينا (الأستاذ وأنا) في هذه المسألة.

فالغذامي يرى ضرورة توفير الخلفية الفنية والمنطقية في صناعة السؤال أو تثقيف السؤال كونه هو الذي يمثل مقرر الإجابة، أي استحضار الإجابة أثناء صناعة السؤال، وهو ما يعني القصد المسبق لأحادية الإجابة وليس لتوحيد الفكرة التي يدور حولها السؤال، لأن توحيد الفكرة لا تستلزم فردية السؤال بل اجتهادية البحث، ويرى كذلك وفق ذلك المنطق أن الخلل في الإجابات مرجعه إلى الخلل في صناعة الأسئلة، في حين أن مرجعها الإغلاق المقصود لمحتوى السؤال الثقافي، وأن الأزمة الفكرية في المجتمعات هي حصيلة السؤال الرديء، وهو أمر لا أتفق معه فيه، فالسؤال الثقافي الرديء يُنتج الإشكاليات والجدليات ونوعية ذلك الإنتاج ليس أزمة بل إثراء، يدفع إلى البحث عن محتوى لإصلاح السؤال الثقافي ومن خلال مرحلة البحث تٌنتج الكثير من الإستراتيجيات والاستنتاجات الثقافية التي تُحسن الخلية الوراثية للتجربة الثقافية.

ولا شك أن تحليل فكرة الغذامي بما تحمله من (تحجيز) لا يمكن تفسيرها بعيدا عن ظرفيات المرحلة التي ولدت فيها الفكرة، أي الصراع بين مكونات المفاهيم وكيفيات التعبير عنها، كما أن التركيز على توفير خلفية فنية للسؤال يحول السؤال إلى مشكلة بنيوية تغيّب محتوى السؤال، إضافة إلى إعطاء التشكيل البنيوي قيمة في تحديد (ما هو مقرر)، وهذه المعادلة الفردية للسؤال أي أن يتساوى مضمون السطح مع مضمون السقف لا تخدم الإثراء التأويلي للجواب الرقمي، أي الصفة الثابتة للناتج، وتقطع الطريق على الاختلاف الثقافي وتدفع الجميع إلى زيّ الأحادية، ولعلها مضامين كانت تستلزم مرحلة الصراع أي أن يتحول السؤال إلى مجرد جدار بزوايا ومساحات ومقاييس رقمية تحجز المنظومة الفكرية بين اتجاهين معاكسين.

لكن السؤال الثقافي يجب ألا يكون جزءا من برنامج الاتجاه والاتجاه المعاكس، ويجب ألا يٌستغل كسلطة فكرية لفرض تقارير حقائق ومطلقات، فلا أحد يملك حق الإقرار بمفرده، ولا حق صناعة السؤال بمفرده.

كما أن السؤال الجيد قد يكون عائقا أمام آليات التفكيك والتأويل وهو بذا يغلق محتوى السؤال الثقافي، مما يحوله إلى تشريع، أليس التشريع هو (محتوى مغلق)؟.

أليست أفكار الدكتاتورية (محتوى مغلقا)؟ فالسؤال الجيد هو إغلاق للمحتوى الثقافي، وبيان لتحريم الثورة الثقافية، لأنه مقرر وليس مشاركا.

كما أعتقد أن مواصفات السؤال تختلف وفق خلفياتها المفترضة، اختلاف يعود إلى طبيعة المحتوى وأثر الخلفية المستخدمة، أي التقنيات اللغوية في صياغة السؤال والمضامين والتغطية الفلسفية التي توفرها تلك الصياغة لإتاحة بواطن فكرية تنمو بالتقادم فوق جدار المضامين العامة، مما يٌراكم محتوى التجربة الثقافية، و يسهل ممارسة تفكيك الخلية الوراثية للتجربة الثقافية ثم الثورة الثقافية، وذلكم الإثراء لا يتم إلا في ضوء اختلافنا في صياغة بنية السؤال والذي يترتب عليه تأويلاتنا للرؤى المختلفة التي نصنفها كإجابات يجب ألا تتحكم فيها مقاييس الصواب والخطأ، لأن هكذا جدولة تحبس رؤى التأويل.

ولاشك أن الأسئلة الثقافية تنصنص جدليات الوجود المختلفة، ولا أقصد بالتنصنص الإثبات والإقرار الذي تنتجه صناعة السؤال كلوحة مفاتيح معرفية لرسم أبعاد الخطاب الثقافي ولا التوجيه التفكيري الذي يهدف إلى (منطَقة السؤال) وتجريده من زيّه الفلسفي ليتساوى مضمون السطح مع السقف، في تفريغ مقصود لحمولاته المفاهيمية. بل إيجاد جدلية وجودية خاصة يثيرها السؤال الثقافي.

الإثارة ممكن أن نعطيها أكثر من اعتبار وظيفي تستطيع أن تستثمر من خلالها جدلية مخصوصة، فهي محرك بحث أولي لبنى الجدلية هذا الاعتبار التأصيلي يُعين على التعرف على تاريخ أفكار الجدلية، وهي معرفة مهمة لاستثمارها في عملية الإضافة والتحول التي يقودها الفعل التفكيكي كمرحلة لاحقة.

كما يمكن إعطاؤها اعتبارا تعليليا، و لكن علينا أن نفرق بين الاعتبار التعليلي المنتمي لمرحلة الإثارة والذي يعتمد على الاستنتاج الممثل للظاهرة التاريخية أي أن حرية التأويل أو التصرف في التحليل مقيدة بالحدود التاريخية للظاهرة، والتعليل المنتمي لمرحلة التفكيك والذي يعتمد على مجموع مفترضة من الأدلة العقلية غير المستندة لأي ظاهرة، لكن هذا لا يُلغي وجود تصور مبدئيّ لخلفية الدليل العقلي تقوم عليه عمليتا الإسقاط والترفيع.

والاعتباران السابقان - التأصيلي والتعليلي - يؤديان إلى اعتبار ثالث هو اعتبار ترتيبي لكنه لا يحمل صفة إعادة الصياغة، بل توفير مقدمة شكيّة تهزّ قاعدة السلم العرفي لتشكيل المعتقدات، وهو ما يدفعنا فيما بعد إلى تفكيك الحتميات بما فيها الإقرارات المؤسِسة للأعراف المؤكدة التي تستمد حقيقتها من ذلك التوكيد وفق اعتباراته التوثيقية، وتحول المُؤكدات إلى احتمالات عبر آليات التفكيك، يمنح مصداقية النتيجة، كما أنه يوسع خلفية الأثر، ما بين الحاضر والغيبي كمتحكمين في تشكيل ذهنية المخاطب، وذلك التحكم يسحب فرضية اليقين الذي يروجه السلم العرفي لِما هو معتقد، كما يضفي فكرة الشراكة في تفكيك يقينيات السلم العرفي للتجربة الثقافية الجمعية، وتجزئ المتن لا يؤدي إلى تناقض الأثر كخلفية عامة لنتيجة التفكيك كما قد نتوهم، بل هي نوع من الامتزاج بين الذات المفكرة والرؤية العقلانية القادرة على نسنقة السلم العرفي بشكل ومضمون جديدين.

أما القصد بالمصداقية فهي توفير العلل العقلية التي تنفي فرضية الشك عن المحتمل وتعيده إلى مرتبة المؤكد، لكن العودة لا تضمن الاستقرار، إنما تعني دليلا على أن حالة (الترفيع) تمت وفق ما توفر لتلك المرحلة من مسوغات عقلانية، إما إنها نفت الشك عن المؤكد، أو أنها لم تستطع أن تٌثبت الشك عليه.

وفي الحالتين يتم (إعادة الترفيع) كاستسلام للنشط من المفاهيم التي يتحرك في ظلها العقل النسقي، وتلكم ليست صفة تذبذب - التكرار المستمر لحالتي الإسقاط والترفيع لِم نجزم أو نظن أنه مؤكد - إذا أردنا معيّرتها، بل هي خاصية مرتبطة بمشروطات أدلة الإثبات والنفي القائمة على طوارئ وتغييرات وتطورات الرؤى الثقافية للمجتمع، ومدى استثمارها كخلفيات تأويل، وهو ما يجعل حالة الترفيع بما تشمله من سلم عرفي يشكل مؤكدات المعتقد أو مجموع المعتقدات غير مستقرة، وضمان حماية في ذات الوقت للفكر والسلوك الشكيين من المصادرة.

وعمليات التشكيك المستمر لمعتقدات السلم العرفي وأشكال الإسقاط والترفيع، لا أحسبها تضرّ بالتسلسل العائلي للتجربة الثقافية في تراكمها، رغم كل عمليات التهجين التي تتعرض لها؛ لأن الخلية الوراثية للتجربة الثقافية لها قدرة على استيعاب الإضافة والتحول من خلال علاقات الإسقاط والترفيع، لكن التوفير المستمر لعلاقات التحزم تلك قد يصبح عائقا للإضافة والتحول في ضوء غياب تقنيات الفرز التي يستلزم حضورها تقسيم الشبكة الوراثية للتجربة الثقافية إلى منظومات، أي توفير التسلسل الزمني لتاريخ عمليات إخصاب الخلية الوراثية للتجربة الثقافية، والتسلسل الزمني يدخلنا إلى خارطة رقمية معقدة، باعتبار أن الأرقام تحقق مفهوم الإجابة من خلال صيغ المعادلات الأدائية أو ما نسميها (بالمفاهيم)، وهو ما يحمل السؤال الثقافي وظيفة التفكير الإجرائي باعتباره ممثلا لإشكالية وصانع جدلية تقود التجربة الثقافية إلى ثورة، فأهمية فلسفة السؤال الثقافي تعود إلى ارتباطاته الناتجة أي الثورة الثقافية والإصلاح الثقافي والتجديد الثقافي، وهذا الجانب يحتاج إلى تفصيل دقيق.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة seham_h_a@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة