لم يكن الثاني من أكتوبر يعني له شيئاً كبيراً، ولكنه منذ اليوم بدأ التفكير فيه بشكلٍ مختلف، سيأتي وأنا في قمة المنحنى، ثم سيبدأ الهبوط.. سيبدأ العد التنزلي بحساب الأيام، التصاعدي بحساب الآلام..
ذهبت أيامه الماضية بين دراسة المحاسبة، وتدريس الرياضيات، دون أن يصرف من وقته ومعرفته شيئاً، لحساب معادلة الثاني من أكتوبر.. ها هو اليوم يتنبه لما غفل عنه سنين، فيسجل على الغلاف الداخلي لكتاب بين يديه:
أنا+ الثاني من أكتوبر= (س)، ثم يحلل عناصر المسألة:
أنا= (سنوات ضائعة+ سبعة أطفال+ ديون متراكمة+ كيلوات من الوزن الزائد).
الثاني من أكتوبر= (بداية السقوط+ مزيداً من الفجائع)، وبهذا التحليل توصل، بخبرته الطويلة في حل المعادلات الرياضية، إلى معرفة (س).
رغم الأشهر الخمسة التي تفصله عن الثاني من أكتوبر، فقد انغمس في ذهوله وانقطاعه عمن حوله، وأخذت نظرته لكل شيء تأخذ ظلالاً من السواد، فهو يتذكر جمال الأمس، ويتوجس من بؤس الغد، وبينهما ضاع اليوم بكل تفاصيله.
خفت صوته فلم يعد يصرخ كلما غضب، ولم يعد يضحك وهو يستمع إلى نوادر أطفاله، أو أصدقائه، تثاقلت خطواته فقد الابتهاج والامتعاض مما يدور حوله، تلاشت رغباته.
انشغل بعد الأيام التي تفصله عن الثاني من أكتوبر، ليجده يقترب يوماً بعد يوم..
كثيراً ما تلح زوجته عليه، تسأله عما يشغله، تفترض بعض الأسباب، فيؤكد لها ألا علاقة لما توقعته بحاله، وأنه عارض سيمضي بمضي الوقت، كان كلما ذكر الوقت، تذكر الوقت بين اليوم والثاني من أكتوبر، عندما يزداد إلحاحها لمعرفة ما به، توشك الدموع أن تغلبه، فتشفق عليه، وتضم رأسه إلى صدرها، وتعده ألا تسأله ثانيةً، بما أن ذلك يزعجه إلى هذا الحد..
لم تعد تسأله عن شيء، قررت أن تدعه حتى يبوح لها هو بما يؤلمه، أرادت أن تخفف عنه مسؤوليات البيت، فباعت خفيةً بعض أساورها، وتدبرت بثمنها مصاريف البيت، ومصروف الصغار اليومي في المدرسة، قالت لصغارها: أبوكم متعب، حذار أن تزعجوه، حذار أن تطلبوا منه مصروفاً، أو أي شيء، أو أن تسألوه عما به، مفهوم؟ أجابوها كما عودتهم، بصوت واحد: مفهوم..
مع أن الحيرة والقلق يستحوذان عليها، لم تسأله هذه المرة عن سبب عزلته، غير أنها استأذنته أن تقترح عليه اقتراحاً..
- هل تسمح لي باقتراح بدون انفعال..؟
- بلا اكتراث، قال: تفضلي..
- لم لا تعرض حالتك على طبيب نفسي؟..
صرخ في وجهها غاضباً: هل أنا مجنون؟! وطردها من غرفته التي اعتزل فيها منذ أسابيع، خرجت وهي تلوم نفسها على إزعاجه بهذا الاقتراح، فالطبيب النفسي يعالج المجانين فقط..
وزوجها معروف بعقله ورزانته..
كانت ترتب غرفته، عندما بدا لها طرف كتاب تحت فراشه، كان غلافه منزوعاً، وأوراقه مهترئة، ومع ذلك استطاعت قراءة عنوانه الداخلي، يتوسط صفحةً صفراء، محاطاً بكتابة غير منظمة، ضحكت كما لم تضحك منذ شهور وهي تعيد قراءة العنوان: (انتبه فقد بلغت الأربعين)..