هذا العنوان الضخم الذي اختاره الدكتور عبد الله الفيفي لكتابه، رأيناه شرطاً أملاه على نفسه، على اعتبار أنه أقرب إلى ما أراد أن يقوله في الكتاب. وعلى هذا فقد كان من حقنا أن ننتظر أن تكون رؤيته نقدية بكل ما في النقد من اشتراطات لا ينجح إلا بها، ولا يصدق إلا من خلالها. وأن تكون رؤيته جديدة غير مجرّدة للجدة. وأن تكون غير باحثة فقط عن الإتيان بما لم يأت به الأولون. وكان من حقنا أن نتوقع أن تكون جدّةً صالحةً واعيةً مدركةً مضيفة.
وبما أن الدكتور شرط على نفسه أن تكون رؤيته عبر المكتشفات، فقد تلقينا الكتاب باحثين في البدء عن طرق استلهامه لتلك المكتشفات.
وعن أساليبه في الربط بين التحليل الفني للقصيدة الجاهلية وتلك الاكتشافات ربطاً يظهر صدق التفسير من جهة، وصحة النسبة من جهة أخرى.
ومن خلال ذلك كله توقعنا أن يقدم لنا مفاتيحه تلك في ثوب من الإقناع العلمي، والدقة البحثية، والمنهجية التي تؤصل وتقنع.
لقد قرر الدكتور الباحث أن تكون قراءته مستندة إلى المكتشفات، وخاضعة للسياق الذي أصرّ الباحث على استلهامه حينما أنكر على الذين قرأوا النص الجاهلي قراءة لم تضعه - كما يقول - (في سياقه الذي نشأ فيه).
كذلك كان ينكر على الذين أولوا - مثلاً - لفظة (رسم) بغير معناها المعجمي الذي وضعت له.
ومن هنا تلقيت قراءته واضعاً في اعتباري أنه:
لن يخرج بالقراءة عن الدروب التي طالب بها.
ولن يخوض بها فيما أنكره على الآخرين.
فهو - والحالة هذه - لن يقرأ الشعر الجاهلي قراءة لا تحترم السياق.
ولن يقرأ في الألفاظ معاني لا يقرها المعجم الجاهلي.
وعلى هذا فقد كنت أتلمس في قراءتي له جوانب مختلفة منها:
المرحلة.. فقد كنت أنتظر من الباحث أن يحاول التأريخ للنص من أجل أن يصل إلى ربطٍ أقرب للموضوعية بين الإنشاء والأحداث.
كنت أراه بحاجة إلى أن يقارن - في الجانب الزمني - بين اللحظة الشاعرة التي أخرجت (قفا نبك) مثلاً، وبين الأحداث الجسام التي أثّرت في حياة امرئ القيس بن حجر الكندي - لأن الباحث قد جعل تلك القصيدة لا تتحدث إلا عن تلك الأحداث - وعندها كان سيسهل على الباحث ربط النص أو عدم ربطه بمقتل الملك حجر وانهيار مملكة كندة.
لقد كان الباحث في أمس الحاجة لمثل هذه الالتفاتة خاصة ونحن لا نرى في المعلقة ما يشير إلى شيء من تلك الأحداث.
ولقد كان إغفال الدكتور الفيفي لهذه الجزئية خطأ جسيماً، أدى به فيما بعد - كما سنرى - إلى افتراضات تتعلق بالمعلقة لا يمكن قبولها في ظل ضياع البعد الزمني الذي لم يتحدث الدكتور عنه.
لقد عاش امرؤ القيس حياتين، كانت أولاهما قبل مقتل أبيه، والأخرى بعد مقتله، وقال في الحياتين شعراً كثيراً.. فأين موقع المعلقة من تلكما الحياتين ؟!
سنرى فيما يأتي من صفحات أن الأقرب أن تكون قد قيلت في حياته الأولى، فهي أشبه بتلك الحياة في أمور كثيرة.. ولكن الباحث يصر على أن يجعلها من نتاج حياة الشاعر الثانية دون دليل.
المقارنة.. فقد كنت أنتظر من الباحث أن يتساءل، وأن يقارن بين تصريح امرئ القيس بمشاعره تجاه تلك الأحداث في نصوص شعرية كثيرة، وإحجامه - على قراءة الدكتور - عن التصريح بها في المعلقة، ليطرح لنا الدكتور - بالتالي - تصوره عن الأسباب التي أدت إلى ما ظنه ميلاً مستمراً عن التصريح إلى التلميح والإيحاء، وهو ما ظن الدكتور الفيفي أنه يحتاج معه إلى قراءة الأحداث عينها في المعلقة التي لا تصرّح بشيء.
وكيف لباحث أن يقبل تصريح امرئ القيس في نص ما، ثم يحمّله عبء كل تلك المواراة، والاختباء خلف الأغراض، والانزواء في أصول الألفاظ في نصوص شعرية أخرى.. بل في أشهر نصوصه على الإطلاق !
السياق.. فقد كنت أنظر في وجهة نظر الباحث حول الواقع الاجتماعي الجاهلي، وكنت أتتبع مسافات قرب وجهة النظر تلك أو بعدها عن المنطق، وقربها أو بعدها عن الوارد إلينا عن ذلك العصر.
بل إنني كنت أعجب من إصراره على ركوب السياق حين يشاء إثبات ما لا يثبت من نظريته، ورفضه له حين يريد أن يؤكد ما لا يؤكد من نظريته !
العلاقة.. بين التوجه النظري/ الافتراض والقرائن المصدّقة له.
فقد كنت أنظر في مستويات قراءته للنص، وعلاقتها بما يريد أن يثبت.
وقد وجدت أن الباحث قد افترض أنّ امرأ القيس لم يقل المعلقة إلا بعد مقتل أبيه، ومن هنا جاء ربطه لتلك الأسماء بتلك الأحداث.
ولكنه - في الوقت نفسه - لا يحاول إثبات كونها قيلت فعلاً بعد تلك الأحداث، بل إنه لا يعرّج حتى على ما قد يتبادر إلى الذهن من كونها ربما قد قيلت قبل تلك الأحداث.. على افتراض ما يلي :
1 - أن المعلقة لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى تلك القصة الدامية، ولا إلى أحداث أو أشخاص يمكن الاستنارة بأدوارهم للقبول بذلك التفسير.
2 - أن الأحداث الجسام التي مرّت بامرئ القيس وأفقدته أسرته الكريمة كاملة، وعصفت بمملكةٍ كانت مصدر عزة له وفخر، وانتزعته من حالة كانت تتيح له ما لا يتاح لغيره، ونقلته من سعة الفراغ إلى ضيق الحروب، ومن عظَمَةِ القيادة إلى ذل الهرب والاستجارة، كانت حالة لا تتيح للشاعر الوقت للمطولات، ولا تعطيه الفرصة لذلك التنقل البديع بين الطلل والصيد والليل والمطر، ولا تمنحه فرصاً كافية لغزل ستائر لفظية يخفي بها ما أراد.
3 - أن الباحث لم يطلعنا على الأدلة اللفظية أو السياقية التي تجيز له أن يفسر الألفاظ على ذلك الوجه الذي لا دليل عليه، الوجه الذي لم يلحظ الباحث أو غيره - في النص/ المعلقة - تصريحاً أو تلميحاً يؤيده.
ولم يطلعنا على سوابق تثبت حسن نيته فيما فعل.
ولا على دراسات اتخذت ذلك السبيل في النقد أو في علوم أخرى.
4 - أن الدراسات القديمة التي أفصحت لنا مثلاً عن قصّة قول عمرو بن كلثوم لمعلقته - على ضعفها مقارنة بمعلقة امرئ القيس - كانت أولى بأن تخبرنا بأن (قفا نبك) إنما قيلت بعد مقتل الملك حجر.
التلقي.. وأعني به تلقيه للألفاظ في النصوص التي قرأ، وهل تتفق مع ما قرّره - عند اعتراضه على تفسير الأولين للفظة (رسم) مثلا - من الاعتماد على المعاني المعجمية أم تختلف.
وفي حال اختلافها كنت أنظر في المبررات التي يسوقها الباحث من أجل إقناعنا بصواب التوجهات الجديدة لديه.
وقد وجدت - في الحالين - أن ما ساقه الباحث يحتاج إلى قراءة متأنية.
المفاتيح.. وبما أن الدكتور يؤكد مسألة الاعتماد على استخراج المفاتيح من خلال المكتشفات في الآثار والميثولوجيا.. فقد كنت أنتظر منه أن يورد لنا ما يقف عليه من (مكتشفات) تمثل الجوانب الحسية الملموسة (من تماثيل ومبان ونقوش).
وتمثل الجوانب الميثولوجية من حكايات وأساطير (تخص العصر المقروء).
ولكننا في النهاية لا نجد شيئاً من ذلك كله.. إلا إذا أراد أن يقنعنا بأن ما أورده من مقتطفات لا يعول عليها تصلح لأن تكون دليلاً تقوم عليه دراسة بحجم ما وعد الفيفي به.
لقد صدمنا الباحث تماما في هذا الجانب.. لأننا اكتشفنا إلى أي مدى كان الكتاب المليء بالوعود فقيراً إلى تلك المكتشفات التي تجعل من أمر الاستشهاد بها مقبولاُ في جانبه البحثي، ومفتاحاً في جانبه النقدي.
لقد وجدنا الدكتور يميل إلى دلالات الألفاظ ليستخرج منها معاني جديدة لا ترتبط بالأداء المعجمي لتلك الألفاظ، ولا تناسب السياق.
ولرغبتنا في منح الفرصة له لإقناعنا بمنهجه، فقد انتظرنا أن يكون ذلك الميل صالحاً لأن يكون فتحاً نقدياً يصنع لنا مفاتيح جديدة للنص الجاهلي.
واحتفظنا بحقنا في أن نتساءل - بعدها - عن منطقية وعلمية محاولات استخراج ملامح في الألفاظ العربية التي تأسست تحت ضغوط الحاجة للإفصاح عن القضايا اليومية، ليصل الباحث في نهاية المطاف إلى تفسير يربط كل شيء في النص بما قرره الناقد وحده قبل الدخول في النص.
واحتفظنا بحقنا كذلك في أن نتساءل عن مصداقية النظرة النقدية التي ترى - مثلاً - في لفظة (حومل) الواردة في معلقة امرئ القيس معنى الحمل.
ثم لا ترى في ذلك الحمل سوى معنى الخيانة !
واحتفظنا بحقنا في النظر في تلك الجدة لنرى أهي شكلية أم موضوعية؟
وهل اتكأ الباحث حقا على الاكتشافات اتكاءً تكون المفاتيح التي تحدَّث عنها ناتجة عنه، مرتبطة به، ناشئة في كنفه، مدعومة بدلالات واضحة لتلك الاكتشافات التي شرط الباحث على نفسه - كما في العنوان - أن تكون مفاتيحه النقدية صادرة عنها؟
وهل قول الدكتور في مقدمة كتابه: (إن الدراسات السابقة كانت تفتقر إلى المفاتيح فهي إما جزئية أو إسقاطية) قولٌ له ما يبرره.
أم إنه تكرار لما ادعاه من قبل أغلب النقاد العرب.. إذ يرى كل منهم أن كل مَن سبقه قد ضلَّ طريقه، ولم يهتد للحق سواه.
وهل حَمَّل الدكتور الفيفي الأسماء ما لا تحتمل.
كتحويله أسماء الأماكن إلى إيحاءات لا غير.. حين لا يرى في (سقط اللوى) مثلاً سوى دلالتها - عنده - على سقوط اللواء.
لأنه يريد أن يخبرنا أن امرأ القيس عبّر بالجزء الأول (سقط) عن السقوط، وبالجزء الثاني (اللوى) عن اللواء.
وبالتالي يكون امرؤ القيس قد عبر بخفية - لم يحدد الدكتور أسبابها - عن سقوط اللواء، الذي يعني بالتالي سقوط مملكة أبيه الملك حجر.
ولماذا قطع لفظتي (الجنوب والشمأل) عن السياق ليجعلهما تدلان على تعدد رياح الغزو، مع أن البيت واضح الدلالة على بعد هذا من ذاك.
وهل لهذا التفسير علاقة بالمكتشفات التي أخبرنا الدكتور الباحث بأنه سيتخذها مفاتيح لبحثه.
كل ذلك وكثير غيره سأحاول أن أبحثه في كتابي هذا لأضعه لبنة أخرى تضاف إلى ما سبق، ويتبعها ما يستجد.
لأكوّن من خلال تتبع التجنيات النقدية - التي ملأ بها الباحثون العرب أرفف المكتبات العربية - ركناً - أحاول أن يكون موضوعياً ومعتدلاً - في مشروعي الذي عزمت على القيام عليه.
الكتاب
يستهل الدكتور عبد الله الفيفي كتابه هذا بتلك الجملة التي ما زال يتداولها المؤلفون العرب.. حتى لتكاد تظن - مما يصورونه لك - أن السابق لا يقع إلا في الخطأ، واللاحق لا يقول غير الصواب : (لقد كانت الملحوظة الأولى في دافع هذا البحث أن مجمل الدراسات حول الشعر القديم - الجاهلي بوجه خاص - تفتقر إلى إعطاء القارئ مفاتيح أساسية يستطيع من خلالها أن يلج إلى القصيدة فيقرأها قراءة تضعها في سياقها الثقافي الذي نشأت فيه وعبّرت عنه، إذ تظل تلك الدراسات جزئية، إما في قراءتها شعر شاعر بعينه مستقلاً عن غيره، أو في تركيزها على ظواهر شعرية محددة. الأمر الذي ينتهي إلى ضرب من المعميات المتفرقة.) ص 11
ومع أننا لن نلتفت إلى تلك الاتهامات التي أكثر مؤلفونا من تبادلها.. تهيئةً للمتلقي.. وتزكيةً للنفس.
ودعوةً للقبول على اعتبار أنها تأتي بما لم يأت به الأولون.
فإن هذه الفقرة ستضع بين أيدينا حكماً نقدياً يراه الدكتور الفيفي ذا وجه واحد، ونراه نحن ذا وجهين الأقرب منهما - في ظننا - للموضوعية النقدية هو ما لم يأت الدكتور عليه، ولم يتنبه له.
لقد أكد الدكتور على أنه يأخذ على من سبقه أنهم لم ينظروا في تلك القصائد نظرة (تضعها في سياقها الثقافي الذي نشأت فيه وعبّرت عنه).
وعلى هذا المعنى سنفهم أن المؤلف يرى أن على القارئين للشعر الجاهلي أن يحترموا السياق الثقافي لذلك النتاج.
ولكننا في الحقيقة سنرى أن الدكتور في قراءته لذلك الشعر يفترض سياقا من عند نفسه، غير عابئ بحقيقة ذلك السياق، وغير عابئ بالتدليل على صحته.
إذ سنراه يفترض أن السياق الثقافي الذي عبّرت تلك القصائد عنه لا يخرج عن كون الشاعر الجاهلي خاضعا لضغطٍ إيحائي قوي.
ولكننا ونحن نبحث في المفاتيح التي وعدنا الدكتور بتقديمها لا نتمكن من اكتشاف شيء من أسباب ذلك الضغط الإيحائي الهائل.
ولا نقف على مبرر مقنع واحد يدفع الشاعر الجاهلي إلى ذلك التعمّد الواعي المقنن في عمليات إخفاء مقاصده المعنوية في ثيابٍ لفظية بعيدة الشبه بالمعنى، ضعيفة الإيحاء بشيء منه.
ولو تمسك الدكتور في بحثه بالدوافع الميثولوجية لا غير، ونزع دائماً إلى تصديق تفسيره للنص على أضوائها، لكان لنا أن نظن أن ذلك المنهج هو ديدنه، وسنوقن ساعتها أن إيمانه بتلك النظرية التي سبقه إليها آخرون يسوّغ له أن يقرأ ذلك الشعر وفي ذهنه مبدأ يمكن أن يوحي بشيء في تلك القضية.
لكننا حين نجد أن الدكتور ينظر إلى قضايا إنسانية وحياتية عبّر عنها الشاعر الجاهلي بما يتطابق تماماً مع (سياقها الثقافي) ثم يقطعها هو عن ذلك السياق اعتماداً على سياق ظني غير منطقي، بل هو في كثير من جوانبه ضد كل منطق في النظرية النقدية، فإننا نجد أن خللاً كبيراً قد عاث فساداً في أوصال تلك النظرية النقدية التي يحاول إقناعنا بها.
الثأر عند الجاهليين.. والستائر عند الفيفي