عندما تُذكر الأسماء الشعرية الأساسية في تجربة جيل الستينات في العراق، فإن علي جعفر العلاق أحد أبرز هذه الأسماء إذ نتذكر سامي مهدي، فاضل العزاوي، حميد سعيد، حسب الشيخ جعفر، وأسماء أخرى.
وقد تكوّن أكاديمياً بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة اكستر البريطانية، ويعلم حالياً أستاذاً جامعياً في دولة الإمارات العربية المتحدة.
ويمتلك العلاق القدرة النادرة على جعل خطواته الشعرية متمتعة بالتأني والرصانة، نتلمس هذا في نشره للقليل شعراً ودراسات، ولكن هذا القليل صار كثيراً بتراكم السنوات، فأصبحت لديه مدونة ثرية. إضافة إلى كونه متذوقاً، قارئاً، موضوعياً، تطمئن لرأيه الذي يسجله بحيادية المبدع الأصيل.
ومن بين الإصدارت الأخيرة لهذا الشاعر المتميز ديوان بعنوان (سيد الوحشتين) ينتمي لتلك السلالة الشعرية الجنوبية التي قدمها تباعاً في عدد من الدواوين كان أولها (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء) الصادر عام 1973م متأخراً زمنياً عن إصدارات مجايليه المنتمين لمرحلة الستينات بكل ثرائها الذي لن نجده في العقود اللاحقة إلا في إبداع عدد محدود من الأدباء.
ذلك الديوان وجد صدىً طيباً ولا سيما أنه لم يصدر في بغداد، بل في بيروت وعن دار العودة المعروفة جداً وقتذاك.
ثم توالت أعمال العلاق، وكل ديوان منها يعزز الديوان الآخر لتشكل ملامح ثراء تجربة باذخة. فصدر له (وطن لطيور الماء) (1975)، و(شجر العائلة) (1979)، و(فاكهة الماضي) (1987)، و(أيام آدم) (1993)، و(ممالك ضائعة) (1999).
وله في النقد عدد من المؤلفات التي تمثل رؤيته للشعر، أمثال: (مملكة الغجر) (1981)، (دماء القصيدة الحديثة) (1988)، (في حداثة النص الشعري) (1991)، (الشعر والتلقي) (1997)، (الدلالة المرئية)(2002)، (في حداثة النص الشعري) (2003)، (ها هي الغابة فأين الأشجار) (2006).
وقائمة الكتب النقدية هذه المكرسة للشعر دون غيره من ضروب الأدب الأخرى هي مؤشر على جدّية المبدعين العراقيين الذين أصبحت ميزة لهم.
أي أنهم بتعبير آخر، لا يضيعون جهودهم، بل يواصلونها ويراكمون الإصدارات التي أصبحت مرجعاً مهماً لدراسة التجربة الشعرية العربية وليس العراقية فقط.
وقد ظلت قصيدة العلاق طريّة، عفوية، ملأى بالصفاء، قصيدة فيها الأناقة وذكاء الصياغة، قاموسها عراقي جنوبي مستمد من مفردات الحياة اليومية وطقوسها وأسطوريتها وهو معبأ بصورة وأخرى بالموروث الشعري العربي، ولكنه يأخذ من إيقاعه وذراه ما يجعل قصيدته الحديثة جداً ذات تميّز وهوية.
هذا لأن العلاق يشتغل - في تجاربه الأخيرة على الأقل - وبجد واضح ليخلّص القصيدة من كل أحمالها وزوائدها وصولاً إلى اللبّ، إلى القلب، ولذا تأتي قصيرة نابضة.
لنأخذ تجربته في قصيدة (المجنون) التي تحيل على مجنون ليلى قيس بن الملوح، وقد استلهم الحكاية شعراء كثيرون، ولكن العلاق كتبها على طريقته وباختلاف كامل، وهذا نص القصيدة:
(من ترى
أوصلك اليوم إلى هذا المتاه؟
لا خفاف الإبل الحمقاء قادتك إلى ليلى،
ولا هبّت على معولك النائح
أقمار المياه..
كيف أوغلتَ؟ حفرت البئر حتى
بكت الابرة، واشتدّ عليك الليل
حتى اختلط الحابل بالنابل، والوحش
بالأهل، حتى بلغتْ حيرتُك الكبرى
مداها، فلماذا
يأسك الوارف لم يبلغ مداه؟
يتُها الريح الخريفية،
يا قبّرة الوحشة، من أيقظك الليلة؟
أفقٌ من رعاة؟ إبل هائجة
تمرح في ذاكرة المجنون؟ أم ضوء خطاه؟
مورقٌ عكّازه الأعمى،
وأحجارٌ يداه.).
هذه القصيدة كاملة، لكن (المجنون) هنا غير المجنون الذي نعرفه، وليلى غير ليلى التي نعرفها وبالتالي هناك حكاية جديدة، لعلها حيرة الأسئلة عندما تكون المعشوقة غير المعشوقة، والعاشق يضبط ايقاع قلبه نبضٌ آخر، له (نوتة) مختلفة.
هي قصيدة لا تعيد كتابة حكاية، بل تبتدع حكاية مختلفة للأشخاص أنفسهم.
ويتألق العلاق أكثر في تساؤلاته، قصائده التي يحملّها بمكاشفاته وارهاقاته، لنأخذ قصيدة (أوهام) كاملة كمثال:
(لك أن تتوهّم
أن المتاهات أشرعة
والحصى سحبٌ
ممطره
لك أن تتوهم..
لكن:
أهذا الذي أنت فيه
خراب وتيه؟
أم هو الوهم يا سيدي؟).
وفي قصيدة بعنوان (للريح أم للضجر؟) هناك كتابة عن العراق، هذا ما أوحت لي به، ولكنها كتابة من البعيد القريب، وبصيغة التساؤل نفسها التي تتسربل بها قصائد الشاعر. يقول:
(ننحني كالجنول القديمة
للّيل، أم ننحني للشررْ؟
ننحني لغبار مخاوفنا، أم تكسّر أعوادنا
في الخطرْ؟
أي شيء هو الأفق؟ أي السلالات
نحن؟ قبائل للرمل أَم
للهزائم؟ للريح أَم
للضجرْ؟).
هذه القصيدة كاملة في اختزالها المتناهي.
ولكن لماذا أطلق الشاعر على ديوانه اسم (سيد الوحشتين)؟ والجواب الجاهز هو أن في الديوان قصيدة بهذا العنوان، لكنني أرى أن هذا العنوان يوحّد كل القصائد، يوحّد أسئلة الشاعر الذي كان أكثر وضوحاً في قصيدته (لي بلاد أحبها وهي تنأى) ومما قاله فيها:
(حجبتْها الحروب
أدنو
فتمضي مثلما الغيمُ
كم غسلت حصاها بالشذا
والدموع،
كم تركتنْي لذئاب التاريخ
تفتضّ
روحي
قسوةٌ كم أحبها،
وجمالٌ يتحدى الخراب:
حتّام أدنو فتجافي،
أكلما جئتُ
غابتْ).
في قصيدته (سيد الوحشتين) يردد الشاعر بأنه (سيد الوحشتين) لكن الشاعر هنا لا ينطق باسمه هو، بل باسم الوطن الذي تلبّسه حتى صار، وحشة عن الاقامة في الوطن ووحشة ما بعدها وحشة عن الغياب عنه. هو التأرجح الممضّ الذي لا قدرة للمرء عليه. هي معاناتنا كلنا نحن الذين عانينا الوحشتين.
والعلاق من بين الشعراء القلائل الذين ينجحون في تسمية دواوينهم، وبالتالي تسمية قصائدهم، والديوان هذا يضم عناوين كأنها اختزال لقصائد، أذكر أمثلة: كم كان عذباً شجر الساحل، نهار من دم الغزلان، حبر الوحشة، حافية مثلما الماء، لوعة امرئ القيس، أحزان عالية، ضوء المحنة، خذي معك كل شيء، محفوفة بالغيم والذكرى، طيور السهر، أرض من الأضداد.
هذا ديوان يثري ويضيف ويؤكد من جديد أن الشعراء العراقيين يعوّل عليهم الكثير وأنهم ما زالوا على حيويتهم الأولى، وبأجيالهم المختلفة. وفيه تألق شاعر كبير بحجم علي جعفر العلاق الصديق ورفيق البدايات الأولى في ذلك الزمن الذي يعاند الانطفاء: ويظل يتوهج فينا كلنا رموز ذلك الزمن الحيّ.
صدر الديوان في 96 صفحة - منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت