Culture Magazine Monday  22/12/2008 G Issue 263
فضاءات
الأثنين 24 ,ذو الحجة 1429   العدد  263
 

الإبداع والثقافة
أ.د. صالح الهادي رمضان

 

 

يذهب في تقدير كثير من كتاب القصة والرواية والشعر أحياناً أن اختيار الكاتب موضوعاً طريفاً أو راهناً شرط كاف لتحفيز القارئ وإثارته، وعامل ضامن للإبداع والتألق، أو أن إتقان استعمال بعض الأدوات القصصية يمكن أن يثمر تجربة أدبية ناجحة. إلا أن تقدير هؤلاء الكتاب وهم كثر لا يخلو من تبسيط لمعنى النجاح في الكتابة، فالموضوع المثير والتلاعب بتقنيات الكتابة لا يمكنان بالضرورة من إنتاج تجربة إبداعية تشد القارئ وتثري الفكر الأدبي بما هو جزء لا يتجزأ من الحركة الثقافية.

ومن العناصر الرئيسة التي بإهمالها تقع الكثرة الكثيرة من الأعمال الأدبية دون مراتب الأدب الإنساني العميق في أطروحاته ونظراته ورؤاه عنصر الثقافة والمعرفة، وإن المعرفة الثقافية في تصورنا للأمور نوعان: يشمل النوع الأول المعارف الأدبية المتراكمة في ذاكرة الكاتب المكتسبة بالتعليم أو بالتكون العصامي الذاتي أو بسائر وجوه النشاط الفكري من منتديات ومطالعات حرة ومشاهدات متنوعة المشارب. وكلما كانت هذه الثقافة أوسع وكانت هذه المعارف أغزر كانت قدرة المبدع على شق طريقه في خضم الأصوات المتحاورة أمضى، وكانت كلمته الأدبية التي يحاور بها من حوله من الكتاب والمبدعين وأهل الفن عموماً أكثر دلوفاً في إنسانية الأدب الحق. وكلما ازدادت مصادر الثقافة والقراءة والسماع والمشاهدة تنوعاً وتعدداً واختلافاً اتسعت وسائل إدراك المبدع لأساليب بناء العالم المتخيل في الرواية أو القصة أو القصيدة وتعقدت وجهات نظره وأنماط رؤيته للكون الحكائي، ذلك لأن التعالق بين النصوص والتراشح بين التجارب في الكتابة قادة مولدة لأدبية الأدب وتدلاله (مبالغة من الدلالة بلغة الناقد وأستاذ الشعرية التونسي توفيق بكار) وهذه القاعدة هي الجسر الواصل بين عقول مختلف الثقافات وهي الأسلوب المسخر لدفع طاقات التعبير المتجدد وإن تكررت القضايا والمواضيع.

وتتعاظم في عصرنا هذا حاجة المبدع إلى هذه النصوص الثقافية بإزاء التفاعل المتطور بين النظام اللغوي وسائر أنظمة التعبير المرئي والمسموع؛ كالسينما والمسرح والرسم والفنون التشكيلية بمختلف اتجاهاتها. بل إن هذه الأنظمة ذات القيمة السيميائية المتنامية تطرح على المبدع بالكلمة تحدياً حاسماً يتمثل في بداية منافسة التواصل بالصورة والصوت للتواصل بالكتابة والكتاب.

وأما ثاني العناصر المكونة لثقافة المبدع فيشمل سجلات التجربة الإنسانية في مختلف أبعادها، وخبرات الحياة العملية وما تنفتح عليه حياة الكاتب من ضروب المغامرة الفكرية والروحية والاجتماعية في معانيها الإنسانية العميقة. إن الثقافة الأدبية في هذا البعد تعادل دلالة الثقافة في قول كلود روا (Claude Roy) (إن الثقافة تراكم للتجارب ونقل لها). ولا يتيسر لمن لم تتنوع تجاربه الاجتماعية ولم تتعقد صلاته بالمعاصرين من أهل زمانه ولم تنضج منعطفات حياته النفسية والفكرية، لا يتيسر له أن يكتسب من مهارات إدراك الأشياء، ومن القدرة على صياغة وجهات النظر وزوايا تقدير الظواهر وتحليلها أو تفكيكها ما يتيح له إنشاء مضامين أدبية ذات قيمة خلافية عالية، وأن يبني مضامين حكائية ثرية فيما يكتب من مذكرات أو سيرة أو يوميات أو نصوص قصصية وروائية.. فإنشاء العوالم القصصية والروائية والسرديات الشعرية يقتضي من الذات الكاتبة أن تنهل من أنساق إدراكية متنوعة وأن تكتسب الكفايات اللغوية والسوسيوثقافية القادرة على إعادة كتابة الحياة المادية والعمرانية والجغرافية والاجتماعية والتاريخية بل والأذواق والأحاسيس والألوان وسائر الأبعاد التي تقطع الواقع وتنتجه باللغة، وتتسرب من خلاله رؤية المبدع وأطروحته فيما يتطرق إليه من القضايا. إن هذه الكفايات هي التي تمكن الكاتب من تأثيث المكان القصصي ومن تقطيع الزمان، في حركة الكتابة السردية التي تمثل خضم الحياة، وهي التي تسعفه بالعناصر المكونة للشخصية القصصية في الرواية أو الصورة الشعرية في القصيدة أو الحركة الحوارية في المسرحية. إن الثقافة الأدبية الفاعلة في الإنتاج والإبداع لا تستمد من المعاجم والأرصدة اللغوية المحنطة المنمطة بقدر ما تكون خلاصة النص الثقافي العام في أنسجته الحية وفي تفاعله بين أساليب إدراك المؤلف للعوالم المحيطة به، المتفاعلة مع ذاته المبدعة وأحلامه وأشواقه وآفاق انتظاره، ولا يتيسر للكتابة أن تتسع آفاقها لتلبية هذه الحاجة ما لم تجاوز الثقافة المكتوبة المحددة في مواضيعها وأشكالها ومصادرها إلى عوالم الثقافة النابعة من واقع الحياة الذي لا تنضب روافده ولا يكل عن ابتكار الأشكال التعبيرية التي تحتضن صور الحياة.

إن التجربة اللغوية في عالم الكتابة هي أولا تجربة ثقافية يقترح بمقتضاها المؤلف على القارئ نظرة إلى موضوع ما يشتركان في الاهتمام به، وقد تتجسد هذه النظرة في معنى روائي، أو في قصيدة أو في مقال أدبي، والكاتب إذ يقترح هذا المعنى يدعو القارئ إلى أن ينخرط في تمثله لذلك المعنى أو تدعوه غيريته إلى أن ينضم إليه في إحساسه بذلك المعنى والاقتناع به. إن جميع الأشكال الأدبية في هذا العصر عصر الاختلاف تحمل أشكالا ثقافية متحاورة في إطار المعاني الكبرى للعصر وعلى إيقاع القيم المتداولة بين الشعوب والحضارات. وإن هذه الأشكال الأدبية توجه الضمير الاجتماعي وتؤسس تقاليد في التعامل مع اللغة والفكر والحياة عامة. وحين ينتهي هذا الدور الثقافي تتراجع هذه الأشكال ويفتر أثرها.

وإن تنوع مصادر اكتساب الثقافة ذات الوسائط المتعددة يؤسس لقارئ صعب المراس، مشاكس متحول، شره غير، وفيّ للون أدبي واحد، قارئ لا تقنعه أساليب الكتابة المستندة إلى جمالية بيانية مسطحة مفارقة لقواعد التوصل الثقافي الجديد في مختلف مجالات الحياة.

وإذا كان المبدعون يحلمون بأن تصبح المطالعة عادة من عادات القارئ العربي وأن يغدو الإقبال على الكتاب سلوكاً قرائياً ورد فعل منغرساً في تقاليد المجتمع فلا مناص من أن يستمع المبدع إلى هموم القارئ وأشواقه وآفاق انتظاره وأن ينفذ إلى عوالمه المعقدة تعقد الحياة في عصرنا هذا ليحاورها ويخاطبها بلغة الثقافة الجديدة ثقافة هذا العصر.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة