عندما نتساءل عن أثر التحولات الاجتماعية والثقافية, في مرحلة ما, على جنس أدبي محدد, يتوارى سؤال مقابل عن أثر أو دور أو موقع ذلك الجنس الأدبي, أو الشكل التعبيري, من تلك التحولات؟. يأتي السؤال الأول من باب تغليب أثر الكل الكبير على جزئياته الصغيرة, وصعوبة تصور العكس؛ مما يوحي بنوع من التأثير أحادي الاتجاه, يغفل جانباً من العلاقة التفاعلية المفترضة. وهنا تبرز الحاجة إلى صيغة أدق من الناحية المنهجية؛ فيحضر السؤال المقابل ليعدل زاوية النظر.
ينطبق الأمر على بداية النهضة الأدبية المحلية؛ حيث يمكن النظر إلى مسألة (التحولات والقصة) نظرة خاصة, تتجاوز فكرة التأثير أحادي الجانب, إلى معاينة موقع القص القصير من ثقافة التأسيس عموماً. نظرة تعتبر القص القصير المكتوب، تحديداً, جزءاً من مجمل المستجدات التي صاحبت التحولات الثقافية والاجتماعية, من جهة تمثلها, وتمثيلها, والتعبير عنها؛ مما يجعله أيضاً, من أدوات التحليل الكاشفة لطبيعة التحولات ذاتها؛ لأنه أحد الأشكال التعبيرية الأساسية المتداخلة مع بنية التحولات, بقدر ما تأثر بها. وربما بدا الأمر أشبه بما تقوله الحكمة الصينية عن (المحيط بصفته مجموعة من القطرات). ومن تحليل خصائص القطرة, يمكننا التعرف على الكثير من خصائص المحيط, وبالذات غير المنظور منها.
عندما درس الدكتور منصور الحازمي قصص السبعينات الميلادية, سمى كتابها (الغرباء). وهي تسمية تحيل إلى دلالات متعددة, ذكر الحازمي عددا منها. والذي يهمنا هنا, دلالة واحدة, تتعلق بمناط الغربة عن السياق الاجتماعي؛ أي الإشارة الضمنية إلى مرحلة سابقة, تشكل فيها وجود اجتماعي متماسك, له ملامح خاصة, وخصائص فكرية وثقافية وسياسية واضحة المعالم, صار هؤلاء الكتاب الجدد غرباء عنه, بدليل تغير الخصائص التكوينية لقصصهم عمن سبقهم؛ مما يثير عدداً من الأسئلة:
- كيف تأسس ذلك الكل الاجتماعي المتجانس نسبيا؟
- وكيف كانت طبيعة ووظيفة القصة التي أنتجت خلال مسيرة تأسيسه؟ بصفتها الجنس التعبيري الذي بدأ مع مرحلة تأسيس الكيان, وصاحبها طيلة تشكلها, وعبّر عنها, علاوة على أنه أحد مصادر تاريخها.
الإجابة عن هذه الأسئلة تستلزم العودة إلى مرحلة التأسيس, ليس بهدف التأريخ لها, بل لمحاولة التعمق في مدى ارتباط خصائص القصة بظروف سياقها الخاص, وتأثير الحالة التي مثلت مجمل تلك المرحلة. تزامن نشر النصوص القصصية القصيرة مع قيام الدولة المحلية الحديثة, وما صاحب قيامها من ظهور الصحف والمجلات, فكانت القصة جزءاً من مادة الصحافة, بقدر ما ساهمت الأخيرة في انتشار القصة؛ بصفتها جنساً تعبيرياً جديداً, بدا منسجماً مع حالة (التأسيس لكل شيء) في الكيان الجديد, في وقت ظل فيه الشعر هو الشعر, حتى وهو ينشغل باستعادة ذاكرة الابتداع, من قبضة تقاليد الاتباع. ومن جانب آخر, افتقدت المقالة ما كان للخطابة الشفاهية من تأثير مباشر؛ حيث كانت تدخل إلى النفوس من بوابة الوجدان الثمل بسحر البيان, وفصاحة اللسان, وبلاغة اللغة, وجرس الألفاظ, ورنة السجع, التي يتصرف فيها الخطيب بملكة الإلقاء الشفهي, وما تتيحه من تغيير نبرة الصوت, فاستعان المقاليون عوضاً عن ذلك بتكنيك القص, على غرار ما كان يحدث في البلدان الأخرى؛ لينشأ جنس تعبيري هجين, سمي (المقال القصصي), حيث يلقي المقال بظله الثقيل على القصة, أكثر مما يمكن أن تتجلى فنيتها عبر صيغته المباشرة, ومع ذلك يظل المقال القصصي أحد تمظهرات القص القصير التي استدعتها الحاجة, آنذاك, وربما لاحقاً, خاصة أن العقبات التي واجهت مسيرة الكيان الجديد, جعلت مرحلة التأسيس تمتد حوالي ثلث قرن, بشهادة القصة.
وهذا المدى الزمني كفيل بإضفاء دلالات واضحة على نتائج الدراسات في هذا الخصوص, وإعطائها مصداقية أكبر, كما يدل في الوقت ذاته على بطء عملية الحراك الاجتماعي؛ فمن المعروف أن البلاد عانت من بعض الاضطرابات الداخلية, وتأثرت مثل غيرها بالحرب العالمية الثانية؛ حيث توقفت الصحافة, وتوقف تبعاً لذلك نشر القصص, والمقالات القصصية, وتوفي الملك المؤسس أثناء تلك المرحلة, وبدأت بعد ذلك هيكلية جديدة لإدارة البلاد, ظهر كأنها إعادة للتأسيس, بناء على الظروف المستجدة, ومنها تنامي بعض التيارات الفكرية والسياسية المتلاطمة في المنطقة, وبرزت أهمية وجوب المحافظة على الكيان الوطني, من خلال صيانة قيم التجانس بين أفراد الكل الاجتماعي, والحفاظ على الهوية الوطنية, وترسيخها. وكان القص القصير من أهم الأجناس التعبيرية المناسبة لطبيعة ومزاج المرحلة, والملخص لحاجاتها, والمؤشر إلى جزء معتبر من خصائصها؛ ولهذا كانت دلالاته الثقافية الخارجية أظهر وأهم من دلالاته الفنية الداخلية, وقام بما يشبه الوظيفة أو الدور الذي يؤديه القص الطويل أو (الرواية) في المرحلة الحالية, ولارتباط القص القصير بحالة عامة فإن دلالاته تتخطى نصوصه المجردة, إلى الحاجات التي عبر عنها, والجو الذي أشاعه, والأفق الذي دار خلاله. بدأ التلازم بين نصوص القص القصير ومرحلة التأسيس منذ وقت مبكر؛ فأول قصة نشرت في ذات العام الذي أعلن فيه توحيد أقاليم البلاد, باسم المملكة العربية السعودية, وسبقت الإعلان الرسمي بعشرين يوماً. أما المقالات القصصية فقد بدأت في الظهور قبل ذلك؛ مما يعني أن القص القصير لم ينفصل عن التحولات, منذ بدايتها؛ مما يؤكد أن فكرة النظر في موقعه من هذه التحولات ربما تثير جدلاً أقل من فكرة التأثير أحادي الجانب. كانت حالة التأسيس سائدة في كافة مجالات الحياة, وبالتالي في أغلب مناحي التعبير؛ وتجلت ثقافة التأسيس في القصص بصورة واضحة, يدعمها في ذلك ما سبق أن قيل عن أهمية الربط بين النثر عموماً وبناء الدول, بما يتيحه من بسط القول في قضايا (الإصلاح, ولمّ الشعث, وإحقاق الحق)، بما تستدخل هذه الثلاثية على التوالي من معاني البناء, والوحدة, وترسيخ القيم المشتركة, وكلها عوامل حاسمة في تأسيس الدول, واستمراريتها، خاصة إذا استذكرنا ما عناه الإمام مالك بن أنس بقوله: (القصة جند من جنود الله). وفي هذا السياق كانت حالة التأسيس العامة تضفي تأثيرها على حالات التأسيس التفصيلية؛ فالصحافة - مثلا - تستعين بالقصة في تأسيس قاعدة من القراء, بعقد المسابقات القصصية, أو طلب تكملة القصة من قِبل قرائها, فيما سمي (القصة الاستفتائية), أو استثمار فضول القارئ, بنشر بقية القصة في الأعداد التالية, بدون الاهتمام بمسألة وحدة الشعور والانطباع والتأثير. وبما أن الصحافة كانت هي المعبر الأكبر عن حالة التأسيس فإن القص القصير غدا واحداً من أهم أدواتها؛ ما يفسر الارتباط الوثيق بين الصحافة والقصة آنذاك؛ لأنهما يعبران عن حالة واحدة؛ فمن الأمور المصاحبة للتأسيس تبلور مفهوم المواطنة, ومفهوم الشعب. وصحيفة (البلاد السعودية) كانت تكتب تحت عنوانها عبارة: (صحيفة الشعب السعودي), وكانت القصة هي الشكل التعبيري المفتوح لأفراد الشعب, بخلاف الشعر الفصيح - مثلا - الذي دفعه الشعر الشعبي إلى دائرة المناسبات الرسمية المغلقة, أو التداول بين النخب القليلة, كما سبق أن قال عبد الله عبد الجبار في الصفحة الأولى من كتاب (التيارات الأدبية). وفي ظل حالة التأسيس دخل كثيرون إلى كتابة القصة من باب تأسيس الذات الفردية, والإعلان عنها, والإعلان في الوقت ذاته عن درجة عالية من انسجامها مع الكل الاجتماعي, الذي كان بدوره بحاجة إلى ترسيخ عملية تأسيسه, بالمحافظة على منظومة أدبياته وقيمه المتفق عليها؛ ولهذا فإن قضية الرقيب التي أثير حولها لغط كبير ما هي إلا مجرد تفصيلة صغيرة في خضم مقتضيات ثقافة التأسيس؛ فمن طبيعة الدول التي تنشأ في مجتمعات محافظة أنها تطلق الفردية من جانب, وتؤطرها من جانب آخر, بتغييب الفردية خارج إطار العرف والعادة, وإعادة استدخال الفرد في الكل الاجتماعي, ومن شذ فليس له مكان, خاصة في مواقع النفوذ والقرار, وهو ما انعكس على فرز أسماء كُتّاب القصة, الذين تولى أغلبهم فيما بعد مناصب الوزراء والسفراء والمديرين والأكاديميين, ورؤساء تحرير الصحف, وكأن القصة في العمق إنما تؤسس لكُتّابها, وليس العكس, كما يبدو في الظاهر, ولهذا اتضحت في القصص آثار مواثيق هذه الحالة من التأسيس المتبادل, على المستوى الفردي, والمستوى الاجتماعي. والظاهرة الأساسية, التي تلفت النظر في هذه المرحلة, وتؤكد المقدمات السابقة كثرة كُتّاب القصة الواحدة؛ حيث زادوا عن ثمانين كاتباً, من مجموع (150) كاتباً؛ أي ما نسبته حوالي (60%). وتميزوا بأن قصصهم تقدم الدلالة المباشرة على تمثيل حالة التأسيس, التي بدا أنها تؤلف القصص, أكثر مما تؤلفها ذوات متفردة, ولم يختلف عنهم كثيرا من كتبوا أكثر من قصة؛ لأن أسباب كتابتهم لعدة قصص أسباب تفصيلية, ولا يوجد عندهم فوارق جوهرية؛ مما يجعل كُتّاب القصة الواحدة بمثابة النقطة الكاشفة لطبيعة المرحلة, وطبيعة قصصها عموماً. وإذا تجاوزنا قلة من أصحاب الأسماء الأدبية، الذين ربما كانت كتابتهم للقصة الواحدة فرعا من نزعة الحضور الكتابي, مثل: أحمد محمد جمال, وسيف الدين عاشور, وعبد الله عبد الجبار, وأمين مدني, وسعيد بن فياض, ومحمد حسن عواد, وأحمد عبد الغفور عطار.. نجد أسماء أخرى تميزت ببروزها فيما بعد, في مناشط متفرقة, ومختلفة أحياناً, إلى درجة تثير الاستغراب, تشمل: المناصب الحكومية, والوظائف الأكاديمية, ومجالات الرياضة, والصحافة, والاقتصاد, والتجارة, والفنون التشكيلية.. إلخ. ولكن تربط بينهم جميعاً سمة واحدة, وهي خاصية الطموح الشخصي وتأسيس الذات, بواسطة دمجها في الحالة العامة للكيان الذي كان يتأسس. وجمعهم أيضاً ما يمكن أن يسمى تحديداً: (النزوع لفعل شيء ما في الحياة)؛ خاصة عندما نجد بينهم من عرف في مراحل لاحقة ببروزه في تلك المجالات المتباعدة, مثل: عبد العزيز السالم, وعبد الله الحصين, ومحمد سعيد طيب, ومدني بن حمد, وفهد العريفي, وأمين أبو الحسن, وفؤاد الأجهوري, وعبد الحليم رضوي, وأحمد زكي يماني, وهاشم عبده هاشم, ومنصور الحازمي, وتركي السديري, ومطلب النفيسة, وعبد الرحمن محمد السدحان, وناصر الصالح.
وبعض هذه الأسماء لا يزال موجوداً وفاعلاً حتى اليوم, في المجال الذي برز فيه, وإن كان قد توقف عن كتابة القصص؛ لأنه في ذلك الوقت كان محكوماً بمقتضيات ثقافة التأسيس, التي كانت تحيل جميع تفصيلات المرحلة, بما فيها القص القصير, إلى وقود يدفع بالأمور إلى الأمام, ومن الطبيعي أن يفقد الوقود كثيراً من خصائصه الداخلية أثناء عملية الاحتراق. ومن هنا غلبت هذه الدراسة مسمى (القص القصير) على (القصة القصيرة)؛ فمع أنهما يشتركان معا في المنظومة اللغوية, والمنظومة السردية, فإن الفرق يكمن في المرجعية؛ فالقص القصير ينتمي إلى الحكايا والتاريخ والنوادر والأخبار وأدب السياحة والرحلات والخواطر واللوحات والشكوى والرثاء والبوح والتحسر, والقصة القصيرة أهم مرجعياتها ثلاثية الفن والمنطق والمسرح أو المشهد الحي. وكانت القصص آنذاك أقرب إلى النمط الأول, ما عدا قصص معدودة, مثل قصص حمزة بوقري, مع ما فيها تقليد واضح للنماذج الكلاسيكية, أكثر من كونها نتيجة تطور نوعي داخلي, إضافة إلى غياب معتمد معتبر خاص بكاتبها, قياساً بقلة إنتاجه.
إذن كان الإعلان عن الذات الفردية يستبطن الطموح في أن يتأسس لها موقع مميز في العقد الاجتماعي الجديد آنذاك؛ مما انعكس على طبيعة القصص, وكانت القصة - في هذه الحالة - تعلن عن صاحبها, وليس العكس؛ إنه ذلك الفرق بين أن تقرأ قصة لكاتب معروف, أو أن تقرأ قصة أخرى لكاتب غير معروف؛ ففي الحالة الأولى, الكاتب يقدم القصة, وفي الحالة الثانية, القصة تقدم الكاتب. في الحالة الأولى الكاتب المعروف يعلن عن قصته الجديدة, وفي الحالة الثانية, القصة تعلن عن كاتبها الجديد, المعلن عن ذاته, من جهة, والمعلن عن التزامه بقيم الكل الاجتماعي, من جهة أخرى؛ فالقصة هنا لا تنفصل عن وعي المجموع, وبالتالي تسهم في تكريس تأسيس المجموع, وكل حالة من حالات التأسيس إنما تقوم على نوع من التعاضد؛ ولذلك فحين توصف القصة بطغيان أسلوب الوعظ عليها فإن المجتمع هو الواعظ الأول, ويقتصر دور الكاتب على الالتزام بما يتوقع منه, وعدم مخالفة السائد, بل تعزيزه, وتأكيده, مرة بعد مرة, ولو كان الوعظ هدف الكاتب لاستمر في كتابة القصص؛ لأن الوعظ يقوم على الإلحاح والتكرار, ولكن هدف الكاتب مختلف, وإن كانت النتيجة متشابهة. إذن الكاتب هنا يتسق مع متطلبات الحالة العامة, فيغلب الجانب الاجتماعي على الجانب الفني؛ بمعنى أنه (يركب الموجة), وبالتالي تمثل قصته المرحلة أدق تمثيل. والطموح ينبئ عنه صاحبه بمجرد وجود فرصة للنشر, يكتسب من خلالها تسجيل الحضور, وتقديم الولاء, وقد لا يهمه أن يعاودها. والذين كرروا القصص إنما كرروا التأكيد على الحضور والولاء, أكثر مما عكسوا تطوراً فنياً لقصصهم اللاحقة على قصصهم السابقة؛ ولهذا لا يختلف كُتّاب القصتين والثلاث والأربع, عن كتاب القصة الواحدة, في السمات والخصائص والأهداف. مثل: محمد عبده يماني, ومحمد عبد الله الحميد, ومحمد عبد الرحمن رمضان, وعبد الله أبو السمح, ومحمد عمر توفيق, وجميل الحجيلان. أما من نشروا قصصاً كثيرة نسبياً, فلم يخرجوا أيضاً عن ذات الدائرة, مضافاً إليها أسباب محددة, كالالتزام بتوفير مادة صحفية للصحف التي يعملون فيها, أو يرتبطون بها, في حالات مثل: أمين سالم رويحي (39) قصة, أغلبها نشر في البلاد السعودية والأضواء والرائد, وغالب أبو الفرج (25) قصة, معظمها نشر في البلاد السعودية, وعبد العزيز ساب (18) قصة, نشرت كلها في البلاد السعودية عدا قصة واحدة, ومحمد أمين يحيى (14) قصة, نشرت في صحف متنوعة, ومحمد عبد الله مليباري (12) قصة, معظمها نشر في صحيفتي حراء وقريش. الظاهرة الثانية, التي تمثل الحالة من جانب آخر, تتمثل في أن الشعراء أكثر مَن كتب القصص, وهم وحدهم أيضاً من أصدروا المجموعات القصصية. مثل: سعد البواردي (24) قصة, ومجموعة (شبح من فلسطين). وطاهر زمخشري (15) قصة. وعبد السلام هاشم حافظ (11) قصة, ومجموعة (قلوب كليمة). وحسين سرحان (7) قصص، وحسن القرشي (7) قصص, ومجموعة (أنات الساقية)، وإبراهيم هاشم فلالي (5) قصص, ومجموعة (مع الشيطان). والشعراء هنا, مثل بقية الأدباء الذين كتبوا قصة واحدة, أو أكثر من قصة, كانوا جميعهم مسكونين بتحقيق (الهوية الأدبية الخاصة), كجزء من تأسيس الهوية العامة للدولة الناشئة, في مقابل الهويات الأدبية الخاصة بالبلدان العربية الأخرى, وهي مسألة شغلت الأدباء عموماً, بداية من مقالة محمد سعيد العامودي المبكرة, التي دعا فيها إلى إدخال القصة في الأدب السعودي, ما دامت موجودة في آداب الأقطار الأخرى. على قاعدة (اجعل لنا ذات أنواط, كما لهم ذات أنواط)؛ ففي حالات تأسيس هوية جديدة تبدو الذات الفردية والجمعية مستعجلة دائماً, ومتلفتة إلى ما عند الآخرين, ومتلهفة إلى مجاراتهم فيه؛ لأنها في حاجة ملحة إلى استكمال بناء قواعد تأسيسها؛ مما يغلب سمات التقليد على سمات الاجتراح والإبداع والتجديد, التي ينتجها التراكم النوعي المتواصل, وهو ما لا يتوافر في مراحل التأسيس. ويؤيد ذلك أن الشعراء رغم كتابة الكثير من القصص لم يتحقق في قصصهم تطور فني ملحوظ, وكان المشترك الوحيد بين قصصهم وأشعارهم محصوراً في تكرار أساليبهم البلاغية, وجزالة ألفاظهم اللغوية؛ فبدت قصصهم من حيث البنية الفنية بمثابة القصة الواحدة المكررة.
يستنتج من هذا العرض, ومن خلال ثبات خصائص القص القصير وسماته, أن فترة التأسيس طالت, بعكس ما توحي به بعض الدراسات السياسية والتاريخية, أي أن مرحلة التأسيس, بشهادة القصة, لم تنته إلا في عام 1964م؛ بسبب المؤثرات والظروف التي سبقت هذا التاريخ؛ خاصة حين نعرف أن تأسيس الإنسان, يأخذ وقتاً أطول من تأسيس الأوطان، ولأن حالات التأسيس تتمثل في الفترات التي تسبق ظهور المؤسسات, أو اكتمال بنائها, وبالذات المؤسسات الغريبة عن مفاهيم المجتمع, فقد بدأ في نهاية هذه المرحلة ظهور بعض الأسماء الأنثوية في كتابة القصة, مثل: آمنة عبد الله, وسارة سليمان أبوحيمد, وفوزية حمزة غوث, ونثار حمزة, ونورة صالح الشملان. وكلهن واكبن بداية تأسيس تعليم البنات, وكن من العاملات فيه, مع أنهن لسن من مخرجاته المباشرة, وتعلمن إما في بيروت أو القاهرة أو الزبير. ولكن ظهورهن كان إيذاناً بانتهاء مرحلة التأسيس, وابتداء مرحلة أخرى مختلفة, هي مرحلة المؤسسات.
ويعزز ما سبق أن ذلك تزامن مع إنشاء مؤسسات أخرى, حكومية وأهلية, من أبرزها المؤسسات الصحفية, والاستعانة بخبراء من البنك الدولي لوضع خطة للتنمية الاقتصادية والإدارية, وتأسيس معهد الإدارة العامة, وتطوير نظام الموظفين العام.. وهكذا. والمعروف أن تحويل صحف الأدباء - مثلاً - إلى مؤسسات حديثة, تهتم بالخبر والصورة وصفحات الرياضة والفن الغنائي والسينمائي, غيّر بصفة جذرية طبيعة القصص المحايثة لها؛ مما مهّد لمرحلة تالية, لها أسئلتها الخاصة, وخصائصها المختلفة, تجلت فيما بعد في قصص (الغرباء).