Culture Magazine Monday  22/12/2008 G Issue 263
فضاءات
الأثنين 24 ,ذو الحجة 1429   العدد  263
 

الأسئلة الثقافية.. جيّدها ورديئها
لمياء باعشن

 

 

تبدأ الكاتبة المتميزة سهام القحطاني مقالها ( المنشور في العدد 262ا من الثقافية بتاريخ الاثنين 26 ,ذو القعدة 1429) بعنوان يحمل سؤالاً شيقاً وهو: (هل لدينا فلسفة للسؤال الثقافي؟!)، ولكنها تستهل المقال ذاته بمقولة بين قوسين تبدو وكأنها اقتباس يقرر أن: (السؤال الثقافي الرديء هو الذي يصنع الثورة الثقافية)!..

هكذا يظهر للقارئ أن المقال لن يحاول الإجابة عن السؤال المطروح في العنوان، وأن صيغته التشويقة لن تخدم أغراضه، وأننا لن نعرف حتى نهاية المقال إن كان لدينا فلسفة للسؤال الثقافي أم لا.

بل إن القارئ وبعد أن ينهي المقال سيكتشف أن النقاش الذي انطلق من مقولة البدء هذه سيعود إليها مخالفاً بذلك كل المحاذير التي تضعها الكاتبة من استخدام الأسئلة الجيدة، فهي تفرض مقولتها وتفرد لها مساراً محدداً لتثبتها، بل (لترفعها) إلى مقام التسليم بعد إسقاطها مقولة سابقة عن السؤال الجيد جاءت في كتاب (ثقافة الأسئلة) للدكتور عبد الله الغذامي. بدلاً عن التصدي للإجابة عن سؤال العنوان ينصرف الجدل إلى إثبات مقولة الاستهلال ومحاولة إقناع القارئ بزاوية نظر الكاتبة بخصوص أفضلية السؤال الثقافي الرديء على السؤال الثقافي الجيد، والتي تحاجج بها رأي الدكتور عبد الله الغذامي القائل بأن صناعة السؤال الثقافي تتطلب توفير خلفية فنية ومنطقية تمكنه من استجلاب جواب ثقافي عميق.

ترفض سهام القحطاني السؤال الجيد على أساس النتيجة التي يقود إليها، ففي منطقها هو سؤال تقريري تسييري يضمر إجاباته ويقود المسؤول (أي الشخص المتلقي للسؤال) على مسارات محددة إلى مناحي فكرية مقصودة. هذا النوع من الأسئلة تعتبره سهام (تشريع ديكتاتوري) فهو يحتوي على مؤامرة قصدها السيطرة على فكر المسؤول وينم عن خبث السائل وذلك بإيهامه المسؤول أنه توصل للإجابات بطريقته الخاصة بينما كان مُستغلاً ومُقاداً دون اختيار حقيقي. هذا هو (التحجيز) الذي تتلمسه الاستاذة سهام في فكرة تثقيف السؤال عند الغذامي وتعترض عليه بشدة لأنه يؤدي إلى الأحادية الفكرية، فيحنما لا نحيد عن الطريق الممهدة مسبقاً تتحول الأسئلة إلى حوائط وجدران حابسة لا تسمح بالتجاوز ولا التخطي، وبالتالي تختل اجتهادية البحث مما يؤدي إلى هيمنة القطب الواحد ومن ثم إلى تجميد (الخلية الوراثية للتجربة الثقافية).

وعلى ذلك فإن الأستاذة سهام ترجح طرح الأسئلة الرديئة كونها الأقدر على إنتاج الإشكاليات والجدليات التي يتولد عنها الكثير من الإستراتيجيات والاستنتاجات الثقافية المثيرة والمثرية. ولكن في غياب تعريف واضح لمفهوم الرداءة، لا بد أن نتساءل: ما هو المقصود بالسؤال الرديء؟ هل ترادف الرداءة السوء أو السخف أو السذاجة؟ لا أعتقد، وإلا تحول السؤال من إسقاط وترفيع اليقينيات إلى الحبو على أعتاب البديهيات. ما تطمح إليه الكاتبة هو السؤال الحر، وليس الحر بمعنى البدائي الفوضوي المنفلت من كل نظام، بل ذلك الذي يفتح على آفاق غير مطروقة، لذلك فهي ترفض استغلالات السلطة الفكرية التي تحرم العقل متعة الإثراء التأويلي، لكنها تضع للحرية قيوداً قائلة: (إن حرية التأويل أو التصرف في التحليل مقيدة بالحدود التاريخية للظاهرة). ورغم ذلك فإن سمات هذا السؤال تبقى هلامية، فكل ما نعرفه جيداً أنه نقيض للسؤال الجيد، لكن الفارق بينهما قائم – كما ذكرت سابقاً - على ناتجهما، فالجيد يخفق اجتهادية البحث ويعيق آليات التفكيك والتأويل لأن محتواه مغلق، بينما يوفر الردئ قاعدة شكية تهز السلم المعرفي وتعيد تشكيل اليقينيات ترفيعاً وإسقاطاً.

باعتقادي أن المرحلة السابقة لما ستفعله الأسئلة الجيدة والرديئة هي مرحلة إعداد وصياغة وتوجيه تلك الأسئلة، لكن الاستاذة سهام لا تتفق مع الدكتور الغذامي في الطريقة التي يقترحها لتثقيف السؤال، فهو يتمسك بضرورة توفير الخلفية الفنية والمنطقية في صناعة السؤال، بينما ترى هي أن هذا التمسك (يحول السؤال إلى مشكلة بنيوية تغيّب محتوى السؤال)، كما أنها ترفض إعطاء التشكيل البنيوي أي قيمة في تحديد صفات السؤال وإلا (تساوى مضمون السطح مع مضمون السقف)، كما تقول، أي تسطّح السؤال وتجرّد. نستطيع أن نستنتج إذاً أن ما يزعج الأستاذة سهام في طبيعة السؤال الجيد أمران: أن له خلفية منطقية، وأن له بناء شكلي محدد.

لكن فقرة لاحقة في المقال تربك هذا الاستنتاج، بل وتدفع بالسؤال الرديء إلى مدارات السؤال الجيد فيبدو أنهما يتشابهان أكثر مما يختلفان. تعتقد الأستاذة سهام أن مواصفات السؤال الرديء:

(تختلف وفق خلفياتها المفترضة، اختلاف يعود إلى طبيعة المحتوى وأثر الخلفية المستخدمة، أي التقنيات اللغوية في صياغة السؤال والمضامين والتغطية الفلسفية التي توفرها تلك الصياغة لإتاحة بواطن فكرية تنمو بالتقادم فوق جدار المضامين العامة، مما يُراكم محتوى التجربة الثقافية، ويسهل ممارسة تفكيك الخلية الوراثية للتجربة الثقافية ثم الثورة الثقافية، وذلكم الإثراء لا يتم إلا في ضوء اختلافنا في صياغة بنية السؤال والذي يترتب عليه تأويلاتنا للرؤى المختلفة التي نصنفها كإجابات)!!! مفردات هذه الفقرة (خلفيات مفترضة، الخلفية المستخدمة، التقنيات اللغوية، صياغة السؤال، التغطية الفلسفية، بنية السؤال) كلها توحي بأن للسؤال الرديء أيضاً خلفية منطقية وبناء شكلي. كأن الأستاذة سهام هي الأخرى تشترط للسؤال الرديء خلفية مفترضة ومستخدمة وتقنيات لغوية صياغية كتلك التي اشترطها الغذامي لسؤاله الجيد!!

ما الفرق إذاً؟ هل ينطلق أي من هذين السؤالين من نقطة الصفر؟ من البديهي أن توافر الخلفيات أمر حيوي وإلا قاد السؤال إلى متاهة لا عودة منها، وهي حرية التهلكة التي لا يطمح لها عاقل، لذلك تقول سهام أن تحرر السؤال الرديء من السلطة القامعة: (لا يُلغي وجود تصور مبدئيّ لخلفية الدليل العقلي تقوم عليه عمليتا الإسقاط والترفيع). الخلفيات ضرورة للإضافة والحذف، للترفيع والإسقاط، إذ إن هذه العمليات تستدعي غربلة اليقينيات حتى يعاد تصنيفها، فالعلم بالثوابت الثقافية ضروري لإذابة ثباتها. وتتفق سهام مع هذا المنطق قائلة أن السؤال الردئ يعمل كمحرك: (بحث أولي لبنى الجدلية.. يُعين على التعرف على تاريخ أفكار الجدلية، وهي معرفة مهمة لاستثمارها (كخلفيات تأويل) في عملية الإضافة والتحول التي يقودها الفعل التفكيكي كمرحلة لاحقة).

حسناً، ها قد رأينا أن للسؤالين خلفية، فهل يتميز أحدهما على الآخر من ناحية الصياغة الشكلية؟ إن الخلفية المنطقية تصب في محتوى السؤال فهي منطلقاته وأسسه التي تحدد مراحل ما بعد الصفر. لكن طريقة طرح السؤال هي التي تسبغ عليه صفة الذكاء، فالسؤال الذكي يظهر ويخفي في آن دون أن يقدّس أو يجهّل السائل أو المسؤول، سؤال يحمل مضامين المعلومات السابقة ويضعها كعلامات استرشاد بينما يترك مساحات إستيعاب المجهولات اللاحقة. السؤال الحر الذكي هو ذلك السؤال الذي أُحْسنت صياغته كي يؤدي غرضه.

وبهذا نصل إلى المنطقة الشائكة في المقال: الغرض. تفترض الأستاذة سهام أن السؤال الجيد، لأنه ينطلق من خلفية منطقية واهتمام بالبنية الشكلية، له قصدية مسبقة تهدف إلى تفريغ السؤال من حمولاته المفاهيمية. لكن السؤال الردئ، كما رأينا، ينطلق أيضاً من خلفيات ويهتم بالصياغة الفنية، فهل نفهم أن السؤال الرديء هو ذلك الذي تتوفر لدى سائله النية الحسنة والقصد النبيل؟ وهل تزول عنه صفة الرداءة أو تعتريه الجودة حسب الهدف المضمر لصاحبه؟ على أي أساس منطقي يمكننا أن نربط بين الرغبة في تثقيف السؤال بتحسين خلفيته وصياغته، وبين قصديته المتسلطة التي تستحضر إجابة رقمية لها صفة ثابتة؟ ما الذي يجعل السؤال الثقافي مجرد جدولة تتحكم فيها مقاييس الصواب والخطاً، وهل تداخل في ذهن الأستاذة سهام السؤال الثقافي الفكري مع السؤال المدرسي الموجه بشكل تربوي بحت؟ والأهم من كل هذا، هل يخلو السؤال الردئ تماماً من القصدية؟

ولا يسع القارئ إلا أن يتسآءل عن عنوان مقال الاستاذة سهام (هل لدينا فلسفة للسؤال الثقافي؟!)، وهو سؤال يبقى دون إجابة كما أسلفت، فهل نصنفه على أنه سؤال جيد أم ردئ؟ ثم إن كان القصد هو معيار الفصل بين رداءة السؤال وجودته، فما هو (الغرض) من هذا النمط القحطاني في عنونة المقالات؟ إن مقالات الأستاذة سهام لها عناوين تساؤلية، من مثل: هل عندنا مليشيات ثقافية؟ وهل المثقف السعودي دكتاتوري؟، لكنها في كثير من الأحيان تتبع السؤال بعنوان ثانوي أو مدخل يحدد مسار النقاش على شاكلة: هل استغلت الرواية أنوثة المرأة السعودية؟ (تحتاج المرأة إلى تأسيس قيمة معقلنة لجسدها)، هل سيصبح باراك أوباما الرئيس؟

(أمريكا بنية أعدت للبيض...هذا بلد للبيض وحدهم) - مالكوم إكس)، هل الملتقيات النقدية قادرة على الإصلاح الثقافي؟ (شدة الضجيج لا تزرع أذناً ثالثة)!، الاختلاف الطائفي، هل هو إثراء ثقافي أم فتنة اجتماعية؟ (- لا أحد يتعلم من التاريخ -!)، هل السبيّل على حق؟ (غلطة الشاطر بألف يا دكتور).!، و هل تستطيع المثقفة كتابة سيرتها الخاصة؟ (لا نكتب عن أنفسنا إلا إذا آمنا بها). كل هذه بالطبع أسئلة ثقافية، لكن توابعها في كل مقال تعمل ليس فقط على استحضار الجواب، بل تتعدى المُضْمر إلى المصرّح به وتضع نتيجة النقاش في المقدمة كحائط تحجيزي.

فهل تدافع الأستاذة سهام القحطاني عن السؤال الردئ ونفعيته، في حين أنها لا تثق إلا في السؤال الجيد وجدواه؟

وأبين ختاماً أن أسئلتي هذه، وغيرها كثير، هي في جوهرها أسئلة جيدة، أو ربما هي رديئة، فهدفي في طرحها نبيل والغرض منها ليس مهاجمة الأخت سهام القحطاني، أو الانحياز إلى طرف الدكت ور عبد الله الغذامي، لكن فكرة المقال أعجبتني حقاً فأردت وبنية حسنة أن أشارك في جدل قائم حول ملمح فكري محدد، وأن أنخرط مع كاتبة قديرة في جدل موضوعي أتمنى أن يستمر حتى نشبعه بحثاً وتأملاً.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة