Culture Magazine Monday  17/11/2008 G Issue 261
مراجعات
الأثنين 19 ,ذو القعدة 1429   العدد  261
 

استراحة داخل صومعة الفكر
فلسفة الحب
محمد مهدي الحمادي185 صفحة من القطع المتوسطسعد البواردي

 

 

كل شيء في كوننا وتكويننا له معنى.. وكل معنى في حياتنا له وظيفة.. وكل وظيفة وأدوات طرح لها فلسفة.. التعبير عنها عملية (تشريح لأبعادها الظاهرة والخفية.. منها ما يمكن إدراكه عن قرب.. ومنها ما يمكن استغراقه عن بعد.. ومنها ما هو غامض لا تفسره الكلمات.. ولا تقوى على إظهاره الأبيات.. ترى أين سنجد فلسفة حب شاعرنا وقد أعطى لديوانه عنواناً فلسفياً مقروناً بالحب؟

(حروف الحب) كما يتبادر إلى الذهن أربعة (أ. ل. ح. ب) تجاوزها إلى القصيد المشحون بكلمات الحلم والشوق.. والهجر.. كما يلجأ إليها أي شاعر بلغة (مشاعة) لا يجهد الذهن فهمها.

رأيتك حلماً داعب الروح بالهوى

وأيقظ أشعاري وحرك قلبيا

رأيتك أحلى صورة يا حبيبتي

إذا همس الصوت الجميل حبيبيا

لشوق بها يهفو إلى الموصل.. مناشداً إياها أن لا تغضب.. وأن لا تجهد قلبه الضعيف.. (مطالباً حبيبته) أن تسمعه حروف الحب..

وما عدت أقوى الهجر حتى دقائقا

وأعلم أني لست أقوى الثوابتا

فقولي حروف الحب لا تترددي

وأربعة قولي فقد ضاق كونيا

واستجابت على غير ما اعتاد عليه شعراء كثر يناشدون وينشدون.. وينشدون دون إجابة..

(أحبك) قالتها فضجت مشاعري

فزيدي عليها قبلة فوق خديا

من أحب من أعماق القلب لا يمن بقبلة.. ولكن لماذا العجلة وفي الوقت متسع. من شوق إلى آخر يأخذنا شاعرنا معه:

أراني أكتب الآهات قهرا

فيطربني الهوى رغم احترافي

أفتش في سكون الليل عنها

وأبحث عن سبيل للتلاقي

تأخذه متاهة الدرب يمنة ويسرة في بحث لاهث مكدود:

خذيني إنني ظمآن حب

ولا يطفي الظما إلاك ساقي

هذه المرة لم تجبه.. جمع أوراقه ووقف أمام آلة النجوى يعزف للقبلة سيمفونيتها:

أضم لصدري حبيب الفؤاد

وألثم ثغراً عليه اشتعال

فأسرع كيما أذوق الحياة

فنار المحبة تزجي النضال

فما عاد يبكي فؤاد جريح

ففاق التشوق كل احتمال

وعدنا وعدنا وما من هروب

إلى همس ثغر ينادي تعال

ملخص معركة دونها حرب النضال.. نعم النضال في ساحة الحب تماماً كالنضال في ساحة الحرب لها قتلى.. وأسرى.. ومصابين.. ومجانين!

نعود إلى فلسفة حب كما يراها:

نبض المشاعر في الأعماق تحيينا

وأحرف الحب طيف من أمانينا

بعض الحروف حوت آهات قصتنا

وبعضها يممت أحلام ماضينا

إن الهوى لغة في العمر خالدة

ولحنه نغم يحيي قوافيها

لو تدركين إذاً ما الحب يا لغتي

الحب كوثره ما زال يسقينا

قال هذا وأكثر عن الحب.. وفلسفة الحب.. وعذوبات الحب وليته أردف أيضاً عذابات الحب لأنها أيضاً قناة طرح مشتعلة (انتظار) محطة جديدة:

طال انتظاري والجحيم محاصري

وأنا أحدق في الطريق بناظري

والحب يسكنني وطيف ساحر

وأظن أن عبير عطرك ساحري

تتربعين حبيبتي في عالمي

بل كل أنسجتي وكل مشاعري

وأغار من نفسي إذا ضج الهوى

لكنما نفسي تعيبك فحاذري

طال انتظاري والمعاناة التي

تشتاق إن ترقى لطيف عابر

هكذا خيال الشاعر يفارق نفسه بنفسه حين تشتعل نار حبه.. ومع هذا يبقى مكانه يطعم معاناة الانتظار في تلذذ.. مفارقة.. (كبرياء) وحروف أربعة ذات نكهة متمردة على غير المألوف.

رميت الحزن والبلوى ورائي

وعاد الحب يجري في دمائي

وجفت دمعة في العين حرى

وصار الصمت من لحني غنائي

الشطر الأخير يحسن تعديله على النحو التالي: (وصار الصمت في لحني ونايي) اللحن والناي.. متوافقان صوتاً وأداة.

وجرحي لم يعد جرح الزرايا

ففي صدري جبال من إبائي

لقد مات الأسى بالرغم مني

وماتت لوعتي وهزمت دائي

ما دمت أنت رميت الحزن والبلوى وخلفتهما وراءك.. فلماذا موت الأسى بالرغم عنك؟ إن موته بإرادتك ورغبتك.. كل هذا الفأل.. وكل هذه الفرحة وما زالت معشوقة في عالم الغياب.. كيف به لو أنها ماثلة أمامه؟

رجائي أن أراها عن قريب

أيا ربي فحقق لي رجائي

غيرك أحب بالسماع دون رؤية في البيت الأول ومات أيضاً بالسماع دون رؤية في البيت الثاني.

يا أم عمرو رعاك الله صالحة

ردي علي فؤادي أينما كان

لقد ذهب الحمار بأم عمرو

فلا رجعت ولا رجع الحمار..

(رباعيات الخجل):

وطرقت بابي بعد كل تردد

تتحسسين مشاعري وعذابي

وعرفت أني سابح بمدامعي

فنطقت (كلا) فالمصاب مصابي

لو تدركين الحب يا نوارتي

أضنى فؤادي.. واستباح شبابي

مهلاً فإني في غرامي تائه

إني أحبك من سنا إعجابي

(سنا الإعجاب) الأنسب منه (مدى الإعجاب).. وفي كلّ صحة..

(حنين ما قبل الرحيل) يقول فيها:

أحبك يا حلمي ويا نبض خاطري

ويا قصة الأحلام يا أحرف الشعر

لقد تعبت روحي من الهجر والجفا

وما سئم التقبيل يا منيتي ثغري

تمرد قلبي واستراحت قصيدتي

وحتماً أراك الآن روحي التي تسري

تعالي فركب العمر ماض وقصتي

شعاع الهوى الوضاء في ظلمة الفجر

الفجر يا عزيزي رمز لانبزاغ النور ومقدم الضوء.. أحبذ أن تكون ظلمة الهجر.

شاعرنا لا يشبع من الحب.. كل أشعاره شعور بالهوى.. والجوى.. والشكوى والقليل القليل من الرضى.. هذه المرة مع (الضياع):

حاولت أن أحيا الغرام بقربها

لكنني أسفا بقيت بوحدتي

كم لحظة عشت الحياة بحبها

حتى نسيت مع المحبة غربتي

لكنه حظي الرديء أذلني

ووقفت أبحث ها هنا عن عزتي

لكنها ضاعت وقلبي هائم

وجلست أكتب في الضياع حكايتي

الحظ الرديء أشبه بالحب الرديء المذل.. كرامة الحب أن تظل عزيزاً حتى درجة التضحية المُرة.. لا حب دون عزة نفس وكرامة حس.. ولكن ماذا يبقى للشعراء إن هم عاشوا حباً لا تنكر فيه.. ولا تذكر لهوانه وهجرانه؟

أخشى على مركب سفرنا الغرق في بحر الحب.. فمن موجة مد إلى موجة جزر.. لا شاطئ يقربنا منه ويبعدنا عن آهاته وأناته..

(الحب أنت)..

أمسى غرامك يجري في عروق دمي

والقلب رغم الأسى ما زال يهواك

يا من سرى حبها في كل أنسجتي

ما كان ذاك الهوى والحب لولاك

أضحى اللقاء هنا شعري وأغنيتي

ما أجمل الحب في واحات دنياك

وقفت أرقب في مرآك قافية

وحار فكري الذي أعياه مرآك

لست وحدك الذي حار فكره لكثرة غزواتك الوجدانية دون كلل ولا ملل.. ومع هذا لا نملك معك إلا التحمل.. إلا (إذا).

إذا ما القيد أثقلني

وصار الحزن مفترسي

وأبكتني جراحاتي

وحار الكون في بؤسي

عزفت هواك أغنية

وصغت الشعر من بأسي

جميل أن تلجأ من همومك إلى إيقاعات شعرك الواثق.. المختصر على بؤسك.. البأس في الحب أمضى من اليأس فيه.

نتجاوز الكثير من محطات حبه المتناثرة كالجزر الصغيرة في محيط الغرام.. ونقترب من مشهد غير مألوف:

(مزقيها، مزقيني)..

مزقيها.. مزقي روحي تسكن في أوشال ذاتي

مزقي الصمت الذي يجتاح قلبي

كلما دوت على لقياك حبا أغنياتي

مزقي الوهم الذي يغتال تمثالاً بريئاً

مزقي الهم الذي يغتال أحلى ذكرياتي

لماذا كل هذا الصلف والعناد؟

أنت أحلامي الذي أبحث عنها فمشت نحوك

يا قافية الشعر سريعاً خطواتي

مزقيها ثم إن شئت فعودي مزقيني

فأنا من قرر الحب..

وما طعم غرام سوف يهوي للمحات..

نعم بيده.. لا بيدها قرر إسدال الستار على مشهد لا يروق له.. ومع هذا الذي يشنف أسماعنا بمعزوفته الخرساء..

وبقيت الآن وعدي وحروفي متعبات

وابتساماتي أنين وأغانيَّ عذاب

لست أدري ما دهاني فالرزايا دمرتني

وشجوني أرقتني واعتراني الاكتئاب

ويتساءل في غمرة أحزان:

أكتب الشعر لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟

يخاطبها: وهي المتمردة لا هو:

اكتبي أي كلام! ابعثي أي جواب!

فخذيني.. إنني ما عدت أقوى..

واعزفيني مرة أخرى وأخرى

فأنا أشعر أني صورة للاغتراب

هذه معزوفة خرساء لا ألحان فيها فاسمعيها فأنا معزوفة خرساء لا ألحان فيها.. كيف لها يا عزيزي سماع معزوفة خرساء لا لحن فيها ولا وتر معها.. الشفرة هنا لا تنقل المشاعر الصامتة إلا إذا كانت بمعايير أبي الطيب المتنبي حين قال:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

حتى هذا لا يصدق!

(أريد أن):

حبيبتي أريد أن اطارح الزمن

أريد أن أحطم الساعات

أريد أن أكسر الصمت الذي يغتالني وأسقط الوثن

فلم تعد تتعبني توافد الأشياء

ولم أعد أهتم يا حبيبتي بالموت والفناء

الموت والفناء وجهان لعملة واحدة أحس بأن الأقرب إلى السباق (الموت والبقاء) حتى وإن خاط لي الزمن ملامح الكفن.

الملامح لا تخاط وإنما ترسم وتصور.. حسنا لو أبدل الملامح (بأنسجة) أو (بأقمشة) الكفن..

فإني أدركت يا حبيبتي أنك لي وطن..

هذا يكفي لأن تضحي بكل الأشياء من أجلها.. الوطن الحب.. والوطن التراب.. ولاء وانتماء.

شاعرنا أعطى لنا درساً في الحب.. ماهي أدبياته ومفرداته؟!

بيد أوراق الدفاتر كنت لي صورة عشق

رسمتها كلماتي.. نبض شعري والخواطر

كان أستاذي قوياً..

وأنا بالرغم من ذاك كتبت الشعر يا أغلى المشاعر

وخرجت الآن من بوتقة الدرس

وقد صرت بقاموس الضمائر

أنا في واد سحيق إنما سافرت طوعاً

لأراضيك.. وكم في الحلم مسافر.

تعب الأستاذ من شرح دروس

وأنا ما تعبت كفي برغم أن جرحي اليوم غائر

اسكني في مفرداتي وانهلي من بحر شعري

واقتلي كل الكبائر

لعل درسه كان من أجمل ما أعطاه.. وما استوحاه من مدرسة شعره ومشاعره..

أخيراً إلى أميرته الفاتنة.. وكل فارسات قلبه فاتنات رغم اختلاف المواقف والنهايات:

حبيبتي إن الهوى يقتلني فهل إلى رؤياك من طريق؟

إني هنا منذ زمان حائر في وحدتي

الشوق قد حاصرني وصوت في بحر اللظى يا منيتي غريق

والشعر يحكي في دمي أشجان قصتي

فهاك من معنى الهوى صبابتي إن الهوى يقتلني

فهل إلى رؤياك من طريق؟!

فاتنته لم ترد.. ربما لأنها لم تسمع.. وربما سمعت واختارت الصمت.. ومع هذا بقي شاعرنا العربي محمد مهدي الحمادي في صراع مشبوب مع الحب لا تنطفئ له جذوة.. لعله من القلائل الذين أفرغوا ديواناً بكامله من ألفه إلى يائه عن الحب وما أدراك ما الحب.. بقيت لي ملاحظة عابرة على العنوان (فلسفة الحب).. الفلسفة يا عزيزتي أكثر عمقاً.. وأعمق تصوراً من مجرد توصيف لمواقف عاطفية توظف فيها المفردات.. الفلسفة غوص في أعماق الرؤية التحليلية للأشياء المبطنة وكشفها من خلال زوايا استنباطية تضيف دلالات جديدة غير مطروحة وأحسب أن أنسب عنوان لديوانه (رحلة حب) أو (من حب إلى حب) أو أي عنوان آخر.. أخيراً الشكر لشاعرنا على تجارب حبه التي منحتنا جميعاً فرصة القراءة.. وفرصة الإبحار في محيط حب لا ينتهي.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة