Culture Magazine Monday  17/11/2008 G Issue 261
فضاءات
الأثنين 19 ,ذو القعدة 1429   العدد  261
 

الشاعر حميد سعيد في ديوانه:
(مشهد مختلف).. ورماد من حرائق العراق
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

رغم كثرة الشعراء الذين يتوالدون بشكل عجيب في الساحة الأدبية، ورغم أطنان القصائد وأكداس الدواوين، فإن الشعر غائب. كأنه العملة النادرة التي من الصعب العثور عليها.

وهناك أسماء شعرية عربية وبمعزل عن التكريس الذي حظيت به فإنها تظل الأقرب إلى الناس وإلى متذوقي الشعر. والأسماء هذه تتوزع على كل البلدان العربية مشرقاً ومغرباً.

وعندما يذكر الشعر العراقي المعاصر وتتم قراءة مدونته بحيادية منصفة وبخاصة في فترة ما بعد الرواد، فإن أسماء شعراء من طراز سامي مهدي وحميد سعيد وحسب الشيخ جعفر، وأسماء لاحقة أمثال خزعل الماجدي وفاروق يوسف وموفق محمد وآخرين هي التي تؤثث المشهد وتثريه.

ولكن الظروف الصعبة التي امتحن بها العراق والعراقيون أنست البعض من الدارسين أن السياسي طارئ وعابر وأن الإبداع المتميز هو وحده الباقي.

أقول أنست مفترضاً حسن النية لأنني مؤمن بأن الانتماء حق شخصي ومشروع يتحمل مسؤوليته الشاعر وحده، ولكن المهم إلى أي حدّ استطاع هذا الشاعر أن يكون أميناً للشعر.

هنا أتذكر شاعر داغستان العظيم رسول حمزاتوف الذي كان عضواً في مجلس السوفييت الأعلى -أي أكبر من أي منصب سياسي في بلده داغستان- قد قام بزيارة لمسقط رأسه. وطلب من مضيفيه أن يبرمجوا في زيارته قراءات شعرية لشعراء شبان. وهذا ما حصل. وبعد أن انتهوا قال لمن جاؤوا بهم: هؤلاء شيوعيون وليسوا شعراء.

أي أن الشعر أكبر من الأيديولوجيا. هكذا يجب أن يكون ليصح أن نطلق عليه هذه الصفة الاستثنائية (شعر).

وبين يدي آخر إصدارات الصديق الشاعر العراقي المعروف حميد سعيد الذي لم يتوقف عن كتابة الشعر بعد الذي جرى والذي كان لوطنه واضطراره إلى التحول إلى عمّان العاصمة الأردنية منذ عام 2003 ومنها أصدر عام 2005 ديوانه (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد)، منشورات دار أزمنة، ومنها كذلك وعن الدار نفسها أصدر هذا العام ديوانه (مشهد مختلف) برسوم وغلاف لأحد أهم الفنانين العراقيين المعاصرين محمد مهر الدين. وعلى الرغم من الشعر الكثير الذي كتب في العراق بعد 2003 إلا أن هناك شعراء كانوا الأكثر تميزاً والأكثر أمانة والأكثر صدقاً وأذكر منهم تحديداً أسماء عبدالرزاق عبدالواحد، سعدي يوسف، سامي مهدي. وحميد سعيد.

يضم (مشهد مختلف) سبع قصائد طويلة، كلها من العراق وعنه، وأقولها بدون تحفظ أن لا أحد يقرأ هذه القصائد إلا وبكى العراق، العراق الرمز الأثير والمتجدد. فالأنظمة السياسية تتعاقب عليه وتمضي، ولكنه كان يواصل دوره ومكانته، حتى بعد تدمير المغول لعاصمته، ثم خضوعه للاحتلال التركي الطويل.

وكان العراق يواصل إنجاب الكبار في شتّى مجالات العلم والمعرفة والإبداع.

نعم، هذا ما أحسسته بعد قراءتي لهذا الديوان المتكامل، إذ إن كل قصيدة فيه تستكمل الأخرى مثل قصيدة (ما يشبه الخراب.. بل هو الخراب) أو (رسالة اعتذار إلى أبي جعفر المنصور)، أو (بستان قريش).

تلح على الشاعر لغة الفن التشكيلي في قصيدته (ما يشبه الخراب بل هو الخراب) إذ يستحضر المشهد الماثل من خلال (صورة قديمة) كما يصفها. وهي صورة يقول عنها:

(كما ترى في صورة قديمة

ما كنت قد شاهدته من قبل

أو ما لم تكن شاهدت)

هي صورة كابوسية أيضاً، مزيج من الماثل والمتخيل.

وفي قصيدة (مقامات بغدادية) هناك رسام ولوحة. وهناك كذلك صوت منشد بمقام بغدادي يقول:

(يقف الرسام أمام مربع لوحته

يدفع عنها الأبيض الخطوط متشابكة وبألوان متداخلة ويشكّل منها ما يتخيله فردوس طفولته..)

وهكذا تنثال الصور من خلال اللوحة التي عبأها بالروح العراقية. غناء شعبياً وأمثالاً وأسماء.

يقول:

(رماد يغتصب الأوان

لخيل اللوحة)

ويلحّ (الرماد) على الشاعر في قصيدته (ربما نلتقي بزمان جميل):

(رمدٌ ورماد

رمدٌ ورماد

رمدٌ

ورماد

هو حال البلاد

رمد ليلها ورماد

ونهاراتها رمد ورماد)

وفي القصيدة يذكر اسمي شاعرين عراقيين عندما يستقرئ ما يجري، يقول:

(أبله

هو الشاعر في مدن يُقتل الناس فيها

بجريرة أسمائهم

فلمن يكتب الشعر؟

لا وقت عندي لتغيير اسمي

ولا القلب يسعفني

لأخاطب أصحاب الشعراء بأسماء أخرى

هل اسمي سعدي بن يوسف أو اسمي سامي بن مهدي بغير اسميهما؟!)

وبين أجمل قصائد الديوان وأثراها قصيدة (بستان قريش) وأود أن أشير هنا إلى أن مرجعية حميد سعيد ورموزه غالباً تراثية فهو متشبع بالإرث العربي والإسلامي وبخاصة العراقي منه، وهنا اختلافه عن مجايله الشاعر سامي مهدي مثلاً.

وتتوفر في قصيدة (بستان قريش) غنائية عالية وفي هذا المقطع منها مثال:

(اقتربي.. يا من كنت معي لأكون

اقتربي.. يا من كنت معي حيث أكون

اقتربي.. سأكون

اقتربي.. يتعافى الرمل وتغزله جنات وعيون

اقتربي تبعث ليلى.. ويعود العقل إلى الجنون)

وكأن هذه الغنائية استراحة في لهاث الوجد واختلاجة اليقين وغثيان الألم الدفين.

وأقول في استنتاج أخير إن الشعر العراقي المكتوب بعد 2003 هو ترمومتر الضمير وسط المواقف التي تزداد عنفاً ومحْقاً.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902»ثم أرسلها إلى الكود 82244

تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة