Culture Magazine Monday  17/11/2008 G Issue 261
فضاءات
الأثنين 19 ,ذو القعدة 1429   العدد  261
 

الباثيوس
د.شهلا العجيلي

 

 

(وبعثتُ إلى الجحيم بأكاليل الشهداء،

وأنوار الفنّ، وزهوّ المخترعين،

وحُميّة النهابين،

ورجعت إلى الشرق..

إلى الحكمة الأولى السرمديّة)

آرثر رامبو

لاشكّ في أنّ النصّ الفنيّ المتفوّق، هو الذي نكون بعد قراءته، غير ما كنّا قبل قراءته. هو النصّ الذي نتفاعل معه ويغيّر فينا. ولعلّ علاقتنا، بوصفنا متلقّين، ببعض النصوص تشبه كثيراً حالة الحب، إذ نبقى بعد قراءتها مأخوذين، نقطع علاقتنا بالعالم الخارجيّ، لا نخرج من البيت، لا نكلّم أحداً، فقط نعيد استحضار الحكايات، أو الصور، أو العلاقات...

إلى أن تحدث خيانة مع نصّ آخر!

كثيراً ما يتساءل المرء عن السبب وراء السطوة الآسرة لمثل تلك النصوص، وقد حاول النقد الحديث أن يبحث عن ذلك السبب في دراسة الأغراض، أو العلاقة بالواقع، أو العلاقة بين الشكل والمضمون، ولعلّ الذين قاربوا المسألة أكثر تكلّموا على الشعريّة.

لكنّ قدماء البلاغيين تمكّنوا من الإجابة عن ذلك، منذ القرن الأول للميلاد، إذ أدركوا أنّ السبب يكمن في (الباثيوس) الذي هو روح العمل الفنيّ.

يعيش (الباثيوس) في روع المبدع، متحرّراً من كلّ علاقة محدّدة بالواقع. إنّ (الباثيوس) هو قوّة الحياة في الإنسان، هو الحسّ الملهم، والاندفاع العاطفيّ الذي يدمّر، ويمحو صور العالم العاديّ المدرك بالحواس، فتبحث الروح السامية المبتهجة الحرّة بفضله عن عالمها الخاص وتخلقه. إنّ موضوعة (الباثيوس) تلك، وصلتنا في القرن الثالث الميلاديّ عن طريق مقالة (السامي) المنسوبة إلى (كاسيوس لونجينوس) اللغويّ والبلاغيّ.

إذ يُدخل (الباثيوس) النصوص المُبدَعة في مفهوم جمالي هو مفهوم (السامي)، الذي تعلّق باللغة أوّلاًً، ثمّ انتابه تطوّر دلاليّ ربطه بالأشخاص، أو الأخلاق.

غاب مفهوم (السامي) عن النقد الأدبيّ طويلاً، إذ لم يلتفت نقّاد الأدب منذ زمن إلى علم الجمال، الذي ربطوه بالفلسفة، وخصّوه بها، على الرغم من أنّ هذه الموضوعة الهامّة هي أصل نظريّة العبقريّة التي ظهرت عند علماء الجمال، ذوي الاتجاه الأفلاطوني في العصر الحديث.

إنّ الذين يعملون اليوم في حقل الطاقة من حيث علاقتها بالإنسان، يستطيعون أن يقاربوا بين (الباثيوس) وبين تلك الطاقة التي يمتلكها بعض الناس، ومنهم بعض المبدعين.

تشكّل قوّة (الباثيوس) المتغلغلة في العمل الفنيّ بالنسبة للمبدع معاناة حقيقيّة شبيهة بإلهام الأنبياء، الذين لا ينطقون إلا بما يوحى إليهم، وحيث أنّها أشبه بالقوى الغيبيّة، فقد راح الناس يبحثون عنها في الشرق، إذ لم يعد من سلوى للبشر بعد انقضاء زمن الروحانيّات سوى البحث عن آثارها حيث نشأت. ولعلّ السبب وراء رحيل مبدعي أوربة وأمريكا إلى الشرق هو البحث عن (الباثيوس) الذي نجده عند لامارتين ورامبو كما نجده عند باولو كويلّو.

نحن اليوم في حاجة قصوى إلى مفاهيم الجميل، والجليل، والسامي، وذلك من أجل أن نستعيد قوّة (الباثيوس) فينا، أو نقاربها، أو نتمتّع بها عند من يمتلكونها على أقلّ تقدير، لترجع إلينا قوة الإنسان الملهمة، وتحدّ من تشتت العالم في دواخلنا، ومن انهيار فن الكلمة، ومن ضآلتنا أمام سطوة الآخرين وأشيائهم.

أعرف أنّ مصادر (الباثيوس) ليست كثيرة، لكنني أعرف أيضا بعض الحالات التي يمكن فيها لشخص واحد، مؤلّف من ثقافات الشرق، أن يغمرنا بالحب، فيلقي في روعنا الباثيوس!

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة